الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/04/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : حقيقة العلم الاجمالي                    
كان كلامنا في حقيقة العلم الاجمالي وانه فرق بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي، وذكرنا ان في حقيقة العلم الاجمالي اتجاهات وتفسيرات:
الاول : ما ذكره المحقق الخراساني (قده) في مبحث الواجب التخييري من ان الوجوب في الواجب التخييري متعلق بالفرد المردد ولا مانع من ذلك وعلل ذلك بان الوجوب امر اعتباري فلا مانع من تعلقه بالفرد المردد، بل ذكر انه لا مانع من تعلق الصفة الحقيقية بالفرد المردد كالعلم الاجمالي فان العلم صفة حقيقية ومع ذلك لا مانع من تعلقه بالفرد المردد [1].
وما ذكره (قده) غير تام وغير دقيق لأن الفرد المردد لا يعقل وجوده في الخارج ولا في عالم النفس ولا في عالم الاعتبار ولا في عالم اللوح، ففي أي وعاء لا يتصور الفرد المردد سواء أ كان في وعاء الخارج ام في وعاء الذهن ام في وعاء الاعتبار او في لوح الواقع، ففي جميع ذلك لا يعقل وجود الفرد المردد أي لا يعقل ان يكون زيد موجودا في الخارج ووجوده مرددا بين وجود نفسه ووجود غيره، او اذا تصور الانسان شيء في الخارج وهذا التصور وجود ذهني مرددا بين تصوره وتصور غيره فهو غير معقول، وكذلك الحال في عالم الاعتبار فان المولى اذا اعتبر شيئا فلا يعقل ان يكون مرددا بين اعتباره واعتبار غيره، فالفرد المردد غير معقول حتى يتعلق به العلم او يتعلق به الوجوب .
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم انه لا مانع من تعلق العلم بالفرد المردد ومعنى ذلك انه تعلق بكل من الفردين في الخارج او الافراد بحده الفردي ولكن مرددا بين هذا الفرد وذاك الفرد.
وهذ خلاف الوجدان والضرورة فان متعلق العلم الاجمالي عنوان احدهما لا الفرد بحده الفردي أي لا هذا الفرد ولا ذاك الفرد، فاذا علم المكلف بنجاسة احد الاناءين احدهما ابيض والاخر اسود فلا يكون العلم الاجمالي متعلقا بنجاسة الاناء الابيض بحده الفردي ولا بنجاسة الاناء الاسود بحده الفردي مرددا بينهما فانه خلاف الضرورة والوجدان فان العلم الاجمالي متعلق بالجامع الانتزاعي وهو عنوان احدهما .
ولعل مراد صاحب الكفاية (قده) من تعلق الوجوب في الواجب التخييري  بالفرد المردد مفهوم احد هذه الافراد وان كان هذا خلاف الظاهر ولكن لا بد من حمل كلامه على ذلك والا فهو غير معقول .
فالنتيجة انه لا يمكن تعلق الامر الحقيقي او الاعتباري بالفرد المردد .
الثاني : ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني (قده) ومنهم السيد الاستاذ(قده) من ان متعلق العلم الاجمالي الجامع الانتزاعي بحده الجامعي وشيء من خصوصيات الافراد غير مأخوذ في متعلق العلم الاجمالي فالعلم متعلق بالجامع الانتزاعي وهو عنوان احدهما او احدها بحده الجامعي، ولهذا يكون العلم الاجمالي بالنسبة الى متعلقه علم تفصيلي وليس فيه شائبة من الاجمال والجهل والشك، والاجمال والشك انما هو في مرحلة التطبيق أي في الفرد الخارجي ولا يعلم المكلف ان النجس هو الاناء الابيض او الاناء الاسود، ولا فرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي من حيث المتعلق فكما ان متعلق العلم التفصيلي معلوم تفصيلا وكذلك متعلق العلم الاجمالي معلوم تفصيلا والفرق بينهما في الخارج لا في افق الذهن فان المعلوم بالعرض بالعلم التفصيلي ايضا معلوم واما المعلوم بالعرض في العلم الاجمالي فهو مردد وغير معلوم ومجمل فمن اجل ذلك سمي هذا العلم بالعلم الاجمالي، وسمي العلم التفصيلي بذلك باعتبار ان المعلوم بالذات مطابق مع المعلوم بالعرض حرفيا أي تمام خصوصيات المعلوم بالعرض مأخوذة في متعلق العلم التفصيلي أي في المعلوم بالذات بينما الامر ليس كذلك في العلم الاجمالي فان فيه خصوصيات المعلوم بالعرض غير مأخوذة في المعلوم بالذات فان المعلوم بالعرض الافراد الخارجية وشيء من خصوصياتها غير مأخوذة في متعلق العلم الاجمالي، لأن متعلق العلم الاجمالي الجامع بحده الجامعي وهذا الجامع  بوصفه العنواني لا موطن له الا الذهن ولا يتعدى من الذهن الى الخارج ولا واقع موضوعي له في الخارج وقد برهن ذلك بأمرين :
