الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القطع
تحصّل مما ذكرنا أنّ إفتراض تصوير تقليدين طوليين أو ثلاثة طولية وإن كان ممكناً ثبوتاً، إلا أن الكلام هو في مقام الأثبات .
وبيان ذلك : إذا قلنا بأن الأحكام الظاهرية التي هي عبارة عن القواعد العامة المشتركة الأصولية، التي هي قواعد ظاهرية كقاعدة حجية أخبار الثقة، وظواهر الألفاظ كالكتاب والسنة، وحجية الإستصحاب وأصالة البراءة وما شاكلها، والتي يعبر عنها بالأحكام الظاهرية الطريقية، فإن قلنا بأنها تشمل المجتهد وغير المجتهد معاً،فعنئذٍ يمكن إفتراض تقليدين
التقليد الأول : فإنه يجوز تقليد المجتهد في المسائل الأصولية، أي في هذه الأحكام الظاهرية والرجوع اليه في إثباتها، فإنَّ إثبات تلك الأحكام وتكوين هذه القواعد العامة الظاهرية إنما هو بيد المجتهد، وأما غير المجتهد فهو غير متمكن من إثبات هذه القواعد العامة على وجهها وشروطها في الحدود المسموح بها شرعاً، كحدود الكتاب والسنة، فلابد له من الرجوع الى المجتهد وتقليده في إثبات هذه الاحكام الظاهرية أعم من أن تكون في موارد الأمارات أو في موارد الأصول العملية الشرعية .
التقليد الثاني : هو التقليد في إثبات الأحكام الواقعية، فإنَّ هذه الأحكام الظاهرية أحكام طريقية وشأنها إثبات الواقع بنحوٍ من أنحاء الإثبات، إما بالعلم بنحو العلم الوجداني كما إذا كانت الرواية قطعية من تمام الجهات، أو بنحو الإثبات التعبدي كما إذا لم تكن قطعيةً، أو بنحو الإثبات التنجيزي أو التعذيري، فإنَّ الأحكام الظاهرية موصلة الى الأحكام الواقعية بنحو من أنحاء الإيصال، وبعد الإيصال يفتي المجتهد بإثبات الأحكام الفقهية، فيجوز حينئذٍ رجوع غير المجتهد اليه من باب الرجوع الى أهل الخبرة ورجوع الجاهل الى العالم، وهذا التقليد في طول التقليد الأول .
وأما إذا قلنا بأنّ الأحكام الظاهرية مختصة بالمجتهدين في الشبهات الحكمية، فإنَّ هذه القواعد العامة الأصولية سواء أكانت من الأمارات أم من الأصول العملية الشرعية فهي مختصة بالمجتهدين ولاتشمل غير المجتهدين، وعندئذٍ لابد من إفتراض ثلاث تقاليد، فإن هذه الأحكام الظاهرية إذا كانت مختصة بالمجتهد فلا يجوز الرجوع الى المجتهد في تلك الأحكام لأنها ليست أحكاماً لغير المجتهد حتى يرجع الى المجتهد في إثباتها، فإذن لابد من إفتراض التقليد في موضوع هذه الأحكام، فإنَّ غير المجتهد يرجع الى المجتهد في إثبات موضوعها له، فإذا رجع الى المجتهد من باب الرجوع الى أهل الخبرة صار غير المجتهد كالمجتهد، فكما أن المجتهد موضوع لهذه الأحكام الظاهرية، فكذلك غير المجتهد غاية الأمر أن المجتهد موضوعاً لهذه الأحكام الظاهرية واقعاً وعن إجتهاد، وأما غير المجتهد فهو موضوع لهذه الاحكام عن تقليد، وبعد صيرورة غير المجتهد موضوعا للأحكام الظاهرية عن تقليدٍ تكون الأحكام الظاهرية حينئذٍ مشتركة بينه وبين المجتهد، وإذا صارت مشتركةً يجوز لغير المجتهد الرجوع الى المجتهد من باب الرجوع أهل الخبرة، فعندئذٍ يقلد المجتهد في إثبات هذه الأحكام، وهذا تقليد ثانٍ، وهو في طول التقليد الأول، والتقليد الأول محقق لموضوع هذا التقليد، فإنَّ التقليد الأول يثبت بأن الأحكام الظاهرية مشتركة بين المجتهد وغير المجتهد وحينئذٍ يجوز رجوع غير المجتهد الى المجتهد في إثبات هذه الأحكام من باب الرجوع الى أهل الخبرة ومن باب رجوع الجاهل الى العالم، وحيث إنَّ هذه الأحكام الظاهرية أحكام طريقية، ففي مرحلة تطبيقها على عناصرها الخاصة في الفقه، تكون النتيجة هي إثبات الأحكام الواقعية بنحوٍ من أنحاء الإثبات، فعندئذٍ يجوز رجوع غير المجتهد الى المجتهد في إثبات الأحكام الواقعية التي هي الأحكام الفقهية، وهذا تقليد ثالث، والتقليد الثاني محقق لموضوع التقليد الثالث .
هذا كله إفتراض بحسب التصوير، وهو وإن كان ممكناً إلا أنه لايمكن تصحيح التقليد الأول والثاني، أما التقليد الأول فلأنه تقليد في موضوع الأحكام الظاهرية، وهو مما لايترتب عليه أي أثر عمليٍ، وحينئذٍ لايكون مشمولاً للسيرة القطعية من العقلاء المرتكزة في الأذهان والممضاة من قبل الشارع في رجوع الجاهل الى العالم أو الرجوع الى أهل الخبرة وهذه السيرة هي  عمدة الدليل على حجية قول أهل الخبرة والبصيرة، فإنَّ غير المجتهد وإن رجع الى المجتهد في إثبات موضوعات الأحكام الظاهرية، إلا أن الأحكام الظاهرية لايترتب عليها أي أثر، وقد ذكرنا أنها أحكام طريقية، وليست أحكاماً عملية، ولا ملاك فيها، فإنَّ شأنها الطريقية الى إثبات الأحكام الواقعية بنحوٍ من أنحاء الإثبات، ولهذا لا تكون مخالفتها موجبة للعقوبة وموافقتها موجبة للمثوبة، فإذن لايترتب على هذا التقليد أي أثر عملي .
