45/10/14
موضوع: الدرس مائة وسبعة وخمسون: الوجه الثالث في الفرق بين الواجب التعبدي والتوصلي
الوجه الثالث في الفرق بين الواجب التعبدي ما يظهر من عبارة صاحب الكفاية[1] ـ رحمه الله ـ .
والفرق يكمن في أن الأمر التوصلي والتعبدي كلاهما يتعلق بذات الفعل إلا أن الأمر التوصلي يكفي في حصول الغرض منه مجرد الإتيان بمتعلقة فيسقط بخلاف الأمر التعبدي فيبقى بشخصه بعد الإتيان بمتعلقه إذا جيء به من دون قصد القربة لأن الغرض من الواجب التعبدي لا يحصل خارجاً إلا إذا جيء بمتعلقه مع قصد القربة، فسقوط الأمر يتبع حصول الغرض ولا يترتب على مجرد الإتيان بمتعلقه.
ففي الوجه الأول ركزنا على المتعلق وأن قصد امتثال الأمر قد أخذ في متعلق الأمر.
وفي الوجه الثاني ذكرنا أمرين:
الأول يتعلق بذات الطبيعة.
والثاني يقيد الطبيعة بقصد الامتثال الأمر أو قصد القربة.
لكن في هذا الوجه يقال: إن الأمر يتعلق بذات الفعل ولا يسقط الأمر بمجرد الإتيان بمتعلقه بل لابدّ من ملاحظة تحقق الغرض أو لا؟ فإن تحقق الغرض سقط الأمر وإن لم يتحقق الغرض لا يسقط الأمر.
ويرد عليه: إن الالتزام بعدم سقوط الأمر عند المجيء بمتعلقه هذا مستحيل، فلو أتى المكلف بمتعلق الأمر كالصلاة خارجاً، ولم يقصد القربة إلى الله تعالى، فهنا نقول: إن الأمر بالصلاة هل يتعلق بالجامع للصلاة بين الفرد الذي جاء به وهو الصلاة غير القربية وبين سائر أفراد الصلاة الأخرى؟
فإذا التزمنا إن الأمر يتعلق بالجامع بين جميع الأفراد بما فيها الفرد الذي جاء به فحينئذ بعد أن جاء بالفرد الأول حينئذ يتحقق الجامع فإذا تحقق الجامع يسقط الأمر لأن متعلق الأمر قد تحقق وقد حصل وتحت الحاصل محال فلا محالة يسقط الأمر ولو بالالتزام بأن معنى سقوط الأمر هو عبارة عن سقوط محركيته.
هذا الفرق الأول أن الأمر يتعلق بالجامع بين الأمر الأول وبقية الأفراد بين الفرد الأول وبقية الأفراد.
الفرض الثاني الاحتمال الثاني أن نلتزم أن الأمر يتعلق بالجامع بين الأفراد دون الفرد الأول الذي جاء به، وهذا يعني سقوط الأمر الأول لأن شخص الأمر يتقوم بشخص متعلقه وحدوده فالالتزام بهذا الوجه الثالث ليس بتام.
الوجه الرابع في الفرق بين الواجب التعبدي والتوصلي وهو ما اختاره الشهيد السعيد السيد محمد الصدر[2] .
ومفاد الوجه الرابع أن الأمر التوصلي كان ناشئاً من غرض في ذات الفعل بلا حاجة إلى قصد القربة فحينما يسقط بشخصه بإتيان ذات الفعل من دون قصد الامتثال لا يتولد أمر جديد بالفعل لأن الغرض من الواجب التوصلي قد حصل وهو تحقق ذات الفعل كالصلاة ولو من دون قصد الامتثال.
طبعاً التوصلي مثلاً غير الصلاة الصلاة تعبدي مثل ماذا؟ دفن الميت بخلاف الأمر التعبدي فهو ناشئ من غرض لا يستوفى إلا بالإتيان بالحصة القربية خاصة، فيشترك الواجب التوصلي مع الواجب التعبدي في أنهما يتعلقان بذات الفعل، لكن الواجب التوصلي يسقط بمجرد الإتيان بالفعل لأنه لم يؤخذ في غرضه قصد القربة.
