الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/07/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : التجري
ذكرنا ان المقدمة الثالثة فيها وجوه من الاشكال :
الوجه الاول : ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيتين وتدور مدارها حدوثا وبقاءً، ولا يمكن ان تكون دائرة الاحكام الشرعية اوسع من دائرة المصالح والمفاسد الواقعيتين، فهي تدور مدارهما في السعة والضيق وفي الحدوث والبقاء، ومن الواضح ان المصالح والمفاسد الواقعيتين قائمة بإفعال المكلفين بوجوداتها الواقعية، فالمفسدة قائمة بشرب الخمر الواقعي لا في شرب الماء المباح بتخيل انه شرب خمر، فالمصالح والمفاسد الواقعيتين لا شبهة في انها قائمة بالأفعال الخارجية بوجوداتها الواقعية لا بوجوداتها العلمية التي لا واقع موضوعي لها في الخارج، ولذلك الاحكام الشرعية لا تعم موارد التجري، فلا يمكن ثبوت الحرمة للفعل المتجرى به، فان الفعل المتجرى به هو شرب الماء المباح، فاذا قطع المكلف بان هذا الماء خمر وشربه ثم بان انه ماء مباح فالفعل المتجرى به هو شرب الماء المباح، والمفروض انه لا مفسدة فيه، فإذن لا حرمة فيه، فان الحرمة تتبع المفسدة فاذا لم تكن فيه مفسدة فلا حرمة فيه ايضا .
وعلى هذا، فلا يمكن ان تكون اطلاقات الادلة من الكتاب والسنة شاملة لموارد التجري لعدم وجود ملاكات الاحكام فيها بل هي مختصة بموارد العصيان الحقيقي .
وقد اشكل عليه بعض المحققين (قده) - على ما في تقرير بحثه - من ان من يستدل بهذه الاطلاقات على عموم الحكم لموارد التجري يعترف بان الخمر ظاهر في الخمر الواقعي ولكن ظهور كل دليل في انه بداعي تحريك المكلف والباعثية لإرادة المكلف نحو الاتيان بالواجب والاجتناب عن الحرام، ومن الواضح ان الارادة لا تتعلق بالواقع بما هو واقع فان الارادة قد تتعلق بالواقع وقد لا تتعلق فان تعلق الارادة بالواقع امر خارج عن اختيار المكلف وليس بيده كإصابة قطعه للواقع وعدم اصابته فانه امر اتفاقي خارج عن اختيار القاطع، وكذلك الارادة تعلقها بالواقع بما هو واقع خارج عن اختياره لإنها قد تتعلق بالواقع وقد لا تتعلق به .
وعلى هذا، فلا محالة تكون الارادة متعلقة بالفعل الذي يرى المكلف انه مطابق للواقع سواء أ كان في الواقع كذلك ام لم يكن، فمن اجل ذلك تكون هذه الخطابات تعم موارد التجري فان الخطاب تعلق بإرادة المكلف والتكليف متعلق بإرادة المكلف والارادة متعلقة بالفعل الذي يرى المكلف انه مطابق للواقع فمطابقته للواقع برؤية المكلف، واما انه في الواقع ايضا كذلك ؟ فهو غير معلوم، ولهذا يشمل موارد التجري ايضا، ولإجل ذلك تكون هذه الخطابات عامة ومطلقة وبإطلاقها تشمل موارد التجري .
فإذن هذه المسألة لا ترتبط بمسألة تبعية الاحكام الشرعية للمصالح والمفاسد الواقعيتين على مذهب العدلية، فان الاحكام الواقعية كذلك ولكن هذه الخطابات مطلقة على ضوء هذه النكتة باعتبار انها متعلقة بإرادة المكلف واختياره، والارادة لا تتعلق بالفعل بوجوده الواقعي وانما تتعلق بالفعل الذي يرى المكلف انه مطابق للواقع فلهذا يعم الخطاب موارد التجري ايضا .
هكذا ذكره (قده) .
