بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/06/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه السابع؛ المطلب الثاني؛ الامتیاز بین الأمارات و الأصول حکماً

 

الامتیاز بین الأمارات و الأصول حكماً

نظریة المحقّق النائیني

«إنّ المجعول في الأمارات إنّما هو الجهة الثانیة من الجهات الثلاث التي یقتضیها العلم الطریقي، و هي كونه صفة قائمة في النفس، و كونه كاشفاً و طریقاً إلى المعلوم، و كونه محرّكاً عملاً نحو المتعلّق فهذه الجهات الثلاث كلّها مجتمعة في العلم الطریقي.

و المجعول في باب الأمارات إنّما هو الجهة الثانیة من هذه الجهات، و في باب الأصول العملیة المحرزة إنّما هو الجهة الثالثة.

و أمّا الجهة الأولى فهي من اللوازم التكوینیة للعلم الوجداني غیر قابلة لأن تنالها ید الجعل التشریعي و قد تقدّم([1] ) تفصیل ذلك كلّه في الجزء الثالث من الكتاب عند البحث عن قیام الطرق و الأصول مقام القطع الطریقي و إجماله هو أنّ العلم عبارة عن الصورة الحاصلة في نفس العالم و بتوسّط تلك الصورة ینكشف ذو الصورة و یكون محرزاً لدی العالم، فالعالم إنّما یری ذا الصورة بتوسّط الصورة المرتسمة في النفس.

و من هنا یكون المعلوم أوّلاً و بالذات نفس الصورة و لأجل كونها مطابقة لذي الصورة یكون ذو الصورة معلوماً ثانیاً و بالتبع؛ و هذا من غیر فرق بین أن یكون العلم من مقولة الكیف أو الفعل أو الانفعال أو غیر ذلك، فإنّه على جمیع التقادیر لایتعلّق العلم بالذوات الخارجیة إلا بتوسّط ما یكون بمنزلة المرآة و القنطرة لها، فكاشفیة العلم عن المتعلّق إنّما تكون بعد قیام الصورة في النفس فیتعقّبها الكاشفیة و الإحراز، ثم یتعقّب الكاشفیة و الإحراز الحركة و الجري العملي نحو المتعلّق، فالعطشان العالم بوجود الماء في المكان الكذائي يطلبه و یتحرك نحوه، و الخائف العالم بوجود الأسد في الطریق یفرّ منه و یترك سلوكه، فالجري العملي و حركة العضلات إنّما یكون بعد إحراز المتعلّق.

فهذه الجهات الثلاث مترتّبة في الوجود بمعنی أنّ الجهة الأولى متقدّمة على الجهة الثانية رتبة، و الجهة الثانیة متقدّمة على الجهة الثالثة كذلك.

نعم للعلم جهة رابعة و هي كونه مقتضیاً للتنجّز عند المصادفة و المعذوریة عند المخالفة و هذه الجهة إنّما تكون في عرض اقتضائه الحركة و الجري العملي؛ فالجهة الثالثة، و الرابعة مما یقتضیهما العلم من الجهة الثانیة و هي الإحراز و الكاشفیة.

إذا تبین ذلك فنقول: إنّ المجعول في باب الطرق و الأمارات إنّما هو الطریقیة و الكاشفیة و الوسطیة في الإثبات، بمعنی أنّ الشارع جعل الأمارة محرزة للمؤدّی و طریقاً إلیه و مثبتة له، بناء على ما هو التحقیق عندنا من أنّ الطریقیة بنفسها تنالها ید الجعل كسائر الأحكام الوضعیة بل الطریقیة أیضاً كالملكیة و الزوجیة من الأمور الاعتباریة العرفیة التي أمضاها الشارع فإنّ الظاهر أنّه لیس فیما بأیدینا من الطرق و الأمارات ما یكون مخترعاً شرعیاً، بل جمیع الطرق و الأمارات ممّا یتعاطاها ید العرف في إثبات مقاصدهم؛ كالأخذ بالظواهر و العمل بالخبر الواحد و نحو ذلك من الطرق و الأمارات؛ فهي عندهم محرزة للمؤدّی و كاشفة عنه و واسطة لإثبات مقاصدهم كالعلم و الشارع قد أبقاها على حالها و أمضی ما علیه العرف، فالأمارات تكون كالعلم من حیث الإحراز و الكاشفیة و إثبات المؤدّی و لیس أخذ العقلاء بالأمارات لمجرّد تطبیق العمل على مؤدّیاتها بلا توسط الإحرا.. .

