44/07/10
الموضوع:المقدمة-الوضع-الأمر الخامس تبعية الدلالة للإرادة
هناك ثلاث حيثيات وقع الخلط بين بعض الأصوليين ولم يفرقوا بينها، فلا بدّ من التكلم عنها أولاً تصوراً وملاكاً وثانياً تحقيقاً، وهذه الحيثيات الثلاث كما يلي:
هذه الحيثيات الثلاث لابدّ من التكلم عنها في عالم التصور والتحقيق، ومن هنا يقع الكلام في مقامين:
نشرع في المقام الأول تصوير الحيثيات الثلاث:
هل الدلالة الوضعية هي دلالة تصورية أم دلالة تصديقية؟ بمعنى أن الدلالة التي صارت بسبب الوضع هل هي مجرد انتقاش صورة المعنى في ذهن السامع نتيجة اقتران اللفظ بالمعنى أو أن اللفظ له كشفٌ ودلالةٌ تصديقية على مطلب نفساني في نفس المتكلم بحيث نستكشف باللفظ مطلب نفسي في نفس المتكلم؟
والملاك الفني لهذه الحيثية هو تشخيص الوضع، هل الوضع هو عبارة عن التعهد الذي ذهب إليه الشيخ عبد الكريم الحائري والسيد أبو القاسم الخوئي وغيرهما من الأعلام،
أم الوضع هو الاعتبار كما عليه مشهور الأصوليين،
أو القرن الأكيد كما عليه الشهيد الصدر ـ رضوان الله عليه ـ .
فإن كان الوضع هو التعهد بحيث أن المتكلم يتعهد بأنه لا يورد اللفظ إلا إذا قصد إيراد معناه، فاللفظ كاشفٌ والإرادة النفسانية مكشوف عنها وهناك ملازمة بين النطق باللفظ وقصد التفهيم، فالمتعهد والمتكلم يحدث بالتعهد ملازمة بين النطق باللفظ وبين قصد تفهيم اللفظ.
لكنه برهان ظني قابل للتخلف وليس قطعياً، قد يقال إنه من قبيل البرهان الإني، إن المعلول وهو اللفظ المتلفظ به يكشف عن العلة وهي الإرادة النفسانية الموجودة في نفس المتكلم.
وأما بناءً على أن الوضع هو عبارة عن الاعتبار كما عليه المشهور أو القرن الأكيد كما عليه الشهيد الصدر فالدلالة حينئذٍ دلالة تصورية سواء أخذت الإرادة قيداً في المعنى الموضوع له أو لم تؤخذ الإرادة قيداً في المعنى الموضوع له.
فمثلاً إذا قلت لفظ أسد موضوعٌ لمعنى الحيوان المفترس هذا التصور الأول، المعنى هو ماذا؟ المعنى الموضوع له وهو معنى الأسد.
التصور الثاني إضافة قيد الإرادة والقصد، الحيوان المفترس بقيد إرادته بقصد إرادته، صار المعنى الموضوع له لفظ الأسد مؤلف من جزئين: الجزء المقيد وهو الحيوان المفترس والجزء الثاني القيد وهو القصد.
فمثلاً لو مررت بالطريق ومرت سيارة أو اصطك حجران وسمعت صوت (أنيس) فإن ذهنك يتصور معنى الأنس وأن هناك شخص اسمه أنيس، ولكن تعرف أن السيارة لم تقصد إيراد المعنى وأيضاً تلتفت إلى أن الحجرين حينما اصطكا لم يقصدا ولم يردا إيراد المعنى سواء التزمت أن القصد والإرادة أخذت كقيد في المعنى الموضوع له اللفظ أم لم تؤخذ يبقى أن تتصور المعنى المقصود له اللفظ.
هل أن الدلالة الوضعية تابعة للإرادة من باب تبعية المعلول للعلة فحيث لا إرادة إذاً لا دلالة وضعية أم أن الدلالة الوضعية ليست تابعة لإرادة المتكلم فالدلالة الوضعية ثابتةٌ بين اللفظ والمعنى أراد المتكلم وقصد أم لم يقصد؟!
وهذه الحيثية الثانية تختلف عن الحيثية الأولى تصوراً وملاكاً.
