الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/10/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : التجري
الوجه الرابع : الاستدلال على حرمة التجري بالروايات
منها : النبوي المعروف في السنة الفقهاء ((اذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول كليهما في النار فقيل هذا القاتل فما بال المقتول قال : لأنه اراد قتل صاحبه[1] )) فإنها تدل على استحقاق العذاب لإرادة المعصية وان لم يرتكبها في الخارج،فاذا قصد المعصية وارادها وان لم يصل اليها في الخارج فهو معاقب على هذا القصد وهذا القصد محرم وتجرٍ .
ومنها : الروايات التي قد علل فيها خلود اهل النار في النار لان نيتهم كانت على التمرد والمعصية ابدا في الدنيا لو كانوا مخلدين[2] فيها فيكون خلودهم في النار لأجل نيتهم، فهذه الروايات تدل على ان الانسان يعاقب على نية المعصية ونية التمرد على المولى او الروايات التي قد علل فيها خلود اهل الجنة في الجنة بان نيتهم كانت على الاطاعة والانقياد للمولى ابدا لو كانوا مخلدين في الدنيا فلأجل ذلك هم خالدون في الجنة .
فهذه الروايات تدل على انه مستحق للعقوبة على النية ومستحق للمثوبة عليها ايضا
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات انها تدل على ان نية السوء مصداق للتجري ومحرم ومعاقب عليها وان لم يصل الى الحرام في الخارج .
فاذا فرضنا انه اعتقد بان هذا المائع خمر وعلم بحرمة شربه فقام بشربه عامدا ملتفتا، فان كان في الواقع خمرا فقد ارتكب المعصية والحرام في الخارج، واما اذا لم يكن في الواقع خمرا كما اذا كان خلا او ماء مباحا فهو وان لم يرتكب معصية في الخارج ولم يرتكب حراما، ولكنه معاقب على نية السوء أي نية الحرام وقصد ارتكاب الحرام .
هذا غاية ما يمكن الاستدلال به بهذه لروايات .
والجواب عنها :
اولا : ان هذه الروايات بأجمعها ضعيفة من ناحية السند، فلا يمكن الاستدلال بها لأنها مرسلات .
وثانيا : مع الاغماض عن ذلك، الا انها لا تدل على حرمة الفعل المتجرى به فان محل الكلام انما هو في حرمة الفعل المتجرى به وهل ان هذا الفعل محرم بعنوان ثانوي وان لم يكن محرما بعنوان اولي او لا ؟ هذا هو محل الكلام، والروايات انما تدل على حرمة الارادة وحرمة القصد .
وثالثا : ان هذه الروايات لا تدل على حرمة الارادة، وانما تدل على ان المكلف مستحق للعقوبة على ارادة المعصية وان لم يرتكبها في الخارج، واما ان هذه الارادة محرمة فهذه الروايات لا تدل على ذلك .
ومع الاغماض عن جميع ذلك فان في مقابل هذه الروايات روايات كثيرة ولا يبعد بلوغها حد التواتر اجمالا مضافا ان فيها روايات معتبرة من ناحية السند  تدل على ان الانسان لا يعاقب على النية على ما هو في قلبه ما لم يظهره في الخارج او لم يظهر اثره في الخارج، فاذا اراد معصية ولم يرتكبها في الخارج ولو من جهة عدم قدرته او من جهة مانع خارجي فهو لا يعاقب على هذه النية، فالعقوبة انما هي على ارتكاب العمل الخارجي على اثر نية السوء في الخارج .
وعلى هذا فهذه الروايات تدخل في الروايات المخالفة للسنة، والروايات المخالفة للسنة لا تكون حجة في نفسها فلا بد من طرحها، فقد ورد في الروايات ان ما خالف الكتاب والسنة لم اقله فهو زخرف وباطل .
فإذن الروايات المخالفة للكتاب والسنة لا تكون في نفسها حجة ولا بد من طرح هذه الروايات .
ومع الاغماض عن ذلك أيضا، فتقع المعارضة بين هذه الروايات والطائفة الاولى من الروايات، فان الطائفة الاولى من الروايات تدل على ان الانسان يعاقب على نية السوء أي قصد المعصية وان لم يرتكبها في الخارج، وهذه الطائفة تدل على ان الانسان لا يعاقب على قصد المعصية طالما لم يتلبس بها في الخارج . فيكون التعارض بينهما بالتباين، وهل يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين او لا يمكن ؟
فيه وجهان :
ذهب شيخنا الانصاري (قده) الى امكان الجمع بينهما بأحد طريقين :
الاول : حمل الطائفة الاولى على ان من قصد المعصية وتلبس ببعض مقدماتها ولكن لم يصل الى المعصية في الخارج فهو مستحق للعقوبة واما الطائفة الثانية فهي محمولة على قصد المعصية فقط بدون التلبس باي مقدمة من مقدماتها [3].