نعم المجعول في باب الأصول العملیة مطلقاً هو مجرّد تطبیق العمل على مؤدّی الأصل، إذ لیس في الأصول العملیة ما یقتضي الكشف و الإحراز و لیست هي طریقاً إلى المؤدّی، بل إنّما تكون وظائف تعبّدیة للمتحیّر و الشاك لاتقتضي أزید من تطبیق العمل على المؤدّی، سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو كان من الأصول الغیر المحرزة.

فإنّه لیس معنی الأصل المحرز كونه طریقاً إلى المؤدّی، بل معناه هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنّه هو الواقع و إلغاء الطرف الآخر فالمجعول في الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطریقي و هي الحركة و الجري العملي نحو المعلوم.

فالإحراز في باب الأصول المحرزة غیر الإحراز في باب الأمارات، فإنّ الإحراز في باب الأمارات هو إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل و أمّا الإحراز في باب الأصول المحرزة فهو الإحراز العملي في مقام تطبیق العمل على المؤدّی، فالفرق بین الإحرازین ممّا لایكاد یخفی.

و أمّا الأصول الغیر المحرزة، فالمجعول فیها مجرّد تطبیق العمل على أحد طرفي الشك من دون البناء على أنّه الواقع، فهو لایقتضي أزید من تنجیز الواقع عند المصادفة و المعذوریة عند المخالفة و هو الذي كان یقتضیه العلم من الجهة الرابعة»([2] ).

هذا ما أفاده المحقّق النائیني في المقام.

و یجب أن ننبّه على أنّه قال في أجود التقريرات في أدلّة البراءة:

«... هذا نظیر ما سیأتي في باب الاستصحاب من أنّ مقتضی أدلّته هو جعل الحكم المماثل حال الشك، أعمّ من أن یكون المتیقّن حكماً فیجعل مثله أو موضوعاً فیجعل مثل حكمه»([3] ).

و المستفاد من ذلك هو أنّ جعل الجهة الثالثة للعلم و هي الجري العملي في باب الأصول المحرزة یلائم القول بجعل الحكم المماثل في تلك الأصول.

ثم إنّ المحقّق النائیني یری أنّ التنجّز یترتّب على صفة المحرزیة في الأمارات و أیضاً يترتّب على صفة المحرزیة العملیة (التي تدعو إلى أحد طرفي الشك على أنّه هو الواقع في الأصول المحرزة) صفة أخری و هي التنجّز من دون أن یكون ذلك قابلاً للجعل الشرعي بل ترتّب هذه الصفة و هي التنجّز ترتّب قهري و لذا أورد على صاحب الكفایة حیث قال بأنّ المجعول في الأمارات هو التنجّز و في الأصول العملیة المحرزة هو جعل الحكم المماثل، فقال:

«یظهر لك فساد ما أفاده المحقّق صاحب الكفایة من كون المجعول نفس المنجّزیة و المعذریة من دون اعتبار صفة أخری في البین فإنّ المنجّزیة و المعذّریة من الأحكام العقلیة الصرفة المترتّبة على وصول الحكم و عدمه فمن دون اعتبار صفة المحرزیة و الوسطیة في الإثبات كیف یمكن ترتّبهما على وجود الأمارة؟ و مع اعتبارها یكون ترتّبهما قهریاً غیر قابل للجعل الشرعي»([4] ).

 


[1] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج3، ص15.
[2] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص482.
[3] أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص172.
[4] أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص76.