بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/06/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه السابع؛ المطلب الثالث: الموارد المستثناة من موارد عدم حجّیة الأصل المثبت

المطلب الثالث: الموارد المستثناة من عدم حجّیة الأصل المثبت

هنا ثلاثة موارد من الأصل المثبت قد ادّعی حجیتها بعض أعلام الأصوليين و إن كانت من مثبتات الاستصحاب، فلا‌بدّ من البحث حولها.

المورد الأوّل: خفاء الواسطة

إنّ الشیخ الأعظم الأنصاري و بعض من تبعه مثل صاحب الكفایة قالوا بحجّیة الاستصحاب بالنسبة إلى لوازم المستصحب فیما إذا كانت الواسطة أمراً خفیاً و قد خالفهم البعض مثل المحقّق النائینی و المحقّق الخوئي و قالوا بعدم حجّیة الاستصحاب بالنسبة إلى تلك اللوازم و المثبتات.

نظرية الشیخ الأعظم الأنصاري

«إنّ بعض الموضوعات الخارجیة المتوسطة بین المستصحب و بین الحكم الشرعي من الوسائط الخفیة بحیث یعدّ في العرف الأحكام الشرعیة المترتّبة علیها أحكاماً لنفس المستصحب، و هذا المعنی یختلف وضوحاً و خفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف»([1] ).

ذکر الشيخ الأنصاري ثلاثة أمثلة لخفاء الواسطة:

المثال الأوّل

أفاد الشیخ الأعظم الأنصاري([2] [3] ) مثالاً لذلك و هو ما إذا كان هناك شيء نجس مرطوب و هو لاقی شیئا آخر یابساً و احتملنا تنجّس الشيء الیابس و الوجه في تنجّسه لیس إلا سرایة الرطوبة من الشيء النجس إلیه و أمّا صرف وجود الرطوبة في الشيء النجس فلا‌یكفي في سرایة النجاسة إلیه و اتصافه بالتنجّس.

و بعبارة أخری إنّ وصف التنجّس لیس من أحكام ملاقاة الشيء الیابس للشيء النجس المرطوب ، بل لابدّ من أن تكون الرطوبة مسریة حین الملاقاة.

و يُتَسامَح في ذلك و یُظَنّ بأنّ التنجّس من أحكام نفس ملاقاة الشيء الیابس للشيء النجس المرطوب مع أنّ هناك واسطة خفیّة و هي سرایة الرطوبة من الشيء النجس إلى الشيء الآخر بسبب الملاقاة و لذلك اكتفوا في تنجّس الشيء الآخر باستصحاب بقاء الرطوبة في الشيء النجس المرطوب.

و من خالفهم في ذلك یقول بأنّ استصحاب الرطوبة في الشيء النجس بالنسبة إلى لوازمها العادیة و هي سرایة الرطوبة أصل مثبت، فالمقام لیس إلا مجری أصالة الطهارة.

ثمّ قال بعد ذلك: «و حكى في الذكرى عن المحقّق‌ تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة، و ارتضاه. فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا، و يحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض كما يظهر من المحقّق‌؛ حيث عارض استصحاب طهارة الشاكّ في الحدث باستصحاب اشتغال ذمّته»‌.([4] [5] [6] [7] [8] [9] [10] [11] )

المثال الثاني

و ضرب الشیخ الأعظم الأنصاري([12] ) مثالاً آخر في المقام و هو ما إذا كان یوم الشك من آخر شهر رمضان، فشككنا في دخول هلال شهر شوّال، فإنّه تجري أصالة عدم حلول شهر شوّال و لازم ذلك هو أنّ الیوم الآتي هو یوم العید فیترتّب علیه أحكام العید من الصلاة و الغسل و الأدعیة الواردة فیه مع أنّ مجرد عدم ثبوت الهلال في یوم لایثبت أنّ غده هو أوّل الشهر اللاحق و لكن العرف لایفهمون منه إلا وجوب ترتیب آثار شهر رمضان في یوم الشك و أوّلیة غده لشهر شوّال مثلاً.

ثمّ قال الشیخ العلامة الأنصاري: «و كیف كان فالمعیار خفاء توسّط الأمر العادي و العقلي بحیث یعدّ آثاره آثاراً لنفس المستصحب».

المثال الثالث

إنّ الشیخ الأعظم الأنصاري اعتقد بأنّ جریان أصالة عدم المانع عند الشك في وجود المانع على محلّ الغَسل في الوضوء و الغسل من هذا القبیل، لأنّ الأثر الشرعي یترتّب على لازمه و هو إیصال الماء إلى البشرة أو تحقّق عنوان غسل البشرة، و أصالة عدم المانع بالنسبة إلى إیصال الماء و تحقّق الغسل أصل مثبت، لكن العرف لایرون الواسطة لخفائها.

