الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/14

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القطع
ذكرنا في مستهل البحث، أنَّ الكلام يقع في فصول ومقدمة، وقد تم الكلام في المقدمة، ويقع بعد ذلك الكلام في فصول البحث .
الفصل الأول : وفيه عدة جهات من البحث
الجهة الأولى : ما ذكره شيخنا الأنصاري (قده)، أنَّ المكلف إذا ألتفت الى حكم شرعي، فإما أن يحصل له القطع به أو الظن أو الشك[1].
وهذه الجهة تتطلب الكلام في عدة نقاط :
النقطة الأولى : هل المراد من المكلف خصوص المجتهد أو أن المراد منه أعم من المجتهد وغير المجتهد ؟
النقطة الثانية : هل أن المراد من الإلتفات في عبارة الشيخ مطلق التوجه الى الأحكام الشرعية في مقابل الغفلة عنها أو أن المراد منها هو النظر الى الأدلة و التفكير فيها و تحقيق جهاتها من السند والدلالة والجهة هذا داخلياً وأما خارجياً فبوجود المعارض لها أو وجود المقيد أو المخصص أو القرينة على الخلاف ؟ فعلى الأول يكون المراد من الإلتفات أعم من إلتفات المجتهد وغير المجتهد وعلى الثاني يختص بالمجتهد .  
النقطة الثالثة : أن المراد من الحكم هو الحكم الواقعي لا الأعم منه ومن الحكم الظاهري .
هذه هي النقاط الثلاثة التي لا بد من البحث فيها في هذه الجهة .
أما النقطة الأولى : فإن كان المراد من الإلتفات مطلق التوجه الى الأحكام الشرعية في مقابل الغفلة عنها، من الوجوبات والتحريمات وأنه مأمور بالإتيان بالواجبات والأجتناب عن المحرمات، كان المراد من المكلف أعم من المجتهد وغير المجتهد، فإنَّ غير المجتهد كالمجتهد ملتفتٌ الى أنه مأمور بالأحكام الشرعية، وإن كان المراد من الإلتفات النظر الى الأدلة والتحقيق فيها في كافة جهاتها داخلياً وخارجياً، كان المراد من المكلف خصوص المجتهد، فإنَّ العامي لا يتمكن من النظر الى الأدلة بكافة جهاتها كذلك .
وأما النقطة الثانية : فإنَّ المجتهد إذا نظر الى الأدلة، فإن كان الدليل قطعياً سنداً ودلالةً وجهةً حصل القطع بالحكم الواقعي، ولا يتصور له معارض، فإنَّ الدليل القطعي لا يمكن أن يكون له معارض أو مقيد أو مخصص، وأما إذا لم يكن قطعياً ولو من بعض الجهات كما إذا فرضنا أنه قطعيٌ سنداً ولكن ليس بقطعي دلالة أو جهة، فلا يحصل للمجتهد إلا الظن بالحكم الواقعي، لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين، فإن كانت أحدى المقدمتين ظنية وكانت الأخرى قطعية كانت النتيجة ظنية، وأما إذا لم يكن الدليل لا ظنياً ولا قطعياً، فالنتيجة هي الشك في الحكم الواقعي .
ثم أن المراد من الظن هو الظن المعتبر أي الظن النوعي، فإنَّ حجية أخبار الثقة بملاك حجية الظن النوعي وكذلك حجية ظواهر الألفاظ كظواهر الكتاب والسنة، والمراد من الشك أعم من الظن الشخصي، فإنَّ الشك بمعنى تساوي الطرفين مجرد إصطلاح من المناطقة ولا أصل له، وإلا فمعنى الشك لغةً وعرفاً عدم العلم الجامع بين الظن والوهم وتساوي الطرفين .
فإذن، تقسيم الشيخ الثلاثي صحيح، فإنه إذا نظر الى الدليل فإن كان قطعياً حصل له القطع بالحكم الواقعي، وإن كان ظنياً بالظن المعتبر حصل له الظن النوعي المعتبر بالحكم، وإلا فيحصل له الشك سواء أكان في ضمن الظن غير المعتبر أو في ضمن الوهم أو في ضمن تساوي الطرفين، فعندئذٍ المرجع هو الإصول العملية .
