الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/10/13

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة وستة وخمسون: الوجه الثاني في الفرق بين الواجب التعبدي والتوصلي

 

الوجه الثاني في الفرق بين الواجب التعبدي والتوصلي أن الأمر العبادي فيه أمران بخلاف الواجب التوصلي ففيه أمر واحد فقط، فتفسر عبادية الأمر بتعدد الأمر لكن في الواجب التوصلي لا يوجد إلا أمر واحد متعلق بذات الفعل، بينما في الواجب التعبدي يوجد أمران:

أحدهما يتعلق بذات الفعل كالصلاة.

والثاني يتعلق بالإتيان بالفعل بقصد الأمر الأول.

وهذا البحث قد يطول فقد ذكر الشيخ حسن عبد الساتر هذا البحث في ثلاثة وعشرين صفحة يراجع بحوث في علم الأصول، الجزء الرابع، صفحة مئتين وواحد وعشرين إلى مئتين وستة وستين.

وذكره سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحسيني الحائري في عشر صفحات، مباحث الأصول، الجزء الثاني، صفحة مئة واثنين وثمانين إلى صفحة مئة واثنين وتسعين.

وذكره سيدنا الأستاذ السيد محمود الهاشمي الشاهرودي في أقل من أربع خمس صفحات بحوث في علم الأصول، الجزء الثاني، صفحة تسعة وثمانين إلى الصفحة ثلاثة وتسعين.

ونحن نقتصر على المختصر المفيد.

والفارق بين الوجه الأول والوجه الثاني: أن الوجه الأول يرى وجود جعل واحد وأمر واحد فقط وهو إما أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر كما في المقام الأول أو أخذ قصد القربة في متعلق الأمر كما في المقام الثاني أو أخذ الجامع بين قصد امتثال الأمر أو قصد القربة أو غيرهما من الوجوه كالمحبوبية في متعلق الأمر.

ففي الوجه الأول يوجد أمر واحد بخلاف الوجه الثاني فهو يرى أن الواجب التعبدي فيه أمران بخلاف الواجب التوصلي ففيه أمر واحد فقط.

ثم اختلف المحققون من الأصوليين في بيان هذين الأمرين ففسروا الواجب التعبدي بعدة صيغ، نذكر منها ثلاث صياغات متفاوتة فيما بينها على الرغم من اشتراكها جميعاً في أصل الفكرة وهي تعدد الأوامر في الواجب التعبدي ووحدة الأمر في الواجب التوصلي.

الصياغات الثلاث كما يلي:

الصياغة الأولى ما جاء في كفاية الأصول من أن الأمر الأول في الواجب التعبدي يتعلق بذات الفعل مطلقاً ويأتي التقييد بقصد الأمر بأمر ثانٍ مستقل عن الأمر الأول جعلاً ومجعولاً[1] .

والخلاصة:

الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المطلقة.

والأمر الثاني يقيد الطبيعة المطلقة الواردة في الأمر الأول.

وقد أورد على الصياغة الأولى بأنه إذا جاء المكلف بالفعل كالصلاة الذي هو متعلق الأمر الأول لكن من دون قصد الامتثال الذي هو القيد الموجود في الأمر الثاني، فهل يسقط الأمر الأول أو لا؟

فإن قيل بالسقوط لزم منه سقوط الأمر الثاني ولو عصياناً، وبالتالي يلزم عدم وجوب الإعادة، وهو خلف الفرض إذ أن افتراض وجود أمرين يقتضي أن الطبيعة التي لا تتوفر على كلا الأمرين توجب الإعادة.

الاحتمال الثاني وإن قيل بعدم السقوط، وبقاء الأمر الأول برغم تحقق متعلقه وهو ذات الفعل خارجاً كالصلاة التي بها خارجاً، لزم أن يكون من طلب الحاصل إذ لا معنى لبقاء الأمر والطلب برغم ما تعلق به.

لكن هذا الإشكال يمكن الإجابة عليه بالالتزام بأن الأمر الأول يسقط بشخصه لكن نظراً لبقاء غرضه وملاكه فإنه يتولد أمر آخر، فمن ناحية الأمر الأول لا يوجد إشكال، فهو باقٍ نظراً لبقاء غرضه وملاكه، إنما الإشكال من ناحية الأمر الثاني، وما هي الفائدة التي تترتب على جعله؟ فهل الأمر الثاني له محركية زائدة طالما يبقى الأمر الأول ويكون متجدداً بنوعه ما لم يأتي المكلف بقصد الأمر؟

إذاً الصياغة الأولى وهي أن الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المطلقة، والأمر الثاني يقيد الأمر بقصد الامتثال هذه الصياغة ليست تامة.