و بعض الأعلام تمسّكوا بحجّیة الاستصحاب في هذا المورد من الأصول المثبتة بالسیرة و الإجماع([13] [14] [15] ).

و أجیب عنه([16] ) بأنّ الشك إن كان قبل الفراغ فالسیرة قائمة على وجوب الفحص ما لم‌یحصل الاطمینان بعدم المانع، و إن كان بعد الفراغ عن العمل فالوجه في صحّة الوضوء و الغسل قاعدة الفراغ لا حجّیة الأصل المثبت في المقام.

نعم إن قلنا بعدم جریان قاعدة الفراغ لعدم تمامیة أركانها من جهة أنّها تجري فیما إذا لم‌یعلم بعدم التفاته حین العمل و إلا فلو علم المكلّف بأنّه حین العمل لم‌یكن ملتفتاً إلى ذلك فلا وجه لجریانها، فحینئذٍ صحّة الوضوء و الغسل تتوقّف على حجّیة الأصل المثبت و لكن السیرة المدّعاة مخدوشة من حیث الصغری لعدم تحقّق السیرة على صحّة الوضوء و الغسل بل صحتهما عند القائل بها لحجّیة مثبتات الاستصحاب عند خفاء الواسطة. ([17] [18] [19] [20] [21] [22] )


