الموضوع : القطع

تكلمنا عن المراد من الحكم في التقسيم ، وقلنا أن المراد به هو الحكم الواقعي ، ولا يمكن أن يراد منه الأعم منه ومن الحكم الظاهري ، فإنَّ المجعول في الشريعة المقدسة هو الأحكام الواقعية التي لها خصائص لا توجد في الأحكام الظاهرية ، إذ للأحكام الواقعية دور في تربية الناس ، ولها دور معنوي ، وهي مصب لحق الطاعة ، وفيها مصالح ومفاسد ، فإنها تابعة للملاكات في مرحلة المبادي ، وذكرنا غير مرة أن حقيقة الحكم هو ملاكه ، وأما الحكم بما هو اعتبار فلا قيمة له .

وأما الأحكام الظاهرية فلا يوجد فيها شيء من هذه الخصائص ، وهي مجرد طريق الى إيصال الأحكام الواقعية بنحو من أنحاء الإيصال، إما الإيصال التعبدي أو الإيصال التنجِّيزي أو الإيصال التأميني ، ولا ملاك للأحكام الظاهرية ، وغير قابلة للتنجُّز ، فإنه لا استحقاق للعقوبة على مخالفتها بل العقوبة على مخالفة الحكم الواقعي ، ولا مثوبة على موافقتها إلا بموافقة الحكم الواقعي ، ولهذا يكون النظر اليها آلياً كالنظر الى المعنى الحرفي ، فإنَّ النظر اليها بعنوان أنها مقدمة للإيصال الى الأحكام الواقعية بنحو من أنحاء الإيصال ، والنظر اليها بالمعنى الحرفي لا بالمعنى الإسمي في حين أن النظر الى الأحكام الواقعية بالمعنى الإسمي .

فإذن ليس الحكم الظاهري في مقابل الحكم الواقعي ، بل هو طريق و مقدمة الى إيصاله بدون أن يوجد فيه شيء من خصائص الأحكام الواقعية ، فبطبيعة الحال يكون المراد من الحكم في التقسيم الحكم الواقعي ، سواء أُريد من المكلف أعم من المجتهد والمقلد أو كان المراد منه خصوص المجتهد ، أما إذا كان المراد منه الأعم فالمقلِّد ينظر الى فتاوي الفقهاء بنظر أنها طريق الى الأحكام الواقعية لا بعنوان الموضوعية ، فإنَّ فتوى الفقيه مقدمة الى الوصول الى الحكم الواقعي بنحو من أنحاء الإيصال ، و لا يوجد فيها شيء من خصائص الأحكام الواقعية ، كما لا عقوبة على مخالفة فتوى الفقيه في نفسها إلا العقوبة على مخالفة الحكم الواقعي ، كما لا مثوبة على موافقتها إلا المثوبة على موافقة الحكم الواقعي ، ولا ملاك لها إلا ملاك الأحكام الواقعية .

فإذن النظر الى فتوى الفقيه نظر آلي ومرآتي وبعنوان المقدمة .

وأما المجتهد فهو ينظر الى الأدلة ، ويقوم بالبحث في الأدلة والتدقيق فيها سنداً ودلالة وجهة ، والفحص عن وجود المعارض لها وعدم وجوده ووجود المقيد أو المخصص لها وعدم وجوده وغير ذلك ، فإذا تمت عنده جميع هذه الجهات وتحققت القاعدة العامة عنده ، وبتطبيق تلك القاعدة على عناصرها الخاصة في الفقه يصل الى الحكم الواقعي بنحو من أنحاء الإيصال ، وكل ذلك مقدمة الى الوصول الى الأحكام الواقعية وليس لها موضوعية ، فالموضوعية إنما هي للأحكام الواقعية ، وأما النظر الى هذه الأدلة فهو نظر آلي كالمعنى الحرفي ومقدمة للإيصال الى الأحكام الواقعية بنحو من أنحاء الإيصال ، فمن أجل ذلك لا يمكن أن يراد من الحكم في التقسيم الأعم من الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فإنَّ الحكم الظاهري ليس حكماً حقيقة ، إذ حقيقة الحكم ملاكه والمفروض أنه لا ملاك للحكم الظاهري ، فكيف إذن أن يراد من الحكم في التقسيم الأعم من الحكم الظاهري والحكم الواقعي .

وأما في موارد الأُصول العملية الشرعية ، فالمعروف بين الأصحاب أنها تنقسم الى قسمين :

القسم الأول : الأُصول العملية التنزيلية كالاستصحاب .

القسم الثاني : الأُصول العملية غير التنزيلية كإصالة البراءة الشرعية و إصالة الاحتياط الشرعية ونحوهما .