الصياغة الثانية ما ذهب إليه المحقق العراقي ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ من أن الأمر الثاني وإن كان مستقلاً في مرحلة المجعول والفعلية، ولكنه متحد مع الأمر الأول جعلاً وإنشاءً نظير جعل الحجية للخبر المباشر وخبر الواسطة بجعل واحد برغم انحلاله إلى مجعولين استقلاليين[2] .

وخلاصة الصياغة الثانية، والفارق بينها وبين الصياغة الأولى:

فالصياغة الأولى ترى وجود جعلين ومجعولين بينما الصياغة الثانية للمحقق العراقي ترى وجود جعل واحد فقط لكنه ينحل إلى مجعولين، فلو قال المولى: صدق الخبر، فهنا جعل واحد فقط، وهو وجوب تصديق خبر الثقة لكنه ينحل إلى مجعولين:

المجعول الأول خبر الثقة المباشر.

المجعول الثاني خبر الثقة مع الواسطة.

فهنا جعل واحد فقط ولكن يوجد مجعولان.

وفيه: هذه الصياغة خلاف الظاهر، فالظاهر هو وحدة الجعل ووحدة المجعول، وحمل الأمر على وجود جعلٍ واحد ومجعولين خلاف الظاهر، فقد يقال: هذا خلاف واقع الأوامر العبادية الثابتة في الفقه الظاهرة في أن الجعل واحد والمجعول أيضاً واحد، كما أن الشهيد الصدر يرى أن صياغة المحقق العراقي لا تسلم من إشكال الوجه الثالث والرابع من الإشكالات التي ذكرها على المقام الأول في الوجه الأول أي أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر.

الصياغة الثالثة ما ذهب إليه المحقق النائيني[3] ـ رحمه الله ـ من وجود أمرين وفاقاً للصياغة الأولى وخلافاً للصياغة الثانية، لكن الصياغة الأولى ترى أن الأمر الأول قد تعلق بالطبيعة المطلقة، والأمر الثاني قيدت الطبيعة المطلقة.

لكن الميرزا النائيني يرى أن الأمر الأول قد تعلق بالطبيعة المهملة أي الماهية لا بشرط المقسمي لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الملكة وعدمها فإذا استحال التقييد استحال إطلاق، فيستحيل أن يتعلق الأمر الأول بالمستحيل وهو الطبيعة المطلقة، فيتعين أن يتعلق الأمر الأول بالطبيعة المهملة أي الماهية المهملة لا الماهية المطلقة ولا الماهية المقيدة.

وهنا يأتي إشكال الماهية مهملة مبهمة فلا بدّ من رفع هذا الإهمال الواقع في الأمر الأول، فيأتي الأمر الثاني كمتمم للجعل في الأمر الأول، فالأمر الثاني المتوفر على التقييد متممٌ للجعل في الأمر الأول المتعلق بالماهية المهملة والمبهمة.

إذاً يوجد أمران:

الأمر الأول تعلق بالطبيعة المبهمة ولا تقل الطبيعة المطلقة لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق، فيقع إشكال ثاني هذا الأمر الأول تعلق بأمر مبهم ولابد من رفع هذا الإبهام، فيأتي الأمر الثاني لرفع الإبهام في الأمر الأول فيكون الأمر الثاني متمماً للجعل ولا تقل مقيداً للإطلاق في الأمر الأول بل قل متمماً للجعل في الأمر الأول ورافعاً للبس والإبهام فيه.

وقد أورد على الميرزا النائيني تلميذه الوفي السيد أبو القاسم الخوئي إيرادان:

الإيراد الأول مبنائي فمن الواضح أن التقابل بين الإطلاق في عالم الإثبات هو تقابل الملكة وعدمها هذا عند مشهور الأصولية لكن وقع الخلاف بين الأصوليين في عالم الثبوت، فما هي النسبة؟ وما هو نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت؟

توجد ثلاثة أقوال:

القول الأول ما ذهب له الميرزا النائيني من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت هو نفس التقابل بينهما في عالم الإثبات وهو تقابل الملكة وعدمها.

القول الثاني ما ذهب له السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ من أن التقابل بينهما ثبوتاً هو تقابل التضاد، فإذا استحال التقييد وجب الإطلاق لأن الضدين لا يرتفعان معاً، فإذا وجب ارتفاع التقييد وجب ثبوت الإطلاق.

القول الثالث التقابل بينهما في عالم الثبوت هو تقابل التناقض أي الوجود والعدم، وهو ما ذهب إليه السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ رحمه الله ـ .

فالجواب الأول جواب مبنائي الميرزا النائيني يقول تقابل الملكة وعدمها، السيد الخوئي يقول تقابل التضاد، يأتي الشهيد الصدر ويقول تقابل التناقض، وبحثه في بحث الإطلاق والتقييد.

الإيراد الثاني وهو المهم..

