بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/05/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه الخامس؛ المقام الأول؛ القول بجریان الاستصحاب التعلیقی

 

إیرادات أربعة علی استدلال الشیخ الأنصاري

الإیراد الأوّل

و هو النقض على الشیخ، حیث یمنع عن جریان الاستصحاب في العقود التعلیقیة، و لذلك قال المحقّق النائیني في مقام النقض علیه:

«قد منع الشیخ في مبحث الخیارات من المكاسب عن جریان الاستصحاب في العقود التعلیقیة، مع أنّه من القائلین بصحّة الاستصحاب التعلیقي في مثل العنب و الزبیب»([1] ).

و مراده من العقود التعلیقیة في قبال العقود التنجّزیة هي مثل عقد الجعالة و السبق و الرمایة و الفرق بین العقود التنجّزیة مثل عقد البیع و العقود التعلیقیة مثل الجعالة هو أنّ البائع في عقد البیع ینشئ الملكیة المنجزة و لكن المُنشَأ في العقود التعلیقیة هو الملكیة على تقدیر خاص كردّ الضالّة في عقد الجعالة و تحقّق السبق في عقد السبق و إصابة الرمي في عقد الرمایة.

ثم قال المحقّق النائیني:

«و یا لیته عكس الأمر و اختار المنع عن جریان الاستصحاب التعلیقي في مثال العنب و الزبیب، و الصحّة في استصحاب الملكیة المنشأة في العقود التعلیقیة.

أمّا وجه المنع عن جریان الاستصحاب في مثال العنب و الزبیب فلما سیأتي بیانه و أمّا وجه الصحّة في الملكیة المنشأة في العقود التعلیقیة فلأنّ حال الملكیة المنشأة فیها حال الأحكام المنشأة على موضوعاتها؛ و كما یصحّ استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخه ولو قبل فعلیته بوجود الموضوع خارجاً، كذلك یصحّ استصحاب بقاء الملكیة المعلّقة عند الشك في بقائها و لو قبل فعلیتها بتحقّق السبق و إصابة الرمي خارجاً»([2] ).

الإیراد الثاني

إنّ المحقّق النائیني أشار إلى تقریبین للاستصحاب التعلیقي: الأوّل استصحاب نفس الحرمة و النجاسة العارضتین على العنب المغلي، الثاني استصحاب الملازمة بین الغلیان و النجاسة و الحرمة و سببیة الغلیان لهما.

ثم استظهر من كلام الشیخ التقریب الثاني و لذا أورد علیه بوجهین:

«أوّلاً: إنّ الملازمة بین غلیان العنب و نجاسته و حرمته و إن كانت أزلیّة تنتزع من جعل الشارع و إنشائه النجاسة و الحرمة على العنب المغلي أزلاً و یكون انقلاب العنب إلى الزبیب منشأ للشك في بقاء الملازمة، إلا أنّه قد عرفت في الأحكام الوضعیة أنّ الملازمة و السببیة لایعقل أن تنالها ید الجعل الشرعي؛ فلا‌یجري استصحاب بقاء الملازمة و السببیة في شيء من الموارد، لأنّ المستصحب لا‌بدّ و أن یكون حكماً شرعیاً أو موضوعاً لحكم شرعي ... .

و ثانیاً: إنّ الملازمة على تقدیر تسلیم كونها من المجعولات الشرعیة فإنّما هي مجعولة بین تمام الموضوع و الحكم، بمعنی أنّ الشارع جعل الملازمة بین العنب المغلي و بین نجاسته و حرمته و الشك في بقاء الملازمة بین تمام الموضوع و الحكم لایعقل إلا بالشك في نسخ الملازمة، فیرجع إلى استصحاب عدم النسخ و لا إشكال فیه، و هو غیر الاستصحاب التعلیقي المصطلح علیه.

فالإنصاف أنّ الاستصحاب التعلیقي ممّا لا أساس له، و لایرجع إلى معنی محصّل»([3] ).

الإیراد الثالث

و هو یتوجّه إلى القائلین بالاستصحاب التعلیقي و لایختصّ ذلك باستدلال الشیخ و هذا الإیراد نقضيّ و بیانه:

«انّ القائل به لا أظنّ أن یلتزم بجریانه في جمیع الموارد، فإنّه لو شك في كون اللباس متّخذاً من مأكول اللحم أو من غیره، فالحكم بصحّة الصلاة فیه تمسّكاً بالاستصحاب التعلیقي -بدعوی أنّ المكلّف لو صلّی قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحیحة فتستصحب الصحّة التعلیقیّة إلى ما بعد لبس المشكوك و الصلاة فیه- ممّا لا أظنّ أن یلتزم به القائل بالاستصحاب التعلیقي، و لو فرض أنّه التزم به فهو بمكان من الغرابة»([4] ).

الإیراد الرابع

إنّ ما أفاده من تحقّق الملازمة بالفعل من دون تعلیق و إن كان تامّاً بلا إشكال، فإنّ الملازمة المذكورة بین اللازم و الملزوم محقّقة في وعائه المناسب له و لا وجود لها في وعاء آخر، أمّا ما ادّعاه من وجود اللازم و قال إنّ له وجوداً مقیّداً بكونه على تقدیر الملزوم و إنّ هذا الوجود التقدیري متحقّق في نفسه، فلا‌یمكن المساعدة علیه، لأنّ وجود اللازم و هو الحكم منوط إمّا بفعلیة موضوعه كما علیه جمع من الأعلام و إمّا بجعل الشارع و إنشائه، أمّا وجوده في نفسه في قبال العدم فلا‌یعدّ تحقّقاً له عند العرف و إن كان له تحقّق عقلاً في وعاء نفس الأمر، لكن ذلك مرتبة من التحقّق قبل تحقّقه في وعائه المناسب له، كما أنّ لكلّ شيء خارجي تحقّقاً و وجودا في نفس الأمر و وجودا في وعاء علم الله تبارك و تعالى و ذلك قبل تحقّق الشيء و وجوده في الخارج.

فلو قلنا بكفایة هذا الوجود (أي الوجود نفس الأمري أو وجود الشيء في علم الباري تعالى أو المبادي العالیة مثل علم صاحب الولایة و المشیة الكلّیة الإلهیة) في تحقّق الشيء سابقاً و الیقین به الذي هو ركن من أركان الاستصحاب، للزم وجود الحالة السابقة في جمیع الأمور و هذا ممّا لایلتزم به أحد من الأعلام حتّی الشیخ الأعظم الأنصاري، فلا‌بدّ في وجود الحالة السابقة من تحقّق الشيء في وعائه من الخارج أو وعاء الاعتبار فیما إذا كان الشيء اعتباریاً.([5] )

الجواب عن الإیراد الرابع

یمكن أن یكون مراد الشيخ الأنصاري من وجود اللازم في نفسه في قبال العدم، وجود الحكم في قبال الجعل و الإنشاء و هو وجود اعتباري في وعاء عالم الاعتبار و حینئذٍ یقال: إنّ هذا الحكم موجود في وعائه المناسب له و هو عالم الاعتبارات الشرعیة و لذا یعدّ ذلك من مراتب الحكم الشرعي و إن لم یكن موجوداً في مرتبة الفعلیة لعدم تحقّق موضوعه و لكن ذلك یكفي لجریان الاستصحاب و تمامیة أركانه بالنسبة إلیه.

و هذا التقریر لكلام الشیخ الأعظم الأنصاري یوجب حلّ الإشكال، إلا أنّه یتمّ على المبنی المختار([6] ) من أنّ الحكم في مرحلة الإنشاء حكم حقیقي بالحمل الشائع الصناعي خلافاً للمحقّق الإصفهاني حیث قال بأنّ الحكم في مرحلة الإنشاء حكم بالحمل الأوّلي لا بالحمل الشائع([7] [8] ).

فالاستصحاب التعلیقي من جهة استصحاب الملازمة ممنوع كما تقدّم في كلام المحقّق النائیني في الإیراد الثاني على الشیخ الأعظم الأنصاري([9] ) و أمّا من جهة استصحاب وجود اللازم و هو الحكم الشرعي الإنشائي فجارٍ قطعاً و أركانه تامّة لوجود الیقین السابق و الشك اللاحق و تحقّق المستصحب سابقاً في وعائه المناسب له و هو وعاء عالم الاعتبار، لأنّ أوّل مرتبة من مراتب الحكم الشرعي عندنا هو مرتبة الحكم الإنشائي خلافاً لصاحب الكفایة حیث ذهب إلى كون أوّل مرتبة من مراتب الحكم هو مرحلة الاقتضاء و عدّ مرتبة الإنشاء ثاني مراتب الحكم.

و نتیجة ذلك أنّ الاستصحاب التعلیقي جارٍ لتمامیة أركان الاستصحاب فیه.([10] )

 


[1] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص461.
[2] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص462.
[3] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص471.
[4] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص472.
[5] أورد إيراداً رابعاً في المغني في الأصول، ج2، ص50: «و التحقیق في الجواب عنه یحتاج إلى بیان مقدمة و هي:أنه إذا کان لشيء مقتضٍ و لم‌یتحقق الشرط فالمقتضی- بالفتح - غیر موجود في حدّه و لکنه موجود بوجود المقتضي، فإنّ کلّ مقتضی موجود في المقتضي، و کل فعلیة موجودة في القابل، فللنطفة - مثلاً – قابلیة لأن تکون علقة، فالعلقة لا‌تکون موجودة بالفعل حین وجود النطفة، و لکنّها موجودة في النطفة بنحو من الوجود، و هو وجود المقتضی في المقتضي، و الفعلیة في القابل، و هذا الأمر سارٍ في جمیع التکوینیات، و هل یأتي في التشریعیات لیتمّ کلام الشیخ و من تبعه أو لا، فلا‌یتمّ کلامهم؟التحقیق عدم مجيء ذلك في التشریعیات، و السرّ في ذلك: أن نسبة الموضوع إلى الحکم لیست هي نسبة المقتضي للمقتضی لیتمّ ما ذکر، بل الأحکام تدور مدار اعتبار المعتبر، فهي تتحقق باعتبار الشارع، و اعتباره هو المقتضي لها، و الموضوعات حاملة للملاکات لیس إلا؛ فإنّ نسبة المقتضي للمقتضی إنّما هي في الأمور التي یوجد فیها ترشیح و ترشّح، و تولید و تولّد کنسبة النار إلى الحرارة، و لیست نسبة الموضوع إلى الحکم من هذا القبیل، و حینئذٍ فبما أنّ الغلیان شرط فانتفاء الشرط یقتضي انتفاء المشروط، فیستحیل وجود الحرمة قبل الغلیان بأي وجه من الوجوه، و الالتزام بالوجود التقدیري الذي أفاده الشیخ. باطل.و ببیان فنّي: أنّ الفعلیة مساوقة للوجود، والاختلاف بینهما لفظي، و علیه فالفعلیة من جهة دون جهة في قبال الفعلیة من جمیع الجهات أمر باطل؛ لأنّا لو قلنا بذلك لکان لازمه القول: بأنّ الشيء موجود من جهة غیر موجود من جهة، و هو باطل قطعاً، و القول بأنّ الحرمة فعلیة من بعض الجهات لازمه کون الشيء موجوداً من جهة غیر موجود من جهة و هو محال.و بعبارة أخری: بأن التقدیر في قبال التحقیق، و الأحکام الشرعیة في مرحلة الإنشاء مقدرة الوجود، و لا‌تصبح فعلیة إلا بعد تحقق موضوعها مع قیوده، فالوجود التقدیري غیر نفس الوجود، أي أن تقدیر الوجود أمر، و نفس الوجود أمر آخر، فتقدیر الوجود لیس هو إلا فرض الوجود، و الأحکام الشرعیة تدور مدار تحقق الموضوع، و لاتدور مدار تقدیر وجوده مع تقدیر قیوده، فالفرق بین ما قبل صدور قضیة (یحرم العنب إذا غلی) و ما بعدها، هو إنشاء الشارع للحکم على فرض غلیان العنب، و أما تحقق ذلک الحکم فیتوقف على تحقق العنب و الغلیان في الخارج.و الحاصل: أن الموضوع - قبل تحقق قیده - مفروض الوجود و یستحیل فعلیة الحکم حینئذٍ، إنما الموجود هو الإنشاء و لا شك لنا فیه، و لکن الأثر - و هو الطاعة و العصیان – لا‌یترتب على تقدیر الحکم، بل یترتب على وجوده»