الاول : انه لو كان لمتعلق العلم الاجمالي واقع في الخارج فما هو الواقع في الموارد التي لا تعين للواقع ؟  كما اذا علم اجمالا بنجاسة احد الاناءين بملاقاة البول وفرضنا ان الاناء الاخر ايضا نجس بملاقاة البول فكلا الاناءين نجس بملاقاة البول غاية الامر ان نجاسة احدهما معلومة ونجاسة الاخر غير معلومة ففي مثل ذلك ما هو مصداق متعلق العلم الاجمالي، فالمعلوم بالإجمال كما لا ينطبق على هذا الاناء لا ينطبق على الاناء الثاني ايضا فاذا فرضنا ان هنا اناءين احدهما شرقي والاخر غربي فكلا الاناءين متنجس بملاقاة البول والمكلف يعلم اجمالا بنجاسة احدهما، والمعلوم بالإجمال لا ينطبق على شيء منهما لا على الاناء الشرقي ولا على الاناء الغربي لأمرين :
الاول : انه لو انطبق على الاناء الشرقي لَانقلب العلم الاجمالي الى تفصيلي وهذا خلف، اذ لازم هذا الانطباق ان حد الفرد وخصوصيته مأخوذة في متعلق العلم الاجمالي في افق الذهن، فاذا كان حد الفرد وخصوصيته مأخوذة في تعلق العلم الاجمالي لكان علما تفصيليا فان العلم التفصيلي المعلوم به مطابق للمعلوم بالعرض في تمام الخصوصيات فان تمام خصوصيات المعلوم بالعرض مأخوذ في متعلق العلم التفصيلي فعندئذ لو انطبق المعلوم بالإجمال في المقام وهو نجاسة احد الاناءين،فلو انطبق المعلوم بالإجمال على الاناء الشرقي لَانقلب المعلوم بالإجمال الى علم تفصيلي، لأن معنى هذا الانطباق ان خصوصية الاناء الشرقي مأخوذة في متعلق العلم الاجمالي في افق الذهن وعليه فينقلب العلم الاجمالي الى علم تفصيلي وهو خلف .
الثاني : ان انطباق المعلوم بالإجمال على نجاسة احد الاناءين معينا لفرض ان كلا الاناءين نجس بملاقاة البول، لكن المعلوم بالإجمال انطباقه على نجاسة الاناء الشرقي معينا خلاف الضرورة والوجدان فإن المعلوم بالإجمال هو الجامع أي عنوان احدهما وهذا الجامع لا موطن له الا الذهن فان صورة الجامع موجودة في الذهن وهي لا تنطبق على الخارج، وكذلك انطباقه على نجاسة الاناء الغربي معينا، وانطباقه على نجاسة كلا الاناءين ايضا كذلك لأن المعلوم بالإجمال نجاسة احدهما  لا نجاسة كليهما .
ومن هنا يظهر انه لا واقع موضوعي للمعلوم بالإجمال حتى في علم الله تعالى وتقدس لا الاناء الشرقي ولا الاناء الغربي ولا نجاسة كلا الاناءين فليس للمعلوم بالإجمال واقع موضوعي اذ هو الجامع العنواني ولا موطن له الا عالم الذهن فلا ينطبق على ما في الخارج وليس له واقع موضوعي .
ومن هنا اذا علم الانسان بسبب او بآخر ان النجس هو الاناء الشرقي فلا يمكن القول بان نجاسته معلومة بالإجمال فانه خلاف الضرورة لأن نجاسة الاناء الشرقي ليست معلومة بالإجمال او علم بسبب او بآخر نجاسة الاناء الغربي فلا يمكن القول بان نجاسته هي المعلومة بالإجمال،وعليه فلا واقع موضوعي للمعلوم بالإجمال ولا موطن له الا الذهن .
فالنتيجة : ان ما ذكره المحقق النائيني والسيد الاستاذ (قدهما) من ان متعلق العلم الاجمالي الجامع العنواني الانتزاعي ولا موطن له الا الذهن ولا واقع موضوعي له في الخارج[2].
البرهان الثاني : ما ذكره المحقق الاصفهاني (قده) من ان في متعلق العلم الاجمالي احتمالات :
الاول : انه لا متعلق له .
الثاني : ان متعلقه الفرد المعين .
الثالث : ان متعلقه الفرد المردد .
الرابع : انه الجامع العنواني الانتزاعي وهو عنوان احدهما .
والاول باطل لأن العلم لا يمكن تحققه بدون المتعلق، والثاني خلف لأن متعلقه لو كان فردا معينا فهو علم تفصيلي، واما الثالث فهو ايضا غير معقول فلأن الفرد المردد في الخارج غير معقول، فيتعين الاحتمال الرابع وهو عنوان احدهما المنتزع ولا موطن له الا الذهن ولا واقع موضعي له في الخارج [3].
فالنتيجة : ان متعلق العلم الاجمالي على ضوء مدرسة المحقق النائيني والمحقق الاصفاهني (قدهما) ان المعلوم بالاجمال هو الجامع العنواني بحده الجامغي ولا مووطن له الا الذهن ولا واقع موضوعي له


[1] كفاية الاصول، المحقق الخراساني، ص141.
[2]  محاضرات في اصول الفقه، تقرير بحث السيد الخوئي للشيخ الفياض، ج2، ص6.
[3] نهاية الدراية، المحقق الاصفهاني، ج3، ص93.