بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/05/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه السادس؛ الاستدلال علی عدم جریان استصحاب عدم النسخ

 

الدلیل الأوّل من المحقّق القمي

قال: «فائدة: إذا ثبت بطریق صحیح أمر من الشرائع السابقة و لم‌یثبت نسخه في دیننا فهل یجوز لنا اتّباعه أم لا؟ مثل أن یذكر في القرآن أو في الأخبار المتواترة حكم من الأحكام في شرع من الشرائع السابقة مثل قوله تعالى في شأن یحیی: إنّه كان ﴿سَيِّداً وَ حَصُوراً﴾ ([1]و نحو ذلك اختلف الأصولیون فیه على قولین و الأقوی أنّه إن فهم أنّه تعالى و نبیّه نقل ذلك على طریق المدح لهذه الأمّة أیضاً و بحیث یدلّ على حسنه مطلقاً فنعم و إلا فلا.

و ربّما یقال: إنّ عدم علم الناسخ [أي عدم العلم بالناسخ] كافٍ في استصحاب بقائه فهو حجّة مطلقاً و هو [أي جریان الاستصحاب عند عدم العلم بورود الناسخ] مبني على القول بكون حسن الأشیاء ذاتیاً [و ذاتیة الحسن تقتضي بقاء الحكم لا النسخ] و هو ممنوع و مناف للقول بالنسخ بل التحقیق أنّه بالوجوه و الاعتبارات و إن كنّا لانمنع الذاتیة في بعض الأشیاء، لكن إعمال الاستصحاب لایمكن إلا مع قابلیة المحلّ»([2] ).

إیراد الشیخ الأنصاري علی هذا الدلیل

«إنّه إن أرید بالذاتي المعنی الذي ینافیه النسخ، و هو الذي أبطلوه بوقوع النسخ، فهذا المعنی لیس مبنی الاستصحاب، بل هو مانع عنه للقطع بعدم النسخ حینئذٍ، فلا‌یحتمل الارتفا

و إن أرید غیره، فلا فرق بین القول به و القول بالوجوه و الاعتبارات، فإنّ القول بالوجوه لو كان مانعاً عن الاستصحاب لم‌یجر الاستصحاب في هذه الشریعة»([3] ).


الدلیل الثاني من صاحب الفصول

«إنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لایمكن استصحابه في حقّ آخرین لتغایر الموضوع، فإنّ ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه، و لهذا نتمسّك في تسریة الأحكام الثابتة في حقّ الحاضرین أو الموجودین إلى الغائبین أو المعدومین بالإجماع و الأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب»([4] ).

توضیح ذلك: إنّ الموضوع لأحكام الشرائع السابقة هي الأمم الماضیة و أمّا هذه الأمّة فهي موضوع آخر فإن شككنا في تسریة أحكام الشرائع السابقة إلى هذه الأمّة لایتمّ أركان الاستصحاب، لعدم وحدة الموضوع في القضیة المتیقّنة و القضیة المشكوكة، بل الأصل الجاري في المقام هي البراءة، للشك في ثبوت أصل التكلیف بالنسبة إلى هذه الأمّة.

و هذا الإشكال یجري فیما إذا شك في نسخ بعض الأحكام في شریعتنا، فإنّ الحكم المشكوك تعلّق بالموجودین أو الحاضرین في عصر الشارع و أمّا ثبوته بالنسبة إلى من لم‌یكن حاضراً أو موجوداً في عصره فمشكوك، فتجري البراءة بالنسبة إلى الغائبین و المعدومین في عصر الخطاب.

إیرادان من الشیخ الأنصاري علی هذا الدلیل

الإیراد الأوّل

«إنّا نفرض الشخص الواحد مدركاً للشریعتین، فإذا حرم في حقّه شيء سابقاً و شك في بقاء الحرمة في الشریعة اللاحقة فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً و فرض انقراض جمیع أهل الشریعة السابقة عند تجدّد اللاحقة نادر بل غیر واقع ... و یتمّ الحكم في المعدومین بقیام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشریعة الواحدة»([5] ).

جواب المحقّق النائیني و المحقّق الخوئي عن الإيراد الأوّل

«إنّ إثبات الحكم بقاعدة الاشتراك إنّما هو مع عدم الاختلاف في الصفة المعبّر عنه بالوحدة الصنفیة، فلا‌یجوز إثبات تكلیف المسافر للحاضر و بالعكس بقاعدة الاشتراك و الحكم في المقام -بما أنّه لیس من الحكم الواقعي المستفاد من الأمارة بلا لحاظ الیقین و الشك، بل من الأحكام الظاهریة المستفادة من الاستصحاب على الفرض- فلا‌یمكن تسریة الحکم الثابت على من تیقن و شك إلى غیره، فإنّ قاعدة الاشتراك و إن كانت جاریة في الأحكام الظاهریة أیضاً، إلا أنّها إنّما تجري مع حفظ الموضوع للحكم الظاهري.