هذا على المشهور ، وذهب السيد الأُستاذ (قده) الى أن الاستصحاب من الأمارات ، لكن من أدنى أفراد الأمارات ، ويقدم عليه كل فرد من أفراد الأمارات ، وكيف ما كان فقد ذكرنا في بحث الاستصحاب أن الاستصحاب ليس من الأُصول التنزيلية ولا من الأمارات ، بل هو أصل غير تنزيلي كإصالة البراءة وإصالة الاحتياط على تفصيل هناك

وكيف ما كان فبناءً على المشهور من أن الاستصحاب أصل تنزيلي ، فالاستصحاب كما يجري في الأحكام الواقعية كذلك يجري في الأحكام الظاهرية ، كما إذا شككنا في بقاء حجية خبر الثقة ولو من جهة النسخ فلا مانع من استصحاب بقاء حجيته ، أو إذا شككنا أن حجيته مشروطة بإفادة الظن أو لم تكن مشروطة به أو تكون مشروطة بعدم قيام الظن على خلافه أو لم تكن مشروطة بذلك ، ففي مثل هذه الموارد لا مانع من الشك في البقاء إلا أن هذا الاستصحاب استصحاب للطريق الى الحكم الواقعي واستصحاب للإيصال الى الحكم الواقعي بنحو من أنحاء الإيصال ، بدون أن تكون هذه الحجية واجدة لشيء من خصائص الأحكام الواقعية ، فلا ملاك في نفسها إلا ملاك الواقع ، ولا عقوبة على مخالفتها إلا العقوبة على مخالفة الواقع وكذلك الحال في المثوبة .

فإذن هذا الاستصحاب استصحاب المنجز ، وهذا المنجز لا يقبل التنجُّز ، فإنَّ الحكم الظاهري غير قابل للتنجّز ، فإنَّ الحكم إنما يكون قابلاً للتنجُّز إذا كان حكماً حقيقياً ، والحكم الحقيقي هو الذي يشتمل على الملاك فإنه حقيقة الحكم وروحه ، وأما الحكم بما هو اعتبار فلا أثر ولا قيمة له .

فإذن هذا الاستصحاب استصحاب المنجز واستصحاب المقدمة ، وقد ذكرنا أن المراد من الحكم في التقسيم هو الحكم القابل للتنجُّز الذي هو الحكم الواقعي التابع الى الملاك ، والذي تستحق العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته ، وحجية أخبار الثقة ليس كذلك .

وأما لأُصول العملية غير التنزيلية كإصالة البراءة ، فلا شبهة في أن الشك الذي هو مأخوذ في موضوع هذه الإصالة هو الشك في الحكم الواقعي ، فإن كان هذا الشك قبل الفحص لم تجر إصالة البراءة لأن احتمال التكليف الواقعي مساوق لاحتمال العقوبة ، فاحتمال الوجوب الواقعي مساوق لاحتمال العقوبة الواقعية على مخالفته و احتمال الحرمة الواقعية مساوق لاحتمال العقوبة على مخالفتها إذا كانت الشبهة قبل الفحص ، وأما إذا كانت بعد الفحص فلا مانع من التمسك بإصالة البراءة لدفع الكلفة والعقوبة عن الحكم المشكوك ، ومن الواضح أن المراد منه الحكم الواقعي ، فإنَّ الحكم الظاهري لا عقوبة على مقطوعه فضلا عن مشكوكه ومحتمله ، وإصالة البراءة تدفع العقوبة والكلفة عن الحكم المشكوك والمحتمل .

فإذن لا محالة يكون المراد من الحكم المشكوك هو الحكم الواقعي ، وكذلك الحال في موارد إصالة الاحتياط الشرعية في الشبهات التحريمية أو مطلقا ، فإنَّ جماعة من الأخبارين يقولون بوجوب الاحتياط شرعا في مطلق الشبهات وجماعة أخرى يقولون بوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية ، ولا شبهة في أن موضوع وجوب الاحتياط هو الشك في الحكم الواقعي ، فإنَّ الشك في الحكم الواقعي مساوق للشك في العقاب ، فمن أجل ذلك يجب الاحتياط فإنَّ الشك في الحكم الواقعي الوجوبي أو التحريمي مساوق لاحتمال العقوبة على المخالفة ، وهذا الاحتمال منشأ لاستحقاق العقوبة على مسلك الأخبارين ولا يمكن دفعه بإصالة البراءة ، وأما إذا كان الاحتياط عقلياً فإنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط موضوعه احتمال العقوبة على مخالفة الواقع ، فإن احتمال التكليف كاحتمال الوجوب في الواقع أو احتمال الحرمة في الواقع مساوق لاحتمال استحقاق العقوبة على المخالفة طالما لم يكن هناك أصل مؤمن في البين ، فالعقل يستقل بدفع هذا الاحتمال ، فمن أجل ذلك يكون الاحتياط احتياطاً عقلياً ، هذا في الشبهات قبل الفحص وأما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي فأيضاً المراد من الشك إنما هو الشك في الحكم الواقعي ، فإذا علمنا بوجوب الصلاة في يوم الجمعة المرددة بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، فنحتمل وجوب صلاة الظهر ونحتمل وجوب صلاة الجمعة وهذا احتمال مساوق لاحتمال العقوبة على المخالفة طالما لم يكن هناك أصل مؤمن ، والمفروض أن الصل المؤمن غير موجود ، فإن إصالة البراءة عن وجوب صلاة الظهر معارضة بالبراءة عن وجوب صلاة الجمعة فتسقطان من جهة المعارضة ، فالمرجع هو قاعدة الاشتغال وحكم العقل بالاحتياط .

فإذن موضوع وجوب الاحتياط هو الشك في الحكم الواقعي .

فالنتيجة أنه لا شبهة في أن المراد من الحكم في التقسيم خصوص الحكم الواقعي ، ولا وجه لما ذكره صاحب الكفاية (قده) من أن المراد منه الأعم من الحكم الواقعي والحكم الظاهري .

هذا تمام كلامنا في هذا المبحث .