الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القطع
إلى هنا قد تبيّن أنه كما يجوز التقليد في المسائل الفقهية كذلك يجوز التقليد في المسائل الإصولية، فإنّ دليل التقليد هو السيرة القطعية من العقلاء المرتكزة في الأذهان والممضاة شرعاً  وهي رجوع الجاهل الى العالم، والرجوع الى أهل الخبرة والبصيرة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المجتهد مجتهداً في الأحكام الفقهية أو مجتهداً في الأحكام الإصولية .
وعلى هذا، فإن قلنا بأنَّ الأحكامَ الظاهرية في موارد الأمارات مختصةٌ بالمجتهدين، كحجية أخبار الثقة، وظواهر الكتاب وماشاكلهما، فلا يجوز الرجوع الى المجتهد في هذه الأحكام، لأنها ليست مشتركةً بين المجتهد وغيره، فلا يجوز التقليد فيها، ولكن يجوز تقليد المجتهد في موضوع هذه الأحكام، كوثاقة سلسلة السند وماشاكلها، فإذا قلّده في موضوع هذه الأحكام الظاهرية، صار المقلِّد كالمجتهد غاية الأمر ان المجتهد عالم بالموضوع عن إجتهاد ونظرٍ، وأما المقلد فهو عالم بالموضوع عن تقليد، فإذا صار غيرُ المجتهد موضوعاً للأحكام الظاهرية فعندئذٍ تكون الأحكامُ الظاهرية مشتركةً بين المجتهد وغير المجتهد، فإذا صارت مشتركةً عندئذٍ يجوز لغير المجتهد الرجوع اليه، وتقليده بها، بإعتبار أن المجتهد عالمٌ بالأحكام الظاهرية ومن أهل الخبرة، فيجوز لغيره الرجوع إليه من باب الرجوع الى أهل الخبرة .
وأما إذا قلنا بأنَّ الأحكام الظاهرية في موارد الأمارات مشتركةٌ بين المجتهد وغير المجتهد، ولكن تلك الأحكام الظاهرية مشروطةٌ بشروط، ولا يتمكن غير المجتهد من تحصيل هذه الشروط وإثباتها، كالفحص عن وجود المخصص والمقيد، والفحص عن وجود المعارض، وعن وجود الدليل الحاكم أو الوارد، فإذا فحص ولم يجد شيئاً من ذلك فعندئذٍ يبني على أنَّ أخبار الثقة حجةٌ، أو ظواهر الكتاب والسنة حجةٌ، بنحو القاعدة العامة والكبرى الكلية، وغير المجتهد يرجع الى المجتهد في هذه المسائل الإصولية، أي في الفحص عن وجود المقيد والمخصص أو عن وجود المعارض، فإذا قلد المجتهد في هذه المسائل فهو فاحص لكن تقليداً، وأما المجتهد فهو فاحص عن أجتهاد ونظرٍ، وكذلك الحال في الإصول العملية الشرعية، فإنّها مختصةٌ بالمجتهدين لإختصاص موضوعها بالمجتهد، ولهذا لا يجوز تقليد المجتهد فيها، ولكن يجوز تقليده في موضوع هذه الأحكام الظاهرية، كما إذا قلده في اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها، وعندئذٍ يصير غير المجتهد كالمجتهد، غاية الأمر أن المجتهد متيقن بالحالة السابقة واقعاً وحقيقةً، وأما غير المجتهد فهو متيقن بالحالة السابقة والشك في بقائها عن تقليدٍ لا واقعاً وحقيقةً .
فإذن هنا تقليدان طوليان :
التقليد الأول : هو التقليد في موضوع الحكم الظاهري، وهذا التقليد يحقق موضوع التقليد الثاني، فإنه إذا قلَّد في إثبات موضوع الحكم الظاهري فيصير غير المجتهد كالمجتهد، فيكون موضوعاً للأحكام الظاهرية، وحينئذٍ تكون الأحكام الظاهرية مشتركةً بين المجتهد وغيره . التقليد الثاني : تقليد المجتهد في إثبات الأحكام الظاهرية المشتركة بينه وبين غيره .