مثلاً إذا ثبت الحكم بالبراءة لأحد عند الشك في التكلیف، یحكم لغیره أیضاً بالبراءة إذا شك في التكلیف، لقاعدة الاشتراك و لایعقل إثبات الحكم بالبراءة لغیر الشاك بقاعدة الاشتراك.

ففي المقام مقتضى قاعدة الاشتراك ثبوت الحكم لكلّ من تیقّن بالحكم ثم شك في بقائه ... فالحكم الثابت في حقّ من أدرك الشریعتین أو الزمانین لأجل الاستصحاب لایثبت في حقّ غیره لقاعدة الاشتراك؛ لعدم كونه من مصادیق الموضوع فإنّ مفاد القاعدة عدم اختصاص الحكم بشخص دون شخص، فیعمّ كلّ من تیقّن بالحكم فشك في بقائه، لا أنّ الحكم ثابت للجمیع و لو لم‌یكن كذلك، بل كان شاكاً في حدوثه كما في المقام»([6] [7] [8] ).

ملاحظة علی هذا الجواب

إنّ عنوان المسافر یفترق عن عنوان الحاضر لاختلافهما في الصفة، فلا‌یمكن عدّهما واحداً بالوحدة الصنفیة، بخلاف المقام حیث أنّ الفرق بین من أدرك الشریعة السابقة و اللاحقة و من أدرك الشریعة اللاحقة فقط، لیس إلا من جهة طول عمره و كونه مسیحیاً مثلاً سابقاً مع زوال وصف المسیحیة عنه أو قصره و عدم كونه مسیحیاً مثلاً مع اشتراكهما في كونهما مسلمین، فهما یعدّان واحداً بالوحدة الصفتیة، فالموضوع للحكم محفوظ، و لذا نقول بقیام الضرورة على أنّ أهل الزمان الواحد اشتركوا في الشریعة الواحدة و هذا واضح لا غبار علیه.([9] [10] [11] )


[1] السورة آل عمران، الأية 39.
[2] القوانين المحكمة في الأصول، القمّي، الميرزا أبو القاسم، ج2، ص565.
[3] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص228.
[4] الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الحائري الاصفهاني، محمد حسين، ج1، ص315.
[5] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص225.
[6] مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص146.
[7] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص479.. «و ما أجاب به الشيخ- قدس سره- ... لا‌يحسم مادّة الإشكال، فإنه لا أثر له بالنسبة إلى من لم‌يدرك الشريعة السابقة. و لا‌يجوز التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف، بداهة أن الاشتراك إنما يكون في التكاليف الواقعية، و أما التكاليف الظاهرية التي تؤدي إليها الأصول العملية فليس محلّ التوهم الاشتراك فيها، فإن مؤديات الأصول إنما تختصّ بمن يجري في حقّه الأصل، فقد يجري في حقّ شخص لوجود شرائطه فيه، و لا‌يجري في حقّ شخص آخر لعدم وجود شرائطه فيه، و ذلك واضح»
[8] و أورد بعض الأساطينفي المغني في الأصول، ج2، ص95 على الشيخ الأنصاري بإيرادين يرجعان إلى إيراد المحقق النائيني.: «الأول: أن قاعدة الاشتراك في الأحكام تشمل الأحكام الواقعية و الظاهرية، في ما لو كان الدليل الدال عليها لفظياً، كما هو مقتضى الإطلاق، و أما لوكان لبياً، فبما أنه لا لسان له يقتصر فيه على القدر المتيقن، و هي الأحكام الواقعية، و مفاد الاستصحاب حکم ظاهري، و الدليل الدال على قاعدة الاشتراك لبي، و هو الإجماع و الضرورة و التسالم، فيقتصر في الاشتراك في الأحكام على القدر المتيقن، و هو الحكم الواقعي.الثاني: على فرض تمامية الإطلاق في قاعدة الاشتراك فهي تامّة مع وحدة الصنف، فالمسلمون کلهم مشتركون في أحكام صلاة المسافر، أو في خمس الغنائم، و لكن لا معنى لاشتراك الحاضر و المسافر في الأحكام، و لا المستفيد فائدة و غيره فيها؛ لاختلافهما في الصنف، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأن موضوع الاستصحاب هو المدرك للشريعتين الذي كان متيقناً و شك، و هو صنف مغایر لغير المدرك الذي لم‌يحصل له يقين و شك»
[9] و وجّه المحقق الحائري في درر الفوائد، الحائري اليزدي، الشيخ عبد الكريم، ج2، ص183. ما أفاده الشيخ الأنصاري. بقوله: «و يمكن أن يكون نظره إلى أن المعدوم الذي يوجد في زمن المدرك للشريعتين متيقن لحكم ذلك المدرك في الشريعة الأولى و شاك في حكمه أيضاً في هذه الشريعة، فيحكم بأدلة الاستصحاب ببقاء ذلك الحكم للشخص المدرك للشريعتين، ثم يحكم بثبوته لنفسه بواسطة الملازمة الثابتة بالشرع. و بعبارة أخرى: الحكم الثابت للمدرك للشريعتين بمنزلة الموضوع لحكمه، و هذا الاستصحاب في حقّ المعدوم الذي وجد في عصره من الأصول الجارية في الموضوع، فافهم»
[10] و وجّهه الشيخ حسين الحلي) في أصول الفقه، الحلي، الشيخ حسين، ج10، ص82. بقوله: «إنّ الحكم المستصحب و إن كان هو حكم من أدرك الشريعتين، إلّا أنّ من لم‌يدرك الشريعة السابقة يمكنه استصحاب حكم ذلك المدرك، و يرتّب أثر بقائه و هو اشتراكه معه في التكليف، و ذلك نظير استصحاب المجتهد حكم الحائض مثلاً و يرتّب أثر بقائه و هو إخباره ببقاء حكمها.و تارةً يكون عدم انحسام مادّة الإشكال لأجل أنّ استصحاب غير المدرك حكم المدرك لا‌يترتّب عليه أثر بالنسبة إلى غير المدرك، إلّا بالملازمة بين الحكمين كما هو قضية الاشتراك، و حينئذٍ يكون الأصل مثبتاً».و أصول الفقه، الحلي، الشيخ حسين، ج10، ص83..: «و يمكن الجواب عنه: بأنّا لا‌نريد من استصحاب حكم المدرك إثبات لازمه الواقعي و هو حكم غير المدرك، بل نريد من استصحاب حكم المدرك إثباته ظاهراً، و ننتقل من إثباته ظاهراً إلى إثبات الحكم ظاهراً في حقّ غير المدرك بدعوى أنّ دليل الاشتراك كما يقضي بالملازمة بين الحكمين واقعاً، فكذلك يقضي بالملازمة بينهما ظاهراً، و هذا هو الذي أجاب عنه بقوله: بداهة أنّ الاشتراك إنّما يكون في التكاليف الواقعية، و أمّا التكاليف الظاهرية التي تؤدّي إليها الأُصول العملية فليس محلّ لتوهّم الاشتراك فيها إلخ‌ و حاصله إنكار الملازمة بين [الحكمين‌] الظاهريين، فإنّ الملازمة إنّما جاءت من دليل الاشتراك، و هو مختصّ بالأحكام الواقعية هذا، مضافاً إلى أنّ الملازمة بين الحكمين الظاهريين إنّما تنفع بعد إثباتنا الحكم الظاهري في حقّ المدرك، و المفروض أنّا لا‌يمكننا إثباته بالاستصحاب لعدم الأثر في حقّنا، فلاحظ»
[11] أورد بعض الأساطين على المحقق الحائري في المغني في الأصول، ج2، ص96 بوجهين و هما يرجعان إلى ما أفاده الشيخ الحلي). إلى حدٍّ ما:«الأول: أن الأصول العملية مطلقاً – و منها الاستصحاب- وظيفة للشاك نفسه، فمن كان على يقين فشك لا‌ينقض اليقين بالشك عملاً و جريان الاستصحاب لشخص آخر يحتاج إلى دليل، فما هو الدليل على صحة جريان غير المدرك للاستصحاب بالنسبة لحقّ المدرك؟و بعبارة أخرى: أن الاستصحاب وظيفة معينة لعمل العامل في ظرف الشك، و من له يقين و شك، و ليقينه و شكه أثر، هو مدرك الشريعتين، و غير المدرك لهما و إن كان له يقين بوجود أحكام و شك في بقائها، و لكن لا دليل على جريانه الاستصحاب من أجل المدرك للشريعتين.نعم، قام الدليل على جريان الاستصحاب لشخص آخر في خصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد، فلو مات المجتهد الذي كان أعلم، و قلّد الحي، و شك في أعلمية الحي على الميت، فللمجتهد أن يقول له: كنت على يقين من أعلمية الميت فشككت فبحكم لاتنقض اليقين بالشك تبقى على يقينك، فتبقى على تقليد الميت، و لا‌يجوز لك العدول، و إنما صح إجراء الاستصحاب للآخر في باب الاجتهاد خاصة - لوجوه منقّحة في بابه، ککون المقلّد عاجزاً عن إجرائه، فيتكفّل المجتهد بذلك، أو ينوب عنه في إجرائه.الثاني: أن قاعدة الاشتراك مشروطة بوحدة الصنف، و لا اتحاد بین مدرك الشريعتين، و من لم‌يدركهما، فكلٌّ يعمل بوظيفته، فللمدرك لهما يقين بجعل الحكم و شك فيه فيجري الاستصحاب، و أما من لم‌يدركهما فلا يقين له بالحدوث فيعمل بوظيفته»