وللمناقشة فيه مجال،فان هذه الخطابات اذا كانت متعلقة بإرادة المكلف، ومن الواضح ان ارادة المكلف انما تعلقت بالفعل الذي يراه المكلف انه مطابق للواقع اما انه كذلك واقعا او انه ليس كذلك واقعا ؟ فلا يدري ذلك، وانما تعلقت ارادته بالفعل الذي يرى انه مطابق للواقع بعد ان لا يمكن تعلقها بالفعل بوجوده الواقعي فعندئذٍ بطبيعة الحال يكون الخطاب عاما يشمل موارد التجري، ولكن كيف يمكن جعل الحرمة للفعل المتجرى به بدون ملاك وقد اشرنا ان حقيقة الحكم وروحه ملاكه والحكم بدون ملاك لا روح له بل ليس بحكم شرعي مولوي قابل للتنجّز، ولهذا لا يعاقب على مخالفته ولا يثاب على موافقته، فالحكم بلا ملاك لا أثر له بل لا يمكن جعله من المولى لإنه لغو ووجوده كعدمه، فكيف يمكن ان تكون هذه الخطابات مطلقة وعامة وبإطلاقها تشمل موارد التجري، اذ معنى ذلك ان الاحكام المجعولة في موارد التجري بلا ملاك وهذا مما لا يمكن الالتزام به، هذا مضافا الى ان لهذه المطلقات مدلول واحد ومفاده جعل الاحكام الشرعية الواقعية المولوية، فان خطابات الكتاب والسنة لها مدلول واحد وهو جعل الاحكام الشرعية الحقيقية التي لها ملاك، ولا يمكن الالتزام بان لها مدلولين احدهما الحكم الواقعي والاخر الحكم بلا ملاك اذ لا شبهة في ان لها مدلولا واحدا وهو الحكم الواقعي الذي له ملاك، فإذن هذا قرينة على ان الاحكام الشرعية لم تتعلق بإرادة المكلف ومتعلق الحرمة والوجوب ليس ارادة المكلف بل متعلقهما الفعل بوجوده الخارجي الواقعي مباشرة، فان الحرمة تتعلق بشرب الخمر مباشرة وتعلقت بشرب النجس مباشرة وتعلقت بالتصرف بمال الغير مباشرة لا ان الحرمة متعلقة بإرادة المكلف والارادة متعلقة بالفعل حتى يقال بان الارادة لم تتعلق بالفعل بوجوده الواقعي وانما تعلقت بالفعل الذي يرى المكلف بانه مطابق للواقع، فمطابقته للواقع انما هي برؤية المكلف لا واقعا، بل الحرمة تعلقت بالفعل مباشرة بوجوده الواقعي وهو مقدور للمكلف ولا يلزم محذور التكليف بغير المقدور لان الفعل بوجوده الواقعي مقدور للمكلف، والذي هو خارج عن قدرة المكلف اصابة قطعه للواقع وعدم اصابته للواقع، واما اذا اصاب قطعه الواقع فإتيان المكلف للواقع مقدور له، فان قطعه اذا كان مطابقا للواقع فهو قادر على اتيان الواقع واذا لم يكن قطعه مطابقا للواقع فلا واقع حينئذٍ حتى يكون قادرا او غير قادر من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فمن اجل ذلك الاحكام الشرعية والتكاليف الشرعية متعلقة بأفعال المكلفين بوجوداتها الواقعية مباشرة لا انها متعلقة بإرادة المكلف حتى يقال ان ارادة المكلف لم تتعلق بالأفعال بوجوداتها الواقعية وانما تتعلق بالأفعال التي يرى المكلف انها مطابقة للواقع اما انها كذلك او ليست كذلك فهو امر اخر .
فليس متعلق التكليف ارادة المكلف واختياره ومتعلق التكليف فعل المكلف مباشرة بوجوده الواقعي ولا يلزم منه أي محذور .
نعم هنا اشكال اخر على هذا الوجه، وهو انه لا طريق لنا الى ملاكات الاحكام الشرعية الا من طريق نفس هذه الاحكام، فاذا جعل الشارع الوجوب لشيء فهو يدل على ان فيه مصلحة ملزمة ولولا جعل الوجوب له فلا طريق لنا الى معرفة انه مشتمل على المصلحة الملزمة، واذا جعل الحرمة لشرب الخمر فهو يكشف عن ان فيه مفسدة ملزمة ولو لم يجعل الشارع الحرمة لشرب الخمر فلا طريق لنا الى معرفة ان في شربها مفسدة ملزمة وهكذا، فإذن لا طريق لنا الى احراز ملاكات الاحكام الشرعية الا من طريق ثبوت نفس الاحكام .