[1] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص244.
[2] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص244.. : «منها ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فإنه لا‌يبعد الحكم بنجاسته مع أن تنجسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطباً...»
[3] شرائع الاسلام- ط استقلال، المحقق الحلي، ج1، ص43.. : «و إذا لاقى الكلب أو الخنزير أو الكافر ثوب الإنسان رطباً غسل موضع الملاقاة واجباً و إن كان يابساً رشّه بالماء استحباباً و في البدن يغسل رطباً و قيل: يمسح يابساً، و لم‌يثبت»
[4] ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة‌، الشهيد الأول، ج1، ص83.: «لو طارت الذبابة عن النجاسة الى الثوب أو الماء، فعند الشيخ عفو، و اختاره الشيخ المحقق نجم الدين).- في الفتاوى- لعسر الاحتراز، و لعدم الجزم ببقائها لجفافها بالهواء، و هو يتمّ في الثوب دون الماء»
[5] قال ابن فهد الحلي) الرسائل العشر، ابن فهد الحلي، ج1، ص38..: «و عفي عن ذباب طار عن نجاسة لم‌يلوث لأثر البول و قليل الدم و إن لم‌يستبن أو ذهب بالغليان. و مثله الماء النجس و إن جفّ بالطبخ في لبن و خبز، فيطعمه حيواناً أو يدفن»
[6] قال الصيمري معلّقاً على كلام ابن فهد في كشف الالتباس عن موجز أبي العباس‌، الصيمري البحراني، الشيخ مفلح، ج1، ص112.: قوله رحمه الله: «و عفي عن ذباب طار عن نجاسة و لم يتلوّث، لا شرر البول و قليل الدم و إن لم يستبن أو ذهب بالغليان»، أقول: أمّا العفو عن الذباب الطائر عن النجاسة مع عدم التلويث فلعدم التنجيس مع عدم التلويث، و لحصول الحرج، لعدم القدرة على التحرّز منه.
[7] و أمّا عدم العفو عن شرر البول: فلما روي أنّ‌ أكثر عذاب القبر منه [المحاسن، البرقي، ابو جعفر، ج1، ص78. ؛ ثواب الأعمال و عقاب الأعمال، الشيخ الصدوق، ج1، ص228.، وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص340، أبواب أبواب احکام الخلوة، باب23، ح4، ط آل البيت..]
[8] و لقد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالتحرّز منه [الأمالي، الشيخ الصدوق، ج1، ص677. ؛ وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص339، أبواب أبواب احکام الخلوة، باب23، ح2، ط آل البيت.].
[9] و نقل عن السيّد المرتضى - رحمه اللّه - العفو عمّا يرشّ‌ منه على الثوب و البدن، مثل رؤوس الإبر [رسائل الشريف المرتضى، السيد الشريف المرتضي، ج1، ص288.].
[10] قال الشيخ) في المبسوط في فقه الإمامية، الشيخ الطوسي، ج1، ص7..: «و ذلك- أي القليل- ينجس بكل نجاسة تحصل فيها، إلا ما لا‌يمكن التحرز منه، مثل رءوس الإبر من الدم و غيره، فإنه معفو عنه، لأنه لا‌يمكن التحرز منه»
[11] قال العلامة) في نهاية الإحكام، العلامة الحلي، ج1، ص231..: «و لا فرق بين النجاسة القليلة و الكثيرة، و إن كانت دماً لا‌يدركه الطرف للعموم، خلافاً للشيخ. و لا فرق بين الثوب و البدن و الماء، و لا بين الدم و غيره، كنقطة الخمر و البول التي لا‌تبصر، و الذبابة تقع على النجاسة، لأن الظواهر المقتضية للاجتناب عامة، يتناول ما يدركه الطرف و ما لا‌يدركه»
[12] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص245.. : «و منها أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك المثبت لكون غده يوم العيد فيترتب عليه أحكام العيد من الصلاة و الغسل و غيرهما فإن مجرد عدم الهلال في يوم لا‌يثبت آخرية و لا أولية غده للشهر اللاحق ...»
[13] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص245..: «و ربما يتمسك في بعض موارد الأصول المثبتة بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك مثل إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محلّ الغسل أو المسح لإثبات غسل البشرة و مسحها المأمور بهما في الوضوء و الغسل و فيه نظر»
[14] الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الحائري الاصفهاني، محمد حسين، ج1، ص378.: «أما التعويل‌ على‌ أصالة عدم‌ حدوث الحائل على البشرة في الحكم بوصول الماء إليها في الوضوء و الغسل و على أصالة عدم خروج رطوبة لزجة كالودي بعد البول في إزالة عينه بالصب مع كون الأصل في المقامين مثبتاً لأمر عادي فليس لأدلة الاستصحاب بل لقضاء السيرة و الحرج به مضافاً في الأخير إلى إطلاق الأخبار الدالة على كفاية الصبّ مطلقاً». ذكر الشيخ الأنصاري). الإجماع احتمالاً
[15] بحر الفوائد في شرح الفرائد، الآشتياني، الميرزا محمد حسن، ج7، ص138..: «و قد ذكر بعض أفاضل مقاربي عصرنا وجوهاً أخر لاعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى جملة من أمثلة الفرض، حيث قال بعد جملة كلام له ساقها في بيان إثبات عدم اعتبار الأصل المثبت ما هذا لفظه: "و أما التعويل‌ على‌ أصالة عدم‌ حدوث الحائل على البشرة ... الدالة على كفاية الصبّ مطلقاً" انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه، و أنت خبير بضعف هذه الوجوه كلّها»
[16] إيضاح الفرائد، التنكابني، السيد محمد، ج2، ص763..: « فيه نظر لأنّ الشك إما أن يكون في أثناء العمل فيمنع الإجماع و السيرة على عدم الاعتناء به و إن كان بعد الفراغ‌ فعدم الاعتناء من جهة قاعدة الشكّ بعد الفراغ لا من جهتهما»
[17] قال کثیر من الأعلام بحجیة الأصل المثبت إذا کانت الواسطة خفیة:فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص244..: «هنا شي‌ء و هو أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب و بين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها أحكاماً لنفس المستصحب و هذا المعنى يختلف وضوحاً و خفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف»
[18] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص415..: «لا‌يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته بدعوى أن مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّه أيضاً حقيقة فافهم»
[19] درر الفوائد، الحائري اليزدي، الشيخ عبد الكريم، ج2، ص191..: «يستثنى من ذلك ما إذا كانت الواسطة بين المستصحب و بين الحكم الشرعي من الوسائط الخفية، و السر في ذلك أن العرف لا‌يرى ترتّب الحكم الشرعي على تلك الواسطة بل يراه مرتباً على نفس المستصحب، و خطاب لا‌تنقض اليقين بالشك كسائر الخطابات تعلق بالعنوان باعتبار مصاديقه العرفية، لا الواقعية العقلية، و لذا لا‌يحكم بواسطة دليل نجاسة الدم بنجاسة اللون الباقي منه بعد زوال العين، مع أنه من أفراد الدم بنظر العقل و الدقة بواسطة استحالة انتقال العرض»‌
[20] نهاية الافكار، العراقي، آقا ضياء الدين، ج3، ص188..: «يظهر من جماعة منهم العلامة الأنصاري قدس سره اعتبار الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفية خفاءً يعدّ الآثار المترتبة عليها بالدقة و الحقيقة عند العرف آثاراً لذي الواسطة لا لها ... و هو كما أفادوه»
[21] مقالات الأصول، العراقي، آقا ضياء الدين، ج2، ص410..: «إن قصور أدلة التنزيل عن الشمول للآثار الشرعية بتوسيط العقلية و العادية إنما هو في صورة عدم خفاء الواسطة، و إلا ففي هذه الصورة لا قصور لأدلة التنزيل في شمولها بكلّ واحدٍ من التقريبات السابقة»
[22] تحرير الأصول، النجفي المظاهري، الشيخ مرتضى، ج1، ص241.: «ينبغي أن يستثنى مما تقدم تقريبه و تحقيقه من قاعدة عدم اعتبار لسان الإثبات من الأصول العملية مطلقاً موردان فقط كما وقع استثنائهما فى كلمات المحققين الأعلام من أصحابنا.: الأول ما إذا كانت وساطة الواسطة لترتب الأثر الشرعي ... أمراً خفياً في نظر العرف ... و سيأتي توضيح السر في استثناء هذين الموردين في الخاتمة إن شاء الله تعالى»