الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/04/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : وجوب الموافقة الالتزامية
وجوب الموافقة القطعية اذا كان بحكم العقل كما ان وجوب الموافقة العملية بحكم العقل، فالموضوع لوجوب الالتزام حينئذ في موارد العلم الاجمالي هو المعلوم بالإجمال بوصفه العنواني الذي لا وعاء له الا في عالم الذهن، فإن المعلوم انما هو الجامع بحده الجامعي وهو الواصل الى المكلف واما الخصوصية الزائدة على الجامع فهي غير واصلة اليه .
فإذاً الموضوع لوجوب الالتزام القلبي الثابت بحكم العقل هو الجامع بوصفه العنواني الذي لا وعاء له الا عالم الذهن ولهذا يعبر عنه بصورة الجامع،وعلى هذا فلا مانع من جريان الاصول العملية في اطرافه فان الاصول العملية وان كانت مؤدية الى الترخيص في ترك افراده واطرافه الا انه لا يستلزم ترك الجامع لأن الجامع موجود في عالم الذهن ولا ينطبق على الخارج فالترخيص في ترك افراده في الخارج لا يكون ترخيصا في ترك الجامع فلا تنافي بين وجوب الالتزام القلبي بالجامع وبين جريان الاصول العملية في اطرافه ومن هنا تختلف الموافقة الالتزامية عن الموافقة العملية كما تقدم .
هذا اذا كان الموضوع لوجوب الالتزام الحكم الواصل الى المكلف سواء أ كان واصلا تفصيلا ام كان واصلا اجمالا، لأن  الموضوع لوجوب الموافقة الالتزامية -اذا كان الحكم واصلا اجمالا- هو الجامع بوصفه العنواني لا واقع الجامع .
واما اذا كان الموضوع هو الحكم الواصل الى المكلف المنجز في المرتبة السابقة بقطع النظر عن وجوب الالتزام أي ان تنجزه بمنجز اخر لا بوجوب الالتزام ولكن موضوع وجوب الالتزام مقيد بالحكم الواصل المنجز فعندئذٍ جريان الاصول العملية في اطرافه رافعة لموضوع وجوب الموافقة الالتزامية وجدانا وهو التنجز، فتكون الاصول العملية واردة على دليل وجوب الالتزام وتكون رافعة لوجوب الالتزام بارتفاع موضوعه لأن وجوب الالتزام ينتفي بانتفاء موضوعه وموضوعه مقيد بالتنجز والمفروض ان الاصول العملية الجارية في اطرافه رافعة لهذا التنجز وجدانا فينتفي وجوب الالتزام بانتفاء موضوعه فمن اجل ذلك لا تنافي بينهما ولا مانع من جريان الاصول العملية فإنها واردة على دليل وجوب الالتزام .
هذا كله اذا كان وجوب الالتزام ثابت بدليل عقلي .
وامام اذا كان ثابتا بدليل شرعي بالكتاب او السنة فعندئذ لا بد من افتراض دليلين احدهما يدل على وجوب الافعال الخارجية وهو الوجوب الاولي، والثاني يدل على وجوب الافعال النفسانية وهو الوجوب الثانوي، وقد اخذ في موضوع الوجوب الثانوي الحكم الاولي، مثلا اذا جعل المولى الوجوب للصلاة والدليل الاول يدل على وجوب الصلاة والدليل الاخر هو الذي يدل على وجوب الالتزام بوجوب الصلاة، فوجوب الصلاة قد أُخذ في موضوع وجوب الالتزام فلا بد هنا من فرض دليلين إذ لا يمكن ان يكون دليل واحد متكفل لحكمين طوليين فان الحكم الاولي مأخوذ في موضوع الحكم الثانوي والحكم الثانوي وهو وجب الالتزام القلبي في طول الحكم الاولي الذي هو متعلق بالفعل الخارجي فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد .
فإذاً لا بد من افتراض دليلين احدهما يدل على الحكم الاولي المتعلق بالأفعال الخارجية والاخر يدل على الحكم الثانوي المتعلق بالأفعال النفسانية .
وعلى هذا، فاذا كان موضوع الحكم الثانوي وهو وجوب الالتزام بالحكم الاولي الواصل الى المكلف فعندئذ لا يمكن جريان الاصول العملية في اطرافه لان موضوع وجوب الالتزام حينئذ واقع الحكم لا صورة الحكم في الذهن فاذا كان الموضوع واقع الحكم فجريان الاصول الدالة على الترخيص في ترك اطرافه يعني الترخيص في ترك الجامع الخارجي الموجود بين افراده وحيث ان موضوع الوجوب الثاني -وهو وجوب الالتزام - هو الحكم الواقعي، والحكم الواقعي موجود في الخارج بوجود موضوعه في الخارج فعندئذ اذا جرت الاصول العملية في اطرافه دلت على الترخيص في ترك الجامع ايضا فعندئذ يلزم المخالفة القطعية الالتزامية وهي محرمة كالمخالفة القطعية العملية، وعلى هذا فلا فرق بين الموافقة القطعية الالتزامية وبين الموافقة القطعية العملية فلا تظهر الثمرة بينهما .