فإذن، التقليد الثاني في طول التقليد الأول، والتقليد الأول محقق لموضوع التقليد الثاني، وهذا نظير حجية الأخبار مع الواسطة، فإذا شمل دليل الحجية الخبر المباشر، يكون الخبر المباشر مثبت للخبر مع الواسطة، والخبر مع الواسطة يكون موضوع لدليل الحجية، فإذن شمول دليل الحجية للخبر المباشر محقق لموضوع دليل الحجية وهو الخبر مع الواسطة، وهكذا الى أن ينتهي الى الشخص الذي ينقل عن الإمام (عليه السلام) مباشرةً , فإذن شمول الحجية للخبر المباشر  يثبت الخبر مع الواسطة، والمفروض أن الخبر مع الواسطة موضوع لدليل الحجية، فإذن شمول دليل الحجية للخبر المباشر يثبت فرد أخر لموضوع هذا الدليل وهو الخبر مع الواسطة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ التقليد الأول محقق لموضوع التقليد الثاني، إذ يجعل التقليد الأول غير المجتهد موضوعا للحكم الظاهري تقليدا، فإذا صار كذلك فيكون الحكم الظاهري مشتركا بينه وبين المجتهد، فإذا كان مشتركاً جاز تقليد المجتهد فيه والرجوع اليه من باب رجوع الجاهل الى العالم .
وعلى هذا، فإذا علم بنجاسة الماء المتغير بأحد أوصاف النجس، فإنّ المجتهد بعد تحقيق أدلة نجاسة الماء المتغير بأحد أوصاف النجس سنداً ودلالةً وجهةً، وبعد تمامية الروايات من جميع هذه الجهات، بنى على نجاسة الماء المتغير بأحد الأوصاف وإن كان الماء بمقدار كُر، فإن الماء إذا كان بمقدار كر وتغير لونه بلون النجس أو رائحته أو طعمه فهو نجس، وأما إذا زال هذا التغيّر بنفسه لا من جهة إتصاله بالكر أو إتصاله بالماء الجاري فعنئذٍ يشك في بقاء نجاسته، فإنّ الأدلة الأولية لا تدل على بقاء نجاسته، والدليل الأخر غير موجود، فبطبيعة الحال يشك في بقاء نجاسته من جهة أن جهة التغيّر هل هي حيثية تعليليةٌ حتى يكون موضوع النجاسة باقياً، فإذا بقي موضوع النجاسة وهوطبيعي الماء فبطبيعة الحال تكون النجاسة باقيةً، أو أن جهة التغير حيثية تقيدية وبإنتفائها ينتفي موضوع النجاسة فعندئذٍ لا تبقى النجاسة لأنها تنتفي بإنتفاء موضوعها، هذا هو منشأ الشك في البقاء، والأستصحاب يجري في المقام بناءً على جريانه في الشبهات الحكمية، وغير المجتهد غير قادرٍ على تحصيل هذا اليقين والشك في البقاء فعندئذٍ يرجع الى المجتهد ويقلده في ذلك، فإذا رجع الى المجتهد من باب الرجوع الى اهل الخبرة وقلده فيه صار كالمجتهد، غاية الأمر أن المجتهد متيقن بنجاسة الماء المتغير حقيقة وواقعاً ويكون شاكاً في بقائها بعد زوال التغير بنفسه حقيقة وواقعا، وأما غير المجتهد فهو متيقن بحدوث نجاسة الماء المتغير وشاك في بقائها تقليدا لا واقعا وحقيقةً، فعندئذٍ بطبيعة الحال يكون الإستصحاب مشتركاً بين المجتهد وغيره وحينئذٍ يجوز رجوع غير المجتهد الى المجتهد من باب الرجوع الى أهل الخبرة، فالتقليد الأول يكون محققاً لموضوع التقليد الثاني .
وأما ما جاء في كتابنا المباحث الإصولية وذكرناه في الدورات السابقة أن المكلف قد يكون مجتهداً في تكوين القواعد العامة، ولا يكون مجتهداً في تطبيقها على مصاديقها وعناصرها الخاصة في الفقه أو بالعكس، فهو مجرد إفتراضٍ، لا واقع موضوعي له، ولا يمكن التفكيك بينهما بأن يكون الشخص مجتهداً في تكوين القواعد العامة والنظريات المشتركة ولا يكون مجتهداً في تطبيقها على عناصرها الخاصة في الفقه، لأن معناه تفكيك الفقه عن الإصول وهو غير معقول، فإنّ الفقه يخرج من بطن الإصول وليس علماً مستقلاً، ومن هنا قلنا أن الذهنية الإصولية مهما تطورت وبلغت ذروتها أنعكست تماماً في الذهنية الفقهية أي في مرحلة التطبيق، وعندئذٍ لا يمكن التفكيك بين مرحلة التطبيق ومرحلة التكوين .
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هل يصح هذان التقليدان أي التقليد في موضوع الحكم الظاهري والتقليد في نفس الحكم الظاهري، فهل هذا جائز والدليل يدل عليه أو لايمكن إثبات ذلك بدليل وسوف يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .