46/05/23
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه السادس؛ الاستدلال علی عدم جریان استصحاب عدم النسخ؛ الدلیل الثاني
الإیراد الثاني
«إنّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فیه، إذ لو فرض وجود اللاحقین في [الزمان] السابق عمّهم الحكم قطعاً، فإنّ الشریعة اللاحقة لاتحدث عند انقراض أهل الشریعة الأولى، غایة الأمر احتمال مدخلیة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم، و مثل هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات بل في جمیع موارد الشك من غیر جهة الرافع».([1] )
توضیح ذلك ببیان المحقّق النائیني:
«إنّ توهّم اختلاف الموضوع مبني على أن تكون المنشآت الشرعیة أحكاماً جزئیة بنحو القضایا الخارجیة، فیكون كلّ فرد من أفراد المكلّفین موضوعاً مستقلاً قد أُنشئ في حقّه حكم یختصّ به و لایتعدّاه».
ثم أورد على ذلك المبنی (القائل بأنّ الأحكام الشرعیة على نحو القضایا الخارجیة) و قال: «انّه یلزم [حینئذٍ] أن تكون الأدلّة الواردة في الكتاب و السنة كلّها أخباراً عن إنشائات لاحقة عند وجود آحاد المكلّفین بعدد أفرادهم و هو كما تری».
ثمّ قال: «بل التحقیق أنّ المنشآت الشرعیة كلّها من قبیل القضایا الحقیقیة التي یفرض فیها وجود الموضوع في ترتّب المحمول علیه و یؤخذ للموضوع عنوان كلّي مرآتاً لما ینطبق علیه من الأفراد عند وجودها، كالبالغ العاقل المستطیع الذي أخذ عنواناً لمن یجب علیه الحجّ، و كالحيّ المجتهد العادل الذي أخذ عنواناً لمن یجوز تقلیده و نحو ذلك من العناوین الكلّیة.
فالموضوع لیس آحاد المكلّفین لكي یتوهّم اختلاف الموضوع باختلاف الأشخاص الموجودین في زمان هذه الشریعة و الموجودین في زمان الشرائع السابقة.
فإذا كان الموضوع لوجوب الحجّ هو عنوان البالغ العاقل المستطیع، فكلّ من ینطبق علیه هذا العنوان من مبدأ إنشاء الحكم إلى انقضاء الدهر یجب علیه الحجّ سواء أدرك الشرائع السابقة أم لمیدرك فإذا فرض أنّه أنشئ حكم كلّي لموضوع كلّي ثم شك المكلّف في بقاء الحكم و نسخه فیجري استصحاب بقائه»([2] ).
جواب المحقّق الخوئي عن الإيراد الثاني
«إنّ النسخ في الأحكام الشرعیة إنّما هو بمعنی الدفع و بیان أمد الحكم، لأنّ النسخ بمعنی رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحیل في حقّه سبحانه و تعالى، و قد ذكرنا غیر مرّة أنّ الإهمال بحسب الواقع و مقام الثبوت غیر معقول، فإمّا أن یجعل المولی حكمه بلاتقیید بزمان و یعتبره إلى الأبد و إمّا أن یجعله ممتداً إلى وقت معین، و علیه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول و ضیقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودین في زمان الحضور و كذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة، فإنّ الشك في نسخها شك في ثبوت التكلیف بالنسبة إلى المعدومین لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته، فإنّ احتمال البداء مستحیل في حقّه تعالى، فلا مجال حینئذٍ لجریان الاستصحاب.
و توهّم أنّ جعل الأحكام على نحو القضایا الحقیقیة ینافي اختصاصها بالموجودین مدفوع بأنّ جعل الأحكام على نحو القضایا الحقیقیة معناه عدم دخل خصوصیة الأفراد في ثبوت الحكم، لا عدم اختصاص الحكم بحصّة دون حصّة فإذا شككنا في أنّ المحرم هو الخمر مطلقاً أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب، كان الشك في حرمة الخمر المأخوذ من غیر العنب شكاً في ثبوت التكلیف و لا مجال لجریان الاستصحاب معه.
و المقام من هذا القبیل، فإنّا نشك في أنّ التكلیف مجعول لجمیع المكلّفین أو هو مختصّ بمُدركي زمان الحضور، فیكون احتمال التكلیف بالنسبة إلى غیر المدركین شكاً في ثبوت التكلیف لا في بقائه فلا مجال لجریان الاستصحاب حینئذٍ إلا على نحو الاستصحاب التعلیقي بأن یقال: لو كان هذا المكلّف موجوداً في ذلك الزمان لكان هذا الحكم ثابتاً في حقّه، و الآن كما كان، لكنك قد عرفت عدم حجّیة الاستصحاب التعلیقي»([3] [4] ).
ملاحظة علی جواب المحقّق الخوئي
إنّ المراد بـ «جعل الأحكام بنحو القضایا الحقیقیة» هو تعلّق تلك الأحكام الإنشائیة بالعناوین الكلّیة الشاملة للمعدومین و الموجودین بإطلاقها، فإنّ حصص تلك العناوین الكلّیة على صورتین و لابدّ من ملاحظة تلك الحصص؛ فإن كانت كلّ حصّة منها موضوعاً مستقلاً غیر الآخر عند العرف بحیث یكون لكلّ منها وحدة صنفیة فذلك یوجب الشك في أن متعلّق الحكم الإنشائي هل هو خصوص الحصّة الأولى أو ما یعمّ الحصّة الثانیة؟ فتجري البراءة بالنسبة إلى تعلّق الحكم بالحصّة الثانیة.
و إن كانت تلك الحصص كلّها عند العرف واحداً صنفیاً، فالعنوان الكلّي الواحد بالوحدة الصنفیة هو متعلّق الحكم الإنشائي و حینئذٍ عند الشك في متعلّق الحكم من جهة اختصاصه بالحصّة الأولى و تعلّق الحكم الإنشائي بخصوصها أو تعمیمه بالنسبة إلى الحصّة الثانیة یجري استصحاب عدم النسخ.
و الكلام هنا في الصورة الثانیة على الفرض و هي ما إذا كانت تلك الحصص عند العرف واحدة بالوحدة الصنفیة و عُدّت كلّها عند العرف موضوعاً واحداً، لأنّ الكلام في النسخ و ذلك لایتصوّر إلا فیما إذا كان لسان الحكم في مرحلة الإنشاء مشتملاً على جمیع الحصص فیعمّ الموجودین و المعدومین و لذا لو فرضنا نسخ هذا الحكم بالنسبة إلى بعض الحصص مثل المعدومین فالعرف یقول إنّ هذا الحكم تشمل المعدومین بحسب الإنشاء و لكن الله تبارك و تعالى نسخه بعداً، و على هذا فرض النسخ لایتصور إلا فیما إذا كان متعلّق الحكم بحسب مقام الجعل و الإنشاء مشتملاً على المعدومین. فالمتعلّق عنوان كلّي نشك في بقاء الحكم الإنشائي بالنسبة إلى بعض حصص متعلّقه، فالاستصحاب جارٍ بلا إشكال.
فما أفاده المحقّق الخوئي خلط بین الصورة الأولى و الثانیة، فإنّ المحقّق الخوئي جعل هذا البحث من قبیل الصورة الأولى و لذا قال بجریان البراءة عند الشك و لكنّه خلاف الفرض، فإنّ الكلام في احتمال النسخ لیس إلا من قبیل الصورة الثانیة.([5] )
الحقّ تمامیة الجواب الثاني للشیخ الأعظم الأنصاري و المحقّق النائیني عن استدلال صاحب الفصول.
فتحصّل أنّ استدلال صاحب الفصول على عدم جریان استصحاب عدم النسخ غیر تامّ لما أفاده الشیخ الأعظم الأنصاري في الجواب الأوّل و الثاني.