واما اذا كان موضوع وجوب الالتزام بحسب لسان الدليل الحكم الواقعي اعم من الواصل وغير الواصل ففي مثل ذلك اذا علم المكلف بطهارة احد الاناءين الشرقي والغربي فطهارة كل منهما لم تصل الى المكلف والواصل هو الطهارة الجامعة بينهما أي الجامع قد وصل فعندئذ اذا قلنا ان موضوع وجوب الالتزام الطهارة الواقعية اعم من ان تكون واصلة او غير واصلة فهل يمكن الالتزام بطاهرة الاناء الشرقي والالتزام بطهارة الاناء الغربي ؟
والجواب : انه لا يمكن فان الالتزام بطهارة الاناء الشرقي والالتزام بطاهرة الاناء الغربي تشريع ومحرم لأن المكلف اذا التزم بطهارة الاناء الشرقي والتزم بطهارة الاناء الغربي فقد علم بالطهارة الواقعية في احدهما والتزم بعدم الطهارة في الاخر فعندئذ يكون الالتزام في احدهما تشريعا ومحرما .
وفي التشريع قولان، احدهما انه عبارة عن ادخال ما ليس من الدين في الدين والاخر انه عبارة عن ادخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين .
اما على القول الاول، فاذا التزم المكلف قلبا بطهارة الاناء الشرقي والتزم قلبا بطهارة الاناء الغربي فقد علم بان احد الالتزامين واجب والالتزام الاخر محرم فان الالتزام الاخر من ادخال ما ليس من الدين في الدين، اما الالتزام بطهارة احدهما مطابق للواقع فهو واجب واما الالتزام بطهارة الاخر غير المطابق للواقع فهو تشريع وادخال ما ليس من الدين في الدين وهو محرم فيلزم الجمع بين المحذورين احدهما واجب والاخر حرام، فاذا التزم بطهارة احدهما والتزم بطهارة الاخر فقد علم بان احدهما واجب والاخر محرم .
هذا فيما اذا علم بطهارة احدهما وعدم طهارة الاخر .
واما اذا احتمل طهارة الاخر ايضا، فاذا علم المكلف بطهارة احدهما واحتمل طهارة الاخر ايضا فعندئذ لا تشريع في البين فاذا التزم بطهارة الاناء الشرقي والتزم بطهارة الاناء الغربي فقد علم بان احدهما واجب واما الاخر فهو مشكوك ولا ندري انه واجب او حرام، فان كان الاناء الاخر طاهرا فالالتزام بطاهرته واجب وان لم يكن الاناء الاخر طاهرا فالالتزام بطهارته محرم لأنه تشريع وهو يشك في انه حرام او ليس بحرام او انه واجب او حرام أي ان كان طاهرا فهو واجب وان لم يكن طاهرا فهو حرام ففي مثل ذلك يكون من دوران الامر بين المحذورين في موضوع واحد وهل يمكن جريان الاستصحاب او لا يمكن ؟ واذا لم يمكن جريان الاستصحاب فهل يمكن جريان البراءة او لا ؟ بحث كل ذلك في محله .
واما اذا لم يلتزم لا بطهارة الاناء الشرقي ولا بطهارة الاناء الغربي فقد علم بالمخالفة القطعية الالتزامية لأن الالتزام بأحدهما واجب عليه باعتبار ان احدهما طاهر فيكون الالتزام بطاهرته واجب عليه فاذا ترك الالتزام بطهارة الاناء الشرقي وترك الالتزام بطهارة الاناء الغربي فقد علم بالمخالفة القطعية الالتزامية وهي محرمة، واما اذا التزم بأحدهما وترك الالتزام بالآخر ففيه احتمال الموافقة كما ان فيه احتمال المخالفة فإن كان ما التزم به طاهرا فهو موافق للواقع فقد التزم بالطهارة واتى بالواجب وان لم يكن مطابق للواقع فهو تشريع ومحرم، فكما يحتمل الموافقة كذلك يحتمل المخالفة ايضا، هذا كله على القول بان التشريع عبارة عن ادخال ما ليس من الدين في الدين .
ولكن الصحيح ان التشريع عبارة عن ادخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين فان المستفاد من الآيات والروايات ان التشريع عبارة عن ادخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين فقوله تعالى ﴿قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ[1] الدال على ان الظن لا يغني من الحق شيءً وهكذا الروايات الواردة في المقام فقد ورد في بعضها (القضاة أربعة ثلاثة في النار، وواحد في الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة)[2] فان من قضى بالحق وهو لا يعلم به  ممن ينطبق عليه انه ادخل ما لم يعلم بانه من الدين في الدين، وكيفما كان المستفاد من الآيات والروايات ان التشريع عبارة عن ادخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين .
وعلى هذا فقد ذكر  بعض المحققين (قده) ان المكلف يعلم بوصول حكم في كل واقعة اجمالا فان أي واقعة لا تخلو من حكم فالمكلف يعلم بثبوت حكم في كل واقعة اجمالا وان كان نوع هذا الحكم غير معلوم له، وهذا العلم الاجمالي لا يمنع من جريان الاصول العملية في هذه الواقعة لنفي الحكم ولا تنافي بين نفي العلم الاجمالي بثبوت حكم في هذه الواقعة واقعا وبين نفي الحكم فيها ظاهرا كما سيأتي بحثه في مسألة الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي .
ولكن هذا مبني على مقولة مشهورة بين الاصحاب ان كل واقعة لا يخلو من حكم، فالحكم ثابت في كل واقعة وهذه المقولة مبنية على ان الاباحة مجعولة في الشريعة المقدسة .


[1]یونس/سوره10، آیه59.
[2]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج27، ص22، ابواب صفات القاضي، باب4، ح6، ط آل البيت.