يقول السيد الخوئي إن الإهمال في الأمر الأول غير معقول حتى ندعي أن هذا الإهمال يرتفع بالأمر الثاني ومتمم الجعل، وقد ذكر السيد الخوئي بيانين وتعبيرين، لعدم معقولية الإهمال في الأمر الأول.

البيان الأول أن يقال باستحالة هذا الإهمال لأن الحكم له حظٌّ من الوجود في أفق الذهن وعالم الاعتبار وكل شيء له حظّ من الوجود لا بد أن يكون متعيناً في صقع وجوده ويستحيل أن يبقى مردداً.

في الواقع لا يوجد إبهام في الوجودات الواقعية لا يوجد الفرد المردد والفرد المهمل يوجد الفرد المتعين.

البيان الثاني أن يقال إن الأمر من مجعولات الأمر، وهو ينشئ الأمر من خلال تصوره للصور الذهنية والعلمية، فلا يعقل أن يكون الأمر والجاعل متردداً أو جاهلاً بما جعله حين جعله[4] .

وقد ناقشه الشهيد الصدر في كلا التعبيرين والبيانيين، لكنه انتهى إلى عدم صحة الإهمال لبيان آخر.

والخلاصة:

إن إشكال السيد الخوئي على الميرزا النائيني مبني على تفسير الإهمال في كلام المحقق النائيني بالإهمال الوجودي أي الوجود المردد بين المطلق والمقيد مع أن الميرزا النائيني لا يريد الإهمال الوجودي من الواضح أن الوجود متعين في صقع الواقع بل مراد الميرزا النائيني المفهومي، وهذا المفهوم هل هو مطلق أو مقيد أو مبهم؟ فلا يرد إشكال السيد الخوئي على الميرزا النائيني بالنسبة للتعبير الأول أو التعبير الثاني.

نعم، ذكر الشهيد الصدر إشكالين آخرين على نقتصر على بيان إشكال واحد وتراجعونه بحوث في علم الأصول الجزء صفحة ثمانية وتسعين.

وهو إن تعلق الأمر بذات الطبيعة المهملة إما أن يقال أنه في قوة الجزئية كما ذهب إليه المشهور وقالوا إن المهمل في قوة الجزئي، وإما أن يقال أنه في قوة المطلقة كما ذهب إليه الشهيد الصدر ـ رضوان الله عليه ـ حينما اصطلح هذا المصطلح الإطلاق السرياني أو الإطلاق الذاتي للطبيعة، وهذا سيأتي بيانه وتقدمت الإشارة إليه فيما سبق.

فبناءً على مبنى الشهيد الصدر تكون المهملة في قوة المطلقة لا في قوة الجزئية والمقيدة فيأتي الإشكال الوارد على الصياغة الأولى للآخوند الخرساني في الكفاية الذي قال: إن الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المطلقة هذا لو التزمنا بمبنى الشهيد الصدر.

ولو التزمنا بمبنى المشهور وهو أن المهمل في قوة الجزئية أي المقيدة فحينئذ لا حاجة للأمر الثاني ومتمم الجعل الذي يقيد الأمر الأول لأن الفائدة والغرض من الأمر الثاني هو تقييد الأمر الأول ورفع الإبهام عن الأمر الأول، والأمر الأول تعلق بالماهية المبهمة والماهية المبهمة في قوة الجزئية والمقيدة فلا حاجة إلى الأمر الثاني.

نعم، لو كان غرض المتكلم هو الإطلاق فحينئذٍ يحتاج إلى الأمر الثاني لإثبات الإطلاق ورفع التقييد والإبهام عن الأمر الأول لأن الأمر الأول تعلق بالماهية المهملة وهي في قوة الجزئية والمقيدة، فإذا كان مقصود المتكلم الماهية المطلقة يتعين عليه حينئذ أن يأتي بالأمر الثاني لإثبات الإطلاق ورفع التقييد.

هذا تمام والكلام في الوجه الثاني في التفرقة بين الواجب التوصلي والتعبدي وهو حمل التعبدي على وجود أمرين وحمل التوصلي على وجود أمر واحد، واتضح أن الوجه الثاني بصيغه الثلاثة ليس بتام.

إلى الآن ثبت عندنا الوجه الأول دون الوجه الثاني، والشهيد الصدر لم يثبت عنده الوجه الأول ولا الثاني ولا الثالث ويتعين عنده الوجه الرابع.

الوجه الثالث للتفرقة بين الواجب التوصلي والتعبدي، يأتي عليه الكلام.


[1] كفاية الأصول، ج1، ص111.
[2] مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، ج1، ص77.
[3] أجود التقريرات، السيد الخوئي، ج1، ص103 و 104 و 116.
[4] هامش أجود التقريرات، السيد الخوئي، ج1، ص103 و 104.