الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/07/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : التجري
ذكرنا ان جماعة من الاصوليين ذهبوا الى ان التجري ليس بقبيح، وقد استدلوا على ذلك بوجوه :
الوجه الاول : ما ذكره صاحب الكفاية (قده) في تعليقته على الرسائل وحاصله:
ان الفعل المتجرى به يستحيل ان يتصف بالقبح، لأن الحسن والقبح انما يتعلقان بالأفعال الاختيارية، فالفعل الصادر من الانسان اختيارا تارة يتصف بالحسن واخرى بالقبح، واما الفعل الصادر من الانسان بغير ارادة واختيار فلا يتصف بالحسن ولا بالقبح، فان الحسن والقبح كالوجوب والحرمة فكما ان الوجوب لا يمكن تعلقه بالفعل الخارج عن الاختيار والارادة وكذلك الحرمة، فالحسن والقبح ايضا كذلك .
وعلى هذا، فاذا اعتقد المكلف بان هذا المائع خمر فشربه ولم يكن في الواقع خمرا بل ماء مباحا او مملوكا له او مأذونا في التصرف فيه فهنا امور ثلاثة :
الامر الاول : شرب الخمر الواقعي .
الامر الثاني : شرب الماء المباح .
الامر الثالث : شرب مقطوع الخمرية .
أما الامر الاول ، فلا وجود له، فان هذا المائع ليس بخمر واقعا، فشرب الخمر الواقعي لا وجود له في الخارج .
واما الثاني ، وهو شرب الماء المباح او المملوك فهو ليس بقبيح، فان شرب الماء المباح ليس بقبيح .
واما الامر الثالث ، وهو شرب المقطوع الخمرية فهو ليس باختياره، فان الارادة انما تعلقت بشرب الخمر الواقعي، ولا يمكن تعلق الارادة بشرب مقطوع الخمرية، اذ لا موطن لمقطوع الخمرية الا عالم الذهن، فان مقطوع الخمرية هو المقطوع بالذات، ومن الواضح ان الارادة انما تعلقت بالمقطوع بالعرض وهو شرب الخمر الخارجي، واما المقطوع بالذات فهو في عالم الذهن وهو عين القطع فلا فرق بينهما الا بالاعتبار، كالمعلوم بالذات فهو عين العلم ولا فرق بينهما الا بالاعتبار، ولا يعقل تعلق الارادة به، لان المقطوع بالذات امر تصوري ولا يمكن تعلق الارادة بالأمر التصوّري،والارادة انما تتعلق بالأمر التصديقي وهو الامر الخارجي .
فإذن متعلق الارادة هو شرب الخمر الواقعي وهو لم يقع في الخارج، واما شرب المقطوع الخمرية فلم يكن متعلق للإرادة، وإذن لا يكون اختياريا، لان الفعل الاختياري هو الذي يصدر عن الانسان بالإرادة والاختيار، وشرب مقطوع الخمرية لم يكن متعلقا للإرادة حتى يكون اختياريا، هكذا ذكره صاحب الكفاية (قده) في تعليقته على رسائل الشيخ (قده) .
والجواب عن ذلك ان هنا نظريتين :
الاولى : نظرية الفلاسفة وهو ان ملاك اختيارية الفعل هو كونه مسبوقا بالإرادة، فاذا تحققت الارادة في نفس الانسان بكافة مقدماتها وبلغت حدها الاعلى فهي علة تامة لتحريك العضلات نحو ايجاد الفعل في الخارج او الابتعاد عنه في الخارج واما الفعل الذي لم يكن مسبوقا بالإرادة فهو ليس باختياري، وذهب الى هذه النظرية جماعة من الاصوليين منهم صاحب الكفاية (قده) ومنهم شيخنا المحقق الاصفهاني (قده) .
الثانية : نظرية جماعة من المحققين وهي ان ملاك اختيارية الفعل كونه تحت سلطنة الانسان وتحت قدرته، واحسن تفسير لسلطنة الانسان على الفعل هو له ان يفعل وله ان يترك فان ذلك امر وجداني غير قابل للإنكار وامر ضروري، له ان يأكل وله ان لا يأكل، وله ان يمشي وله ان لا يمشي، وله ان يتكلم وله ان لا يتكلم، وهذا معنى سلطنة الانسان على فعله الاختياري، والسلطنة ذاتية للإنسان .
وقد ذكرنا ان الامر الوجداني غير قابل لإقامة البرهان عليه، فان اقامة البرهان انما هي في الامور النظرية، بإثبات الصغرى وتطبيق الكبرى عليها، والامر الوجداني مدرك مباشرة فلا يتوقف ادراكه على تطبيق الكبرى على الصغرى .
فمن اجل ذلك، الامر الوجداني غير قابل لإقامة البرهان .
