45/05/08
الموضوع: اعتبار العلو في مفهوم الأمر
هل يعتبر في مفهوم الأمر العلو؟ أو كلا الأمرين من العلو والاستعلاء؟ أو أحد الأمرين الجامع بين العلو والاستعلاء؟ أو لا يعتبر شيء من ذلك؟، توجد عدة احتمالات كما أن هذا البحث يساق على محورين:
وسيتضح في نهاية البحث إن شاء الله تعالى اعتبار العلو الحقيقي في مادة الأمر على كلا المسلكين، وعدم اعتبار الاستعلاء فضلاً عن الجامع بين العلو والاستعلاء، ولنشرع في تفصيل ذلك:
يمكن أن يقال إن موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة هل هو خصوص الطلب الصادر مع العلو فقط؟ أو الطلب الصادر مع العلو والاستعلاء معاً؟ أو مطلق الطلب ولو بدون علو أو استعلاء؟ أو الجامع بين العلو والاستعلاء؟
ومن الواضح أن العقل يحكم بوجوب طاعة الأمر الصادر من العالي حقيقة، فهنا حكم وموضوع والحكم هو حكم العقل بوجوب الإطاعة، والمراد من الحكم هو الإدراك لأن العقل من شأنه أن يدرك لا أن يحكم.
وأما الموضوع فهو الطلب الصادر من المولى، ومن الواضح أن المراد بالمولى خصوص المولى الحقيقي دون المولى الذي يستعلي، فالطلب إذا صدر من المولى الحقيقي حتى لو لم يكن بلغة الاستعلاء بل كان بلغة الاقتراض كقوله تعالى: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له﴾[1] مع ذلك يكون هذا الطلب موضوعاً لوجوب الإطاعة بحكم العقل.
وأما الطلب إذا صدر من غير المولى فلا يكون موضوعاً لوجوب الطاعة حتى لو صدر على نحو الاستعلاء، وهذا لا نزاع فيه.
أن نبحث مسألة بلحاظ كون كلمة الأمر في لغة العرب هل أخذ فيها العلو خاصة؟ أو العلو مع الاستعلاء معاً؟ أو الجامع بين العلو والاستعلاء؟ أم أنه لم تؤخذ أي حيثية من هذه الحيثيات فيكفي صدور الطلب ولو من دون علو أو استعلاء؟
بحيث يكون لهذه المسألة ثمرة فقهية وليس لها ثمرة وفائدة أصولية لأن فائدة البحث تكمن في عدة موارد:
منها ما لو دلّ دليل على وجوب طاعة الوالدين ووجوب امتثال أمر الوالدين، لكن الوالد أصدر أمره إلى ولده على سبيل الشفقة فلم يصدر هذا الأمر على نحو الاستعلاء من الوالد.
إلا أننا لا يمكن أن نلتزم بذلك في مثل هذا المورد إذ توجد قرين وهي مناسبة الحكم والموضوع.
إذ أن العمر يفهم من قوله تعالى: ﴿وبالوالدين إحسانا﴾[2] وغير مما ورد في وجوب طاعة الوالدين أن النكتة ليست هي استعلاء الوالد وتكبره في مقام المخاطبة بل النكتة هي علوه الحقيقي، كما في الرواية حينما جاء رجل يشكي أباه في أنه أقرض أباه ولم يسدد الدين فقال له النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ : «اذهب أنت ومالك لأبيك»[3] فيستفاد من هذه الرواية والآيات والأدلة وبحسب مناسبات الحكم والموضوع إلغاء خصوصية الاستعلاء فحتى لو التزمنا في اللغة أن الأمر أخذ فيه حيثية الاستعلام، وقلنا بدخالة الاستعلاء في مفهوم الأمر لغةً لكن من ناحية فقهية لا نشترط قيد الاستعلاء في مثل هذا المورد.
وبالتالي لا توجد لا ثمرة فقهية كما في المحور الثاني ولا ثمرة أصولية كما في المحور الأول.
فمن الواضح عند العرف أنه إذا صدر أمر وتمت مخالفته استحق المخالف العتاب بل العقاب، ومن الواضح أن هذا الأمر الذي يستحق العتاب والعقاب لا يكون إذا صدر الطلب من الداني إلى العالي فهذا يسمى دعاء، ولا يتم إذا صدر من المساوي إلى المساوي فهذا يسمى التماس، وإنما إذا صدر الطلب من العالي حقيقةً إلى الداني حقيقةً فهذا يقال له أمر.