الثاني : حمل الطائفة الاولى على قصد المعصية وانه ثابت على هذا القصد ولم يرتدع عنه الا ان المانع الخارجي منع عن ارتكاب المعصية او الوصول الى الحرام والا فهو باق على قصده وارادته واما الطائفة الثانية فهي محمولة على من ارتدع عن قصده بنفسه او بداع الهي، فاذا كان قصد المعصية كذلك فلا عقاب عليه واما اذا كان من قبيل الاول فيعاقب عليه، وقد اختاره السيد الاستاذ(قده)[4].
ولكن كلا الجمعين غير صحيح، فان الجمع الاول تبرعي ولا شاهد عليه ولا ينطبق عليه شيء من ضوابط الجمع الدلالي العرفي كما في حمل المحكوم على الحاكم او الظاهر على الاظهر او العام على الخاص والمطلق على المقيد، واما ما ذكره الشيخ من الجمع بينهما فهو جمع تبرعي عقلي ولا قيمة له، وكذلك الحال في الجمع الثاني .
نعم ذكر السيد الاستاذ (قده) بان التعارض بين الطائفتين على نحو التباين، فان الطائفة الاولى تدل على ان من قصد المعصية معاقب عليه وان لم يرتكبها، ولكنها مطلقة من حيث انه ارتدع عن قصده او لم يرتدع، والطائفة الثانية تدل على ان من قصد المعصية ولم يرتكبها فلا عقاب عليه سواء ارتدع عن قصده او لم يرتدع .
وعلى هذا، فالنبوي المعروف ((اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول كليهما في النار )) تدل على ان العقاب انما هو على الارادة التي لم يرتدع عنها وهي موجودة في نفسه الى ان قتل، وعندئذ تخصص الطائفة الاولى بما اذا ظل المكلف ثابتا على قصد المعصية الا ان وجود المانع الخارجي  منعه عن ارتكاب المعصية، فاذا قيد اطلاق الطائفة الاولى بالنبوي تنقلب النسبة بين الطائفتين من التباين الى عموم وخصوص مطلق فتصبح الطائفة الاولى اخص من الطائفة الثانية فتخصص الطائفة الثانية  وتكون النتيجة ان من قصد المعصية وظل باقيا على قصده فهو معاقب وان لم يرتكب المعصية في الخارج لمانع خارجي، واما من قصد المعصية وارتدع بنفسه او بداعي الهي فهو لا يعاقب .
هكذا ذكره السيد الاستاذ (قده) .
وما ذكره مبني على انقلاب النسبة، فانه (قده) قد بنى على انقلاب النسبة كما ان المحقق النائيني (قده) قد بنى على ذلك .
ولكن ذكرنا في مبحث التعادل والترجيح ان القول بالانقلاب غير تام والصحيح عدم انقلاب النسبة، فالكبرى غير ثابتة .
فإذن تخصيص الطائفة الاولى وتقيد اطلاق الطائفة الاولى بالنبوي لا يوجب انقلاب النسبة بين الطائفتين من التباين الى العموم والخصوص المطلق بل تبقى النسبة بحالها وهي نسبة التبيان على تفصيل ذكرناه هناك .
هذا مضافا الى ان الرواية ضعيفة من ناحية السند فلا تصلح ان تكون مقيدة .
فالنتيجة ان ما ذكره السيد الاستاذ (قده) مبني على مسلكه من القول بانقلاب النسبة
بقي هنا امور :
الاول : ان محل الكلام في مسألة التجري في مطلق المنجز سواء أ كان المنجز متمثل بالقطع ام كان متمثلا في الامارة المعتبرة ام كان في استصحاب الحكم الالزامي ام كان في قاعدة الاشتغال كما في الشبهات قبل الفحص او في اطراف العلم الاجمالي، فاذا علم ان احد الاناءين خمر فلا يجوز له شرب أي منهما فاذا شرب واحد منهما عالما وملتفتا فهو مستحق للعقوبة .
فمسألة التجري لا تختص بالقطع بل يعم جميع انواع المنجز.ِ


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج11، ص113، کتاب الجهاد، ب67، ح1، ط الاسلامية.
[2]وسائل الشيعة، العاملي، ج1، ص36، أبواب مقدمة العبادات، ب6، ح4، 6، 7، 8، 10، ط الاسلامية.
[3] فرائد الاصول، الانصاري، ص84.
[4] مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي، ج2، ص29.