فمن الواضح أننا في الحيثية الأولى حينما تحدثنا عن أن الدلالة الوضعية هل هي دلالة تصورية أم هي دلالة تصديقية؟ فإننا كنا نبحث عن جوهر وحقيقية العلاقة الوضعية، ما هي حقيقة العلاقة الوضعية؟ ما هو جوهر العلاقة الوضعية؟ ما هي طبيعة العلاقة الوضعية؟ هل هي دلالتها تصورية أم تصديقية؟
وأما في الحيثية الثانية حينما بحثنا أن الدلالة الوضعية هل هي تابعة للإرادة أو ليست تابعة لإرادة المتكلم فالكلام هو في ظرف الدلالة الوضعية يعني شرط الدلالة الوضعية، هل الدلالة الوضعية مشروطةٌ بإرادة المتكلم أم لا؟ هل الدلالة الوضعية موقوفةٌ على إرادة المتكلم فحيث لا إرادة إذاً لا علاقة وضعية أم أنها غير موقوفة؟
هذا أولاً من ناحية التصور.
فتبعية الدلالة لإرادة المتكلم بناءً على مسلك التعهد غير معقول بينما تبعية الدلالة الوضعية لقصد المتكلم بناءً على مسلك الاعتبار معقولٌ، صار عكس ما ذكر في الحيثية الأولى.
اللفظ كاشفٌ، والإرادة النفسانية مكشوفٌ عنه، إذاً أيهما أسبق رتبة الإرادة النفسانية أم اللفظ؟ الإرادة فإذاً أولاً إرادة نفسانية وثانياً يأتي اللفظ فاللفظ كاشفٌ، الإرادة النفسانية مكشوفٌ عنه.
لكي تصح الدلالة الوضعية لا بدّ من الإرادة يعني نحرز الإرادة خارجاً.
إذاً لاحظ جيداً الترتيب:
اللفظ يكشف عن الإرادة بناءً على مسلك التعهد، فإذا صارت دلالة اللفظ على الإرادة فرع الإرادة فمعنى هذا إننا نحتاج قبل دلالة اللفظ إلى أن نحرز الإرادة من خارج اللفظ، مع أن اللفظ كاشفٌ عن الإرادة بناءً على مسلك التعهد، فتبعية الدلالة للإرادة خلف مبنى التعهد وهذا غير معقول.
أعيد وأكرر..
بناءً على مسلك التعهد ـ بكلام بسيط ـ اللفظ إذا أطلق له دلالة على المعنى أم لا؟ نعم، هذا اللفظ الذي أطلق له دلالة على المعنى وهو كاشف والإرادة مكشوف عنها الإرادة النفسانية، لكن إذا التزمنا وقلنا إن الدلالة الوضعية للفظ ما تنعقد إلا بشرط وهو إذا الإرادة خارجاً تحققت، طبق القاعدة: المشروط عدمٌ عند عدم شرطه.
ما هو المشروط؟
دلالة اللفظ على المعنى.
ما هو الشرط؟
إحراز تحقق الإرادة خارجاً.
إذاً قبل الإرادة لا وجود للفظ يعني لا وجود لدلالة اللفظ على المعنى، يعني لكي تتم دلالة اللفظ على المعنى لا بدّ من إحراز الإرادة خارجاً، وبالتالي كيف تقول اللفظ كاشفٌ والإرادة النفسية مكشوف عنها؟!
إذاً يقول هكذا صاحب الاعتبار: إذا لا توجد إرادة لا توجد علقة وضعية والعلقة الوضعية فرع الإرادة فحيث لا إرادة لا علقة وضعية وبالتالي لا دلالة وضعية.
وبالتالي هم يقولون يرجعون الإرادة ما يقيدون بها المعنى الموضوع له وإنما يقيدون نفس العلاقة الوضعية أو يقيدون نفس اللفظ الدال على المعنى وبالتالي يقال: إذا ذكر اللفظ بدون إرادةٍ فهو لفظٌ مهمل وليس لفظاً مستعملاً إذاً الحيثية الثانية معاكسة للحيثية الأولى إذ ملاك كون الدلالة التصديقية التعهد، لكن التعهد لا يناسب كون تبعية الدلالة للإرادة بل يناسب مسلك الاعتبار، مسلك الاعتبار يمكن أن يأخذ الإرادة قيداً في الوضع أو في اللفظ لا في المعنى الموضوع له فيقال بتبعية الدلالة الوضعية للإرادة هذا تمام الكلام في تصوير الحيثية الثانية.
هل إن الإرادة مأخوذة قيداً في المدلول أو ليست مأخوذة قيداً في المدلول، هذه الحيثية الثالثة ناظرة إلى حدود الدلالة الوضعية.