وكذلك التقليد الثاني، وهو التقليد في إثبات الأحكام الظاهرية، وهو أيضاً مما لايترتب عليه أثر عملي إلا أثبات الأحكام الواقعية  وإثبات الأحكام الواقعية وإن كان أثراً عملياً إلا أن هذا الإثبات لا يتوقف على هذا التقليد، أي سواء أ كان هذا التقليد أم لم يكن فالأحكام الظاهرية بنفسها أحكام طريقية وهي مثبتةٌ للأحكام الواقعية بنحوٍ من أنحاء الإثبات، فإذن وجود هذا التقليد الثاني كعدمه، فمن أجل ذلك لا يكون مشمولاً للسيرة .
فإذن العمدة هو التقليد الثالث، وهو التقليد في إثبات الأحكام الشرعية الواقعية، فإنَّ النظر الى تلك الأحكام الواقعية نظرٌ بالمعنى الأسمي، بينما يكون النظر الى الأحكام الظاهرية نظرٌ بالمعنى الحرفي، لأنها طريقية محضة، وعلى هذا فالأثر العملي مترتب على التقليد الثالث، وأما التقليد الأول والثاني وإن كانا ممكنين ثبوتاً إلا انه لا دليل عليهما في مقام الإثبات .
هذا من ناحية .
ومن ناحيةٍ أخرى، قد ذكرنا أن الأصول موضوعةٌ لتكوين القواعد العامة المشتركة بالحدود المسموح بها شرعاً، كحدود الكتاب والسنة إذ لا يمكن تكوين القواعد المخالفة للكتاب والسنة فإنه غير معقول، وهذه القواعد قواعد ظاهرية في موارد الشك، حيث أن الوصول الى الأحكام الشرعية الواقعية لا يمكن مباشرةً، فلابد من تكوين القواعد العامة المشتركة في الحدود المسموح بها شرعاً للوصول الى الأحكام الواقعية، وأما الفقه فهو موضوع لتطبيق تلك القواعد العامة المشتركة على عناصرها الخاصة، ونتيجة هذا التطبيق هو الحكم الفقهي، كوجوب شيء أو حرمة شيء، وقد يعبر عن هذه القواعد بأنها قواعد طريقية الى إثبات الواقع، ولا فرق بين التعبيرين، وغير المجتهد يرجع الى المجتهد في نتيجة هذا التطبيق، وهذه النتيجة منظورةٌ بنحو المعنى الأسمي، وفيها مصالح ومفاسد وملاكات، فأنَّ الفارق بين الأحكام الظاهرية التي هي عبارة عن هذه القواعد العامة وبين الأحكام الشرعية الواقعية، أنَّ هذه القواعد العامة لا ملاك لها وليست مشتملةً على الملاك في نفسها، والهدف من تكوينها هو الحفاظ على الأحكام الواقعية بعد عدم أمكان الوصول اليها مباشرةً، فلابد من تكوين هذه القواعد وتطبيقها على عناصرها للوصول الى تلك الأحكام الشرعية بنحو من أنحاء الوصول، وقد يكون هذا الوصول بنحو العلم الوجداني وقد يكون بنحو العلم التعبدي وقد يكون بنحو التنجيز وقد يكون بنحو التعذير، فيختلف ذلك بإختلاف هذه القواعد العامة المشتركة بين أبواب الفقه .
هذا كله في المرحلة الثانية والمرحلة الأولى وهي مرحلة الأمارات ومرحلة الأصول العملية الشرعية، وأما الكلام في المرحلة الثالثة وهي الأصول العملية العقلية، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة الإشتغال، والظن الأنسدادي على القول بالحكومة، ففي هذه الموارد ليس هناك إثبات للحكم الشرعي، إذ ليس للمجتهد إثبات الحكم الشرعي لاتنجيزاً ولا تعذيراً ولا تعبداً، فلهذا لا يجوز الرجوع الى المجتهد من هذه الناحية أي ناحية إثبات الحكم الشرعي، وهل يمكن الرجوع الى المجتهد في هذه القواعد العامة كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنَّ هذه القاعدة مختصة بالمجتهد لإختصاص موضوعها به، وكذلك قاعدة الإشتغال، فإنَّ المجتهد بعد الفحص عن عدم الدليل على أصالة البراءة الشرعية، أو أن الدليل غير تام أما سنداً أو دلالةً، يلتزم بقبح العقاب بلا بيان أي بالبراءة العقلية، وكذا في الظن الأنسدادي يرى أن الأدلة التي أستدل بها على حجية أخبار الثقة وظواهر الألفاظ كظاهر الكتاب والسنة غير تامة، فلهذا يلتزم بالأنسداد على القول بالحكومة، فحجية الظن الأنسدادي عقلاً مختصة بالمجتهد وكذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة الإشتغال، لإختصاص موضوعاتها بالمجتهد، فلا يجوز الرجوع الى المجتهد في تلك القواعد، لأنها ليست مشتركةً بين المجتهد وغيره حتى يرجع اليه، وللكلام تتمة تأتي إن شاء الله تعالى .