بخلاف الواجب التعبدي فإنه لا يسقط بمجرد الإتيان بذات الفعل لأن الغرض من الواجب التعبدي لا يحصل إلا إذا قصد القربة، فإذا لم يأت بالحصة القربية لا يسقط الأمر.
وهنا قد يقال: إن الأمر بذات الفعل قد يسقط، وقد يقال: إن الأمر بذات الفعل لا يسقط، أي أن المكلف إذا جاء بذات الفعل كالصلاة فإنه قد جاء بما تعلق به الأمر وهو الصلاة، لكن إذا لم يقصد القربة فإنه يتولد أمر جديد، فإن جاء في المرة الثانية بالصلاة القربية سقط الأمر ولا يتولد أمر جديد وإن جاء في المرة الثانية بالصلاة من دون التقرب إلى الله فإنه يتولد أمر ثالث وهكذا.
والسر في تولد الأمر الجديد مرة أخرى بعد الإتيان بالفعل، هو: بقاء الغرض، وأن الغرض باقٍ وغير مستوفٍ، فكما دعا هذا الغرض المولى من أول الأمر إلى أن يأمر كذلك الأمر يدعوه نفس الأمر إلى أن يأمر لكن هذا الأمر الجديد لا يتعلق بالجامع بين الفرد الذي جاء به وبقية أفراد الجامع بل الأمر الجديد الذي يتولد إنما يكون بالجامع بين الأفراد الأخرى غير الفرد الذي جاء فيقول له: صل مرة أخرى.
وهذا الوجه الرابع يشترك مع الوجه الثالث في أن الأمر نشأ من الغرض في حصة خاصة من الفعل وهو خصوص الفعل القربي ولكنه متعلق بذات الفعل.
لكن الوجه الرابع يختلف عن الوجه الثالث في أن الوجه الثالث كان يرى بقاء شخص الأمر إلى أن يحصل الغرض بالإتيان بالفعل بقصد القربة، بينما الوجه الرابع يرى أن الأمر بالفرد الذي جاء به يسقط لكن الأمر يتجدد ويتعلق بالجامع بين الأفراد الأخرى وليس منها الفرد الذي جاء به.
هذه مقارنة بين الوجه الثالث والوجه الرابع، الوجه الثالث لا يرى سقوط الأمر، الوجه الرابع يرى سقوط الأمر وتجدده.
وهكذا إذا قارنا بين الوجه الرابع والوجه الثاني فإنه في الوجه الثاني يوجد تعدد في الأمر كما أنه في الوجه الرابع يوجد تعدد في الأمر، فالثاني والرابع يشتركان في تعدد الأمر، لكن تعدد الأمر في الرابع يختلف عن تعدد الأمر في الثاني، ففي الثاني يقول: يوجد أمرٌ بالمتعلق وبالطبيعة هذا أمر أول والأمر الثاني تقييد الطبيعة بقصد القربة.
بينما في الوجه الرابع لا يوجد أمر ثاني من أول الأمر لكن الأمر الثاني يتولد وينشأ إذا لم يأت بالحصة القربية، ويتعلق الأمر الثاني بنفس متعلق الأمر الأول بخلاف الوجه الثاني الذي يرى أن متعلق الأمر الأول هو الطبيعة ومتعلق الأمر الثاني هو تقييد الطبيعة بقصد القربة، فمتعلق الأمر الأول غير متعلق الأمر الثاني في الوجه الثاني لكن متعلق الأمر الأول نفس متعلق الأمر الثاني في الوجه الرابع.
ولا يوجد أمر ثاني من أول الأمر بل الأمر الثاني يتولد حينما يأتي بمتعلق الأمر الأول من دون قصد القربة فإذا لم يأتي بالحصة القربية تولد أمر ثاني وهكذا إذا لم يأتي يتولد أمر ثالث ورابع وخامس إلى آخره.
