الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/07/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : التجري
تحصّل مما ذكرنا، ان المراد من مقصود المولى من جعل التكليف ايجاد الداعوية والارادة التكوينية في نفس المكلف لتكون محركة وباعثة نحو الاتيان بالواجب او الابتعاد عن الحرام كما ان المراد من مقصود المولى مقصوده التكويني ومراده التكويني أي مراد المولى ومقصوده تكوينا من جعل التكليف ايجاد الداعوية والارادة في نفس المكلف، وليس المراد من مقصود المولى مقصوده التشريعي ومراده التشريعي من جعل التكليف ايجاد الارادة في نفس المكلف، اذ لو كان المراد ذلك لزم كون التكليف متعلقا بإرادة المكلف وهي متعلقة بالفعل وحيث انه لا يمكن تعلق الارادة بالفعل بوجوده الواقعي لأن الارادة قد تكون مطابقة للواقع وقد لا تكون مطابقة للواقع، والمطابقة وعدم المطابقة امر خارج عن اختيار المكلف، كمطابقة القطع للواقع وعدم مطابقته فإنها خارجة عن اختيار القاطع، والارادة ايضا كذلك أي انها لا تتعلق بالفعل بوجوده الواقعي وانما  تتعلق بالفعل الأعم من وجود الواقعي والعلمي، فالإرادة تعلقت بما يراه الفاعل واقعا مطابقا للواقع سواء أ كان كذلك ام لم يكن، فاذا كان الفعل باعتقاد الفاعل مطابقا للواقع فهو متعلق الارادة، واما الفعل بوجوده الواقعي فليس متعلق الارادة .
فإذن هذ المقدمة -أي المقدمة الثالثة – مبنية على ان المراد من مقصود المولى مقصوده التشريعي ومراده التشريعي من جعل التكليف ايجاد الارادة التكوينية في نفس المكلف، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا، اذ لا شبهة في ان المراد من مقصود المولى مقصوده التكويني ومراده التكويني، فان المولى اراد تكوينا من جعل التكليف ايجاد الارادة التكوينية في نفس المكلف .
وعلى هذا فإرادة المكلف ليست متعلَّقة للتكليف، بل متعلق التكليف فعل المكلف مباشرة .
وعلى هذا، فهذه المقدمة مبنية على الخلط بين الارادة  التشريعية التي هي عبارة عن التكليف والارادة التكوينية، وتخيّل القائل بهذه المقدمة ان المراد من ارادة المولى الارادة التشريعية وهي متعلقة بإرادة المكلف التكوينية، ونتيجة ذلك ان التكليف متعلق بإرادة المكلف وارادة المكلف متعلقة بالفعل الواجب او الحرام، ولا شبهة في ان المراد من ارادة المولى الارادة التكوينية فان المولى اراد تكوينا من جعل التكليف ايجاد الارادة التكوينية في نفس المكلف لتحريكه وبعثه نحو الاتيان بالواجب والابتعاد عن الحرام، وعلى هذا فمتعلق التكليف نفس فعل المكلف بوجوده الواقعي فالتكليف تعلق بالفعل مباشرة بوجوده الواقعي ولا يلزم منه محذور التكليف بغير المقدور، فان المكلف قادر على الاتيان بالواقع فاذا كان قطعه مطابقا للواقع فهو قادر على الاتيان بالواقع واذا كان قطعه مخالفا للواقع فلا واقع في البين حتى يكون قادرا او ليس بقادر من باب السالبة بانتفاء الموضوع .
قد يقال كما قيل : ان الفعل بوجوده الواقعي غير مقدور للمكلف كما لا يمكن تعلق التكليف به ايضا .
والجواب عن ذلك بطريقين :
الطريق الاول : ان المكلف اذا قطع بان هذا المائع خمر واقدم على شربه فبطبيعة الحال انه اقدم على شربه بداعي انه خمر ثم بان انه ليس بخمر فهذا تخلف في الغاية وتخلف بأصل الداعي واما اصل الشرب فقد صدر منه بالاختيار والتخلف في الداعي لا يجعل الفعل غير اختياري، اذ لا شبهة في ان شرب هذا المائع باختياره لان المعتبر في الفعل الاختياري امران :
الاول : كون الفاعل مختارا .
الثاني : التفاته الى الفعل .
وكلا الامرين موجود في المقام فان الفاعل مختار له ان يشرب وله ان لا يشرب هذا المائع، فاذا شرب بداعي انه خمر ثم بان انه ليس بخمر فهذا تخلف في الداعي وهو لا يجعل اصل الفعل غير اختياري، فاصل الشرب قد صدر منه باختياره وهو تحت سلطنته وتحت قدرته .
الطريق الثاني : ما اشرنا اليه الآن من ان الواقع مقدور له أي شرب الخمر فاذا قطع المكلف بان هذا المائع خمر واقدم على شربه بعنوان انه خمر فان كان قطعه مطابقا للواقع فقد صدر شرب الخمر منه باختياره، فان شرب الخمر تحت سلطنته وان لم يكن مطابقا للواقع فلا واقع في البين حتى يكون المكلف قادرا عليه او لم يكن أي سالبة بانتفاء الموضوع .
وعلى هذا، فرق بين كون الفعل متعلَّق للتكليف مباشرة وكون الفعل متعلَّق للإرادة، فالفعل اذا كان متعلَّقا للإرادة فالإرادة انما تعلقت بالفعل بما يراه الفاعل انه مطابق للواقع سواء أ كان كذلك ام لم يكن كذلك، ولا يمكن تعلق الارادة بالفعل بوجوده الواقعي والارادة انما تعلقت بالفعل بالأعم من وجوده الواقعي ووجوده الاعتقادي، فمن اجل ذلك تكون الخطابات الشرعية تعم موارد التجري ايضا .
واما اذا قلنا ان متعلق الفعل التكليف مباشرة دون ارادة المكلف فعندئذٍ يختص الفعل بوجوده الواقعي، وذكرنا انه لا يلزم منه محذور التكليف بغير المقدور .
وعلى هذا، فالخطابات الشرعية في الكتاب والسنة تختص بموارد العصيان فقط ولا تشمل موارد التجري، فشمول تلك الخطابات لموارد التجري مبني على ان التكليف متعلق بإرادة المكلف والارادة متعلَّقة بالفعل فعندئذ حيث ان الارادة لا يمكن ان تتعلق بالفعل بوجوده الواقعي فلا محال يكون متعلقها الفعل الاعم من وجوده الواقعي ووجوده العلمي الاعتقادي، وعندئذٍ تشمل هذه الخطابات موارد التجري ايضا، وحيث ان هذه المقدمة لا اصل لها فإنها مبنية على ان يكون المراد من ارادة المولى الارادة التشريعية أي المولى اراد من جعل التكليف ايجاد الارادة في نفس المكلف أي يكون المراد من ارادة المولى الارادة التشريعية، ولكن من الواضح جدا ان المراد منها الارادة التكوينية لا الارادة التشريعية .
الى هنا قد تبين، ان المقدمة الاولى تامة، وهي كون متعلق التكليف لا بد ان يكون مقدورا، واما المقدمة الثانية فهي غير تامة كما تقدم، وكذلك المقدمة الثالثة .
فإذن لا تشمل تلك الاطلاقات موارد التجري ولا يمكن اثبات حرمة الفعل المتجرى به بتلك الاطلاقات كإطلاق قوله (عليه السلام) ( لا تشرب الخمر ) وما شاكل ذلك .
ثم ان للسيد الاستاذ (قده) في المقام كلام حيث اجاب عن هذه المقدمة تارة بالنقض واخرى بالحل[1].
اما النقض فقد ذكر (قده) ان لازم هذه المقدمة ان المكلف اذا اعتقد بدخول وقت الصلاة وصلى ثم بان ان الوقت غير داخل، فلازم هذه المقدمة ان صلاته محكومة بالصحة باعتبار ان الامر بالصلاة تعلق بارادة المكلف للصلاة أي ان متعلَّق الامر ارادة المكلف ومتعلَّق الارادة الصلاة وحيث ان متعلَّق الارادة لا يمكن ان تكون الصلاة بوجودها الواقعي فلا محالة يكون متعلَّقها الاعم من وجودها الواقعي ووجودها الاعتقادي العلمي، ولازم ذلك ان هذه الصلاة التي وجدت بوجودها الاعتقادي العلمي محكومة بالصحة لأنها مشمولة بقوله (عليه السلام) (صل)، فان صل يشمل موارد التجري كما يشمل موارد العصيان، وهذا خلاف الضرورة الفقهية فان من اعتقد بدخول الصلاة وصلى ثم بان ان الوقت غير داخل فلا شبهة في فساد هذه الصلاة ولا يحتمل صحتها .
هذا هو جوابه النقضي (قده) .
والظاهر ان هذا النقض غير وارد على القائل بهذه المقدمة، وبيان ذلك بحاجة الى مقدمة :
وهي ان التجري قد يكون في المحرمات وقد يكون في الواجبات، اما التجري في المحرمات كما اذا اعتقد ان المكلف بان هذا المال مال الغير وقام بالتصرف فيه بدون اذنه ثم بان انه ماله وليس مال الغير، فهذا لا شبهة في انه تجري، وبناءً على تمامية هذه المقدمة لا شبهة في ان هذا التصرف حرام وقبيح ومستحق للعقوبة غاية الامر على هذا انه لا فرق بين المتجري والعاصي فكما ان فعل العاصي حرام كذلك فعل المتجري، فالفعل المتجرى به حرام على ضوء هذه المقدمة، فهذه المقدمة في المحرمات تامة، وكذلك اذا اعتقد ان هذا الماء خمر فشربه ثم بان انه ماء مباح او مملوك له فلا شبهة في ان هذا الشرب حرام على ضوء هذه المقدمة وهي ان متعلق التكليف ارادة المكلف والارادة متعلقة بالفعل، وعلى ضوء هذه المقدمة خطاب (لا تشرب الخمر ) يشمل موارد التجري ويدل على ان الفعل المتجرى به حرام وقبيح ومصب لتفويت حق الطاعة وظلم كما ان فعل العاصي حرام وتفويت لحق المولى وهو حق الطاعة .
فإذن الفعل المتجرى به حرام، والمتجري مستحق للعقوبة، فالنقض في مثل ذلك غير وارد فان هذه المقدمة لو تمت فلا شبهة من الالتزام بذلك في المحرمات .
واما في الواجبات فهي على قسمين فتارة يكون الواجب موسعا كالصلاة واخرى يكون الواجب مضيقا كالصوم .


[1]  مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي (قده) للسيد محمد سرور، ج2، ص21.