فإذن كون الفعل تحت سلطنة الانسان وقدرته امر وجداني، وقد عبرت عن ذلك مدرسة المحقق النائيني (قده) بان ملاك اختيارية الفعل هو ارتباطه بالمشيئة، فان المشيئة توجد بنفسها وهي علة للفعل، ولعل مرادهم من المشيئة هي سلطنة الانسان على افعاله، وان افعال الانسان لا يمكن خروجها عن تحت سلطنة الانسان، والفعل لا يخرج عن حد الامكان وهو تساوي الطرفين  الا بإعمال هذه السلطنة، فاذا اعمل هذه السلطنة فقد خرج الفعل عن حد الامكان الى حد الوجوب والا فالسلطنة بنفسها لا توجب خروج الفعل عن حد الامكان وهو تساوي الطرفين، وقد ذكرنا كل ذلك موسعا في مبحث الجبر والتفويض وسوف نشير الى ان هذا الفعل صادر عن المكلف بالاختيار .
واما على نظرية الفلاسفة، فالفعل المتجرى به لا يمكن صدوره بالاختيار، فان الملاك في اختيارية الفعل عندهم كون الفعل مسبوقا بالإرادة، ومن الواضح ان ما اراده المكلف لم يقع في الخارج، فان المكلف اراد شرب الخمر الواقعي وهو لم يقع في الخارج، وما وقع في الخارج فالمكلف لم يرده وهو شرب الماء المباح، فما اراده لم يقع في الخارج وما وقع في الخارج لم يرده، واما مقطوع الخمرية فقد ذكرنا انه ليس متعلقا للإرادة، فان الارادة انما تعلقت بشرب الخمر الواقعي الخارجي لا بشرب الخمر الذهني فان الخمر الذهني ليس بخمر بل هو صورة الخمر، والارادة انما تعلقت بشرب الخمر الخارجي لا بشرب مقطوع الخمرية .
فإذن مقطوع الخمرية ايضا ليس متعلقا للإرادة، فلا يكون صدوره اختياريا، فعلى نظرية الفلاسفة الفعل المتجرى به ليس اختياري وهو شرب الماء المباح فانه لم يرده ولم يكن مسبوقا بالإرادة، وشرب الخمر الواقعي لم يقع في الخارج، وشرب مقطوع الخمرية لم يكن متعلقا للإرادة حتى يكون اختياريا .
ودعوى ان شرب مقطوع الخمرية وان لم يكن متعلقا للإرادة مباشرة، فان متعلق الارادة شرب الخمر الواقعي، ولكن هذه الارادة تسري منه الى شرب مقطوع الخمرية، لان ارادة احد المتلازمين تسري الى الملازم الاخر، وما نحن فيه كذلك، هذه الدعوى مدفوعة :
اولا : انه لا ملازمة بين شرب الخمر الواقعي وشرب مقطوع الخمرية، فان شرب مقطوع الخمرية شرب صورة الخمر في عالم الذهن وهي ليست بخمر ولا ملازمة بينها وبين شرب الخمر الواقعي حتى تسري الارادة المتعلقة بأحدهما الى الاخر .
وثانيا : مع الاغماض عن ذلك وان بينهما ملازمة ولكن لا دليل على سراية الارادة من احد المتلازمين الى الملازم الاخر تكوينا اذا كان التلازم بينهما طوليا، فان المقطوع بالعرض في طول المقطوع بالذات، فمع فرض وجود الملازمة بينهما لا تسري الارادة المتعلقة بالمقطوع بالعرض الى المقطوع بالذات لأنه لا دليل على ذلك لا برهانا ولا وجدانا .
نعم اذا كانت الملازمة بين الشيئين العرضيين او في طول واحد لكن بنحو التوقف، كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته او كالملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضده، فانه لو قلنا بالملازمة أي ان هذه الملازمة تكوينا ثابتة، فان المولى اذا اراد  ايجاب شيء اراد ايجاب مقدمته ايضا في مرحلة المبادي، فان ارادة شيء في مرحلة المبادي تستلزم ارادة مقدماته في هذه المرحلة، واما الملازمة التشريعية في الارادة التشريعية فهي غير ثابتة جزما حتى في هذه الموارد، فان الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته في مرحلة الجعل غير ثابتة، فان اريد بهذه الملازمة ترشح الوجوب من وجوب ذي المقدمة الى المقدمة كترشح المعلول من العلة فهو مستحيل، فان الوجوب امر اعتباري لا واقع موضوعي له في الخارج الا في عالم الاعتبار والذهن وهو فعل اختياري للمولى مباشرة فلا يتصور فيه العلية والمعلولية والتوليد والتولد، فلا يمكن ان يكون الوجوب معلولا لوجوب اخر، لأنه لا يعقل ان يكون الامر الاعتباري علة لاعتبار اخر، فان الامر الاعتباري فعل اختياري للمعتبر مباشرة .
فإذن الملازمة بينهما في مرحلة الارادة التشريعية غير ممكنة بنحو الترشح وبنحو العلية
وان اريد بالملازمة في هذه المرحلة الملازمة بين الجعلين، يعني ان المولى متى جعل وجوب ذي المقدمة فقد جعل وجوب المقدمة ايضا، وهذه الملازمة وان كانت ممكنة ثبوتا الا انه لم تقع في الخارج ولا دليل على وقوعها في الخارج، فان جعل الوجوب من المولى بحاجة الى نكتة تبرر هذا الوجوب والا لكان هذا الوجوب لغوا .
فإذن جعل الوجوب للمقدمة بحاجة الى نكتة، فهل هناك نكتة تبرر جعل الوجوب للمقدمة او لا ؟