قد يقال – كما قيل – أن تقسيم الشيخ ثلاثي أنما هو بإعتبار الحجية، فإن الحجية إما واجبة أو ممكنة أو ممتنعة، فإن كانت النتيجة القطع بالحكم الواقعي فحجيته واجبة وضرورية، وإن كانت النتيجة الظن بالحكم الواقعي فحجيته ممكنة، وإن كانت النتيجة الشك بالحكم الواقعي فحجيته ممتنعة، فهذا التقسيم أنما كان ثلاثيا بلحاظ الحجية .
والجواب عن ذلك :
اولاً : إنَّ هذا مبني على أن يكون المراد من الشك هو الشك المتساوي الطرفين وعندئذٍ يكون جعل الحجية للظن ممكن، ولكن ذكرنا أن هذا مجرد إصطلاح من المناطقة ولم يثبت لا لغة ولا عرفاً .
وثانياً : مع الأغماض عن ذلك، فإن أمتناع جعل الحجية للشك المتساوي الطرفين، إنما يكون إذا جعلت الحجية لكلا الطرفين، لأنه جعل الحجية للنقيضين أو للضدين وهو غير معقول، وأما جعل الحجية لإحدهما دون الطرف الأخر فلا مانع منه إذ هو ممكن .
فإذن جعل الحجية إما ممكن أو واجب وليس هنا إمتناع في البين .
والنتيجة أن هذا القيل غير تام.
هذا تمام الكلام في الجهة التي ذكرها الشيخ الأنصاري (قده) وتفصيل ذلك يأتي في ضمن البحوث الأتية .
وأما النقطة الثالثة : فالظاهر أن مراد الشيخ من الحكم هو الحكم الواقعي لا الأعم منه ومن الحكم الظاهري، فإن الحكم الظاهري في موارد الأمارات مقطوع وكذلك في موارد الإصول العملية لا أنه مظنون، هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى، أن صاحب الكفاية (قده) قد عدل عن هذا التقسيم، وجعل المقسم البالغ الذي وضع عليه القلم بدل المكلف الذي هو المقسم عند الشيخ، والمراد من القلم هو قلم التشريع والجعل، فالبالغ الذي وضع عليه قلم التشريع إذا إلتفت الى حكم واقعي فعلي أو ظاهري متعلقاً به أو بمقلديه، فإما أن يحصل له القطع به أو لا، فإن لم يحصل القطع به، فلا بد من إنتهائه الى ما أستقل به العقل من إتباع الظن الإنسدادي بناءً على إنسداد باب العلم على القول بالحكومة وإلا فإلى الإصول العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة الإشتغال [2].
فإذن ما ذكره (قده) يختلف عما ذكره الشيخ (قده)، فإن الشيخ جعل المقسم هو المكلف ولكن صاحب الكفاية جعله البالغ الذي وضع عليه قلم التشريع، ولعل عدوله عما ذكره الشيخ من جهة أن المكلف ظاهر في المتلبس فعلاً بالتكليف من جهة ظهور المشتق في المتلبس بالمبدأ بالفعل، وعندئذٍ قيد الإلتفات يكون لغواً، فإنَّ الإلتفات مأخوذٌ في نفس المكلف وحينئذٍ يكون هذا القيد توضيحياً، هذا من ناحية .

ومن ناحية أخرى، فأن الشيخ جعل التقسيم ثلاثيا في حين أن صاحب الكفاية جعله ثنائياً بإعتبار أنه جعل الحكم أعم من الحكم الواقعي والظاهري ولا وجه لتخصيصه بالحكم الواقعي، فبطبيعة الحال عندئذٍ يحصل له القطع بالحكم الظاهري في موارد الأمارات وإن لم يحصل له القطع بالحكم الواقعي، كما لو كان قاطع بحجية أخبار الثقة وهي حكم ظاهري أو قاطع بحجية الإستصحاب وهي حكم ظاهري أيضاً، ولهذا جعل التقسيم ثنائياً بإعتبار أنه إما ان يحصل له القطع أو لايحصل وعندئذٍ لا بد من الأنتهاء الى ما إستقل به العقل بناءً على إنسداد باب العلم والعلمي على القول بالحكومة، فأن العقل عندئذٍ يحكم بإتباع الظن وإن لم يحكم بذلك فينتهي الأمر الى الإصول العملية العقلية .         


 1  فرائد الإصول، الانصاري، ص 2
[2]  كفاية الاصول، ص 257.