وأما الاستعلاء فهذا استئمار فإن المستعلي ليس بعال حقيقةً فلا يقال له أمر حقيقة فالمستعلي بحسب الظهور العرفي هو يدعي العلو أي أنه يدعي قابلية الطلب بإدعائه للعلو يعني المستعلي يدعي صدور الأمر منه، والحال أن الأمر لم يصدر منه لأن الأمر متقوم بعلو الجهة التي تصدره، فإذا ادعى أنه عالم فهو مستعل ومستأمر ويدعي أن هذا أمر وليس بأمر حقيقةً.
ومنه يظهر أن دعوى الجامع بين العلو والاستعلاء ساقطة فالظاهر أن الاستعلاء لا يغني عن العلو، إذا المناط هو العلو وحده لا شريك له سواء اقترن بالاستعلاء أو تجرد عن الاستعلاء، وهذا البحث لا أثر له ولا ثمرة له فقهية فضلاً عن الأصولية.
فبعد أن أثبتنا أن الأمر بمعنى الطلب يقع الكلام في أن كلمة الأمر هل تدل على جامع الطلب الشامل للوجوب والاستحباب معاً أو أن مادة الأمر تدل على خصوص الطلب الوجوبي؟
فلو قال المولى لعبده: «صلّ» فهل الأمر بالصلاة يدل على مطلق الصلاة الواجبة والمستحبة، وأنما أمر به المولى حصة من جامع الصلاة الجامعة بين الواجب والمستحب؟ أو أن هذا الأمر يدل على صلاة واجب؟
من هنا يقع الكلام في مقامين:
وقد حاول بعض الأصوليين كالشيخ حسن صاحب معالم وملاذ المجتهدين ابن الشهيد الثاني[4] أن يستدل على دلالة الأمر على خصوص الطلب الوجوبي بجملة من الآيات والروايات، من قبيل قوله تعالى: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره﴾[5] ونحو ذلك من الروايات حذرت من مخالفة الأمر.
قد أخذ في مثل هذه الآية الكريمة عنوان الأمر موضوعاً للحذر والتحذر، ومن الواضح أن الطلب الاستحبابي ليس موضوعاً للحذر وإنما الذي يكون موضوعاً للحذر هو خصوص الطلب الوجوبي فيستكشف من ذلك أن الأمر مختص بخصوص الطلب الوجوبي وليس أعم من الوجوب والاستحباب إذ لو كان يطلق لفظ الأمر على الجامع بين الوجوب والاستحباب لما وجب التحذر، والحال إن الآية الكريمة أمرت بالتحذر فيستفاد من ذلك أن المراد من الأمر في الآية الكريمة هو خصوص الأمر الوجوبي لا مطلق الأمر الشامل للوجوب والاستحباب.
إنه لا يمكن التعويل على مثل هذا التقريب ولكي نثبت دلالة الأمر على خصوص الطلب الوجوبي للجامع بين الوجوب والاستحباب لا نحتاج إلى الاستدلال بالآيات والروايات بل يكفي الرجوع إلى المحاورات العرفية فإن سنلحظ بالوجدان وهذا لا يحتاج إلى برهان أنه لا يوجد فقيه من الفقهاء قد خالف في دلالة لفظ الأمر على الوجوب.
كما أن العرف العام يرون أن إذا صدر أمر من عال وخالفه الداني فإنه يستحق العتاب بل العقاب والتقريع وهذا كاشف عن أن لفظ الأمر يدل على الوجوب خاصة دون مطلق الطلب وجامع الوجوب استحباب.
وأما مناقشة ما أفاده صاحب المعالم ـ رحمه الله ـ فيحتاج إلى بعض التفصيل.
في الآية الكريمة يوجد حكم ويوجد موضوع والموضوع هو عنوان والحكم هو التحذر ونعلم من الخارج أن الاستحباب لا حذر ولا تحذر فيه ولا محذور في مخالفته فالاستحباب قطعاً خارجٌ عن هذا الموضوع، وقد علمنا من الخارج أن الاستحباب خارج.
إذا يدور الأمر بين أن خروج الاستحباب عن موضوع هذه القضية خروجاً تخصصياً أو خروجاً تخصيصياً.
فإما أن تكون كلمة مختصة بخصوص الطلب الوجوبي كما ندعي ذلك فيكون خروج الاستحباب خروجا تخصصياً لا تخصيصياً.