ولتقريب المطلب:
لو كان المولى وهو الشيخ العظيم كأمثالكم جالس على عرشه في مكتبته، ويريد خصوص كتاب الوسائل، ومعه أبناؤه أو خدامه وأراد أن يعلمهم التعلق بالكتب والشغف بالعلم، فيعرف أنه لو قال لهم: ائتوني بكتاب الوسائل سيضيعون ولن يحضروا خصوص كتاب وسائل الشيعة يقوم بنفسه ويحضر الكتاب أحسن.
ولكن قال لهم: احضروا لي كتاباً، فالأمر قد تعلق بمتعلق واحد وهو إحضار الكتاب ولكن ليس غرضه فقط إحضار الكتاب بل غرضه تعلق بخصوص كتاب الوسائل، فحينئذ إن امسك الولد كتاباً وجاء به وطلع الكتاب كتاب الوسائل لم يأمره مرة ثانية.
فبما أن إحضار الكتاب قد حقق الغرض سقط الأمر، ولكن لو احضر الولد أو الخادم غير كتاب الوسائل ككتاب الكافي أو الوافي وهذا الإحضار لا يحقق الغرض فحينئذ يقول له: يا ولدي احضر لي كتاباً آخر فإن جاءه مرة ثانية بغير كتاب الوسائل، قال يا ولدي: احضر لي كتاباً آخر إلى أن يحضر كتاب الوسائل ومتى ما صادف أنه احضر كتاب الوسائل كالمرة العاشرة مثلاً يقول: الأمر يكفي تعبناك يا ولدي كافي.
فهنا الأمر قد تعلق بالفعل وهو إحضار الكتاب ويسقط الأمر بإحضار الكتاب والقيام بالفعل لكن إذا لم يتحقق الغرض وهو خصوص كتاب الوسائل فحينئذ يتولد أمر جديد حتى يستوفى الغرض.
إلى هنا هذا كلامنا كله في جهة ثبوتية واقعية إمكانية ما هو الفارق بين الواجب التعبدي و التوصلي ثبوتاً؟ يعني ما هو الذي يمكن أن يشكل فارقاً بين الواجب التعبدي والواجب التوصلي، وذكرنا أربعة وجوه نحن نلتزم بالوجه الأول لأن الشهيد الصدر يلتزم بالوجه الرابع.
وخلاصة ما ذكره الشهيد الصدر في الوجه الرابع:
أن الأمر التعبدي من زاوية عالم والحقيقة عبارة عن الأمر المتجدد نتيجة عدم تحقق الغرض، لكن هذا من ناحية عالم الثبوت.
وأما من ناحية عالم الإثبات فهو عبارة عن الأمر المتقيد بقصد القربة.
والسر في ذلك:
إنما التزم الشهيد الصدر من أن التقييد الثبوتي بقصد القربة محال ليس محالاً على الإطلاق ومن كل أمر، فهناك قواعد محالة على الإطلاق كقاعدة الجمع بين الضدين فهي على كل الأحوال لا يمكن أن يجتمع الضدان والنقيضان لا يجتمع ولا يرتفعان.
لكن هناك بعض الحالات تستحيل في بعض الحالات، مثلاً: العبد المشلول يستحيل أن وجه إليه الأمر من قبل المولى حال كونه مشلولاً لكن لا يستحيل من مولى يتخيل أنه في تمام الصحة والسلامة.
ومن هنا يقع الكلام في أن استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر التي ذهب إليها مشهور الأصوليين ووافقهم الشهيد الصدر استناداً إلى وجوه أربعة وخالفناه وفاقاً للإمام الخميني والسيد الخوئي وقلنا بالإمكان فهنا نقول: بناء على الاستحالة، هذه الاستحالة هل هي مطلقة أو مقيدة في حالة خاصة؟
الشهيد الصدر يقول: أقمت أربعة وجوه، وجوه ثلاثة منها تفيد الاستحالة المقيدة وهو الوجه الأول والثالث والرابع ووجه واحد منها وهو خصوص الوجه الرابع يفيد الاستحالة المطلقة، ولكن وهو محذور لزوم التهافت في اللحاظ، وهذا أيضاً يمكن التصرف فيه بحيث لا يتنافى مع الاستحالة المقيدة.