وعلى هذا، فاذا فرضنا ان الخطابات الشرعية في الكتاب والسنة تعم موارد التجري ايضا فعندئذٍ يكشف ثبوت الحكم للفعل المتجرى به عن وجود ملاك فيه، فاذا جعل الشارع الحرمة للفعل المتجرى به كشرب الماء او شرب الخل نستكشف من ذلك ان في شرب هذا الماء مفسدة، فإذن ثبوت الحكم لشيء كاشف عن ثبوت الملاك فيه، واما مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له فلا طريق لنا لمعرفة ثبوت الملاك فيه .
وعلى هذا، فيمكن القول ان هذه الاطلاقات اذا كانت مطلقة وبإطلاقها تشمل موارد التجري فهي بنفسها تدل على ان الفعل المتجرى به مشتمل علة مفسدة ملزمة والا فلا يمكن جعل الحرمة له، هذا الاشكال وارد على هذا الوجه .
الاشكال الثاني : انه لا شبهة في ان الالفاظ ظاهرة في معانيها الواقعية، فلفظ الخمر ظاهر في الخمر الواقعي ولفظ النجس ظاهر في النجس الواقعي وهكذا، فكل لفظ ظاهر في معناه بوجوده الواقعي الخارجي وهذا مما لا شبهة فيه، فلا تشرب الخمر ظاهر في النهي عن شرب الخمر الواقعي، فخطابات الكتاب والسنة ظاهرة في ان الحرام هو فعل المكلف بوجوده الواقعي لا الاعم منه ومن وجوده العلمي باعتبار ان اللفظ موضوع بإزاء معناه الواقعي، وليس معنى اللفظ الجامع بين المعنى بوجوده الواقعي وبين المعنى بوجوده العلمي بل معنى اللفظ هو الحصة الواقعية فالخمر موضوع بإزاء الخمر الواقعي وهكذا سائر الالفاظ .
فإذن الخطابات الشرعية في الكتاب والسنة ظاهرة في حرمة الفعل بوجوده الواقعي وظاهرة في وجوب الفعل بوجوده الواقعي وهكذا، وارادة الاعم بحاجة الى قرينة ولا قرينة على ذلك .
الاشكال الثالث : ذكرنا ان غرض المولى ومقصوده من وراء جعل التكليف ايجاد الداعوية والارادة في نفس المكلف، والمراد من غرض المولى ومقصوده الغرض التكويني ومقصوده التكويني والمراد من ارادة المولى الارادة التكوينية فان المولى اراد من وراء الجعل ايجاد الارادة في نفس المكلف، فارادة المولى ارادة تكوينية كما ان ارادة المكلف ارادة تكوينية، المولى اراد بإرادة تكوينية ايجاد ارادة تكوينية في نفس المكلف وليس المراد من ارادة المولى ارادة تشريعية وليس المراد من غرض المولى الغرض التشريعي ومن مقصود المولى المقصود التشريعي، ليس المراد من غرض المولى الغرض التشريعي من وراء جعل التكليف ايجاد الداعوية والارادة التكوينية في نفس المكلف، فان الغرض التشريعي والارادة التشريعية نفس التكليف، فان كان المراد من ارادة المولى الارادة التشريعية فالتكليف متعلق بإرادة المكلف فان المولى اراد بإرادة تشريعية ايجاد الداعي وايجاد الارادة التكوينية في نفس المكلف .
فإذن التكليف متعلَّق بإرادة المكلف، ولكن لا شبهة في ان المراد من ارادة المولى الارادة التكوينية والمراد من غرض المولى الغرض التكويني والمراد من مقصود المولى المقصود التكويني، ان المولى اراد تكوينا من جعل التكليف ايجاد الارادة التكوينية في نفس المكلف، وليس المراد من ارادة المولى الارادة التشريعية .
وفي هذه المقدمة خلط بين الارادة التشريعية والارادة التكوينية،وهذا الخلط هو الذي اوجب الاعتقاد ان المراد من هذه الخطابات اعم من الخطابات الواقعية والخطابات العلمية وانها تشمل موارد التجري وموارد العصيان معا .