وإما أن يدعى أن الأمر ظاهر في جامع الطلب الأعم من الواجب والمستحب فيكون خروج الاستحباب خروجاً تخصيصياً،
وما يفيد استدلال صاحب المعالم هو الالتزام بالخروج التخصصي أو الخروج التخصيصي؟
وأما إذا التزمناه بأن خروج الاستحباب خروج تخصيصي فهذا يعني أن الأمر يدل على الجامع بين الواجب والمستحب غاية ما في الأمر خرج الاستحباب ببركة التخصيص، وهذا بحث مهم كيف نثبت أن الاستحباب قد خرج بالتخصص لا التخصيص؟
وهذا بحث مهم أصولي وهو مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصص، وهي مسألة معنونة في بحث العام والخاص، وهي أنه إذا علم بخروج فردٍ من العام ودار الأمر بين أن يكون خروجه تخصصيا أو تخصيصياً فهل الأصل هو التخصص أو لا؟ والالتزام بأن الأصل هو التخصص هو فرع إجراء أصالة عدم التخصيص.
وهنا يوجد مسلكان، وعلى كلا المسلكين لا يتم ما أفاده صاحب المعالم وهو إثبات التخصص والخروج التخصصي.
فالمسلك الأول يرى إن أصالة عدم التخصيص لا تجري.
إن أصالة عدم التخصيص تجري في خصوص ما إذا احتمل شمول حكم العام للفرد يعني إذا احتملنا أن حكم الأمر يشمل الفرض والأصالة دائماً ظرفها في الشكّ والاحتمال فحينئذ يمكن أن نجري عدم التخصيص.
وأما إذا علمنا وقطعناه وجزمناه بأن هذا الفرد لا يشمله حكم الأمر والأصالة موردها الشك والاحتمال لا الجزم والقطع واليقين، فإذا دار الأمر بين أن يكون عدم شموله من باب التخصيص من باب التخصص فحينئذ لا تجري أصالة عدم التخصيص.
فما ذهب إليه صاحب الكفاية ومشهور المحققين هو أن أصالة عدم التخصيص لا تجري في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص لأن أصالة عدم التخصيص تجري إذا شككنا أو احتملنا إن الاستحباب يندرج تحت عنوان الأمر، أما إذا جزبنا أن الاستحباب ما يندرنج تحت عن عنوان الأمر فحينئذ لا تجري أصالة عدم التخصيص وإذا لم تجري أصالة عدم التخصيص لا يمكن أن نثبت التخصص.
إن إجراء أصالة عدم التقييد والتخصيص فيها نكتة، وهي أن من يقول بجريان أصالة عدم التخصيص إنما يقول بذلك فيما إذا كان على فرض التخصيص لا توجد قرينة متصلة صالحة للتخصيص والتقييد.
وأما إذا وجدت قرينة متصلة تدل على التقييد والتخصيص فحينئذ لا تجري أصالة عدم التقييد والتخصيص.
إذ أن القرينة تدل على أن التقييد هو الأصل لا أنه خلاف الأصل إذ أن الأصل يكون موافقاً لما تدل عليه القرينة والقيد فلا معنى لإجراء أصالة عدم التخصيص، فالأصل هو عدم التخصيص بلا قرينة متصلة لا أن الأصل هو عدم التخصيص مع نصب قرينة متصلة، والمقام الذي نحن فيه هو من هذا القبيل إذ توجد قرينة متصلة.
فلو سلمنا جدلاً أن الأمر أعم من الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي، وشككنا هل أن الاستحباب داخل أو لا؟ وأردنا نفيه بإجراء أصالة عدم التخصيص وعدم التقييد نظراً لوجود التحذير وارتكاز التحذير وأن التحذير إنما يكون في خصوص إلى الأمر الوجوبي لا الأمر الاستحبابي فالوجوب هو منشأ العقاب والحذر وليس الاستحباب، ولكن هذا التحذير بنفسه يشكل قرينة متصلة على التخصيص فالأمر في محل بحثنا يدور بين التخصص وبين التخصيص مع وجود القرينة المتصلة فلو بني على أصالة عدم التخصيص في موارد الدوران بين التخصيص والتخصص فحينئذ لا ينطبق هذا المبنى على محل الكلام.
يعني أصالة عدم التقييد إنما تجري مع عدم وجود قرينة متصلة هنا توجد قرينة متصلة وهي الحذر.
وكشاهد وجداني على ذلك لو أمر المولى المفروض عن مولويته بأمرٍ وتخلف العبد عن الامتثال فإنه يستحق العتاب والعقاب والتقريع وليس ذلك إلا لأن العرف قد فرغ من فهم الوجوب من مادة الأمر.