فتكون النتيجة النهائية عند الشهيد الصدر: إن استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر استحالة ليست مطلقة وإنما هي استحالة مقيدة، فما هو هذا القيد؟
يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ رحمه الله ـ :
لو رجاعنا إلى الإنسان العرفي الذي لا يلتفت إلى هذه النكات العلمية لزوم الدور ولزوم التهافت في اللحاظ فإننا نجد أن الإنسان العرف والعادي لا يرى استحالة في أخذ قصد القربة في الصلاة وغيره من الأمور العبادية، فتكون الاستحالة خاصة بخصوص العالم الأصولي والمدقق والعالم المحقق، وهذا استحالة ثبوتية، وعند العرف ثبوتاً ممكن، الكلام في عالم الإثبات بما أن الشارع يخاطب العرف ولا يمشي على التدقيقات الأصولية وبما أن العرف يرى جواز أخذ قصد القربة في متعلق الأمر فإن الشارع له أن يسير على ذلك ويأخذ قصد القربة في متعلق الأمر إثباتاً.
انتهى الدرس أنا في الختام اقرأ نص عبارة أستاذنا السيد كاظم الحائري، وهذه نفس العبارة أيضاً تراجعونه في تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، الجزء الرابع، صفحة مئتين وخمسة وسبعين، وتقرير أستاذنا السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، الجزء الثاني، صفحة ستة وتسعين.
قال ما نصّه[3] :
«إذا فهذه التقريبات كلها» التقريبات الأربعة لاستحالة أخذ قصد القربة في الأمر «كلها تنتج في حق الملتفت إلى هذه النكات، فصح أن نقول أن أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ثبوتاً معقولٌ من الإنسان العرفي وإن كان غير معقول من الأصول الدقيق والشارع» هذا الكلام في عالم الثبوت عندنا الملتفت مستحيل غير الملتفت ممكن.
«وهذا يؤكد أن المولى الدقيق وإن كان يعرف دقة أن الصحيح هو التجدد لا التقييد» السيد الصدر يقول: ثبوتاً يوجد تجدد في الأمر ولا يوجد تقييد لأن التقييد مستحيل ثبوتاً لكن إثباتا يمشي على ما يمشي عليه العرف.
يقول: «ولكن من حقه إثباتا أن يتكلم بلسان التقييد حيث أن المولى العرفي في مقام البيان يتابع العرف» انتهى كلامه.
يعني والعرف بما أنه يرى الإمكان ثبوتاً يمكن أن يجري على ذلك إثباتاً والشارع يتكلم بلسان العرف.
فالنتيجة النهائية:
الشارع بالنسبة إلى الواجب التعبدي يمكن أن يأتي به صياغة التقييد يعني تقييد الفعل بقصد القربة وإن كان بحسب الواقع هو عبارة عن التجدد لا التقييد.
النتيجة النهائية انتهينا إلى نفس النتيجة:
الواجب التوصلي هو الواجب الذي يراد به ذات الفعل من دون التقييد بقصد القربة، فالمهم هو التوصل إلى الفعل بينما الواجب التعبدي هو الواجب الذي أخذ فيه الإتيان بالفعل بقيد قصد القربة إلى الله تعالى.
إلى هنا كان الكلام في مقدمة تمهيدية لتصوير الفارق بين الواجب التعبدي والواجب بالتوصلي، هذا مقدمة تمهيدية للبحث، أصل البحث إذا شككنا أن هذا الواجب تعبدي أو توصلي هنا سؤالان:
السؤال الأول ما هو مقتضى الأصل اللفظي هل هو التعبدية أو التوسلية؟
السؤال الثاني ما هو مقتضى الأصل العملي هل هو التعبدية أو التوصلية؟
مقتضى الأصل اللفظي يأتي عليه الكلام.