[6] عيون الأنظار، ج1، ص584.
[7] نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج2، ص575..: «ثبوته إنشاء و هو وجود طبيعي‌ البعث‌ المفهومي‌ بتبع اللفظ الذي ينشأ به، فاللفظ موجود بالذّات و البعث النسبي المفهومي بالعرض، كما حقّقناه في مباحث الألفاظ».و قال معلّقاً على قول صاحب الكفاية: (و أما الصيغ الإنشائية فهي- على ما حققناه في بعض فوائدنا- موجدة لمعانيها في نفس الأمر ...): «بل‌ التحقيق أن وجودها وجود معانيها في‌ نفس‌ الأمر بيانه: أن المراد من ثبوت المعنى باللفظ: إما أن يراد ثبوته‌ بعين ثبوت اللفظ؛ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات، و إلى المعنى بالعرض. و إما أن يراد ثبوته‌ منفصلاً عن اللفظ بآلية اللفظ؛ بحيث ينسب الثبوت إلى كلّ منهما بالذات.لا مجال للثاني؛ إذ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني و الذهني. و سائر أنحاء الوجود- من اللفظي و الكتبي- وجود بالذات للفظ و الكتابة، و بالجعل و المواضعة و بالعرض للمعنى.و من الواضح أن آلية وجود اللفظ و عليته لوجود المعنى بالذات، لا‌بدّ من أن تكون في أحد الموطنين من الذهن و العين، و وجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقه في الخارج، أو مطابق ما ينتزع عنه و الواقع خلافه؛ إذ لا‌يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقاً للمعنى أو مطابقاً لمنشأ انتزاعه، و نسبة الوجود بالذات إلى نفس المعنى- مع عدم وجود مطابقه أو مطابق منشئه- غير معقول.و وجوده في الذهن بتصوّره لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني، و الانتقال من سماع الالفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعلية بين اللفظ و المعنى، مع أن ذلك ثابت في كلّ لفظ و معنى، و لا‌يختص بالانشائي.فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه الأول: و هو أن ينسب وجود واحد إلى اللفظ و المعنى بالذات في الأول، و بالعرض في الثاني، و هو المراد من قولهم: (إن الانشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر)، و إنما قيدوه بنفس الأمر مع أن وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضاً بالعرض، تنبيهاً على أنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعية وجود المعنى تنزيلاً في جميع النشآت، فكأنّ ‌المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا‌ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود. و المراد بنفس الأمر حدّ ذات الشي‌ء من باب وضع الظاهر موضع المضمر». و انظر عيون الأنظار، ج1، 580
[8] نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج2، ص575.
[9] تقدّم في ص197.
[10] و استدلّ المحقق الخراساني في الكفاية، ص411 ضمن إشكاله على قول صاحب المناهل بأنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علّق عليه فاختلّ أحد ركنيه: «إن المعلّق قبله إنما لا‌يكون موجوداً فعلاً لا أنه لا‌يكون موجوداً أصلاً و لو بنحو التعليق، كيف و المفروض أنه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم مثلاً أو الإيجاب فكان على يقين منه قبل طروّ الحالة فيشك فيه بعده و لا‌يعتبر في الاستصحاب إلا الشك في بقاء شي‌ء كان على يقين من ثبوته و اختلاف نحو ثبوته لا‌يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.و بالجملة يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أهمل أو أجمل كان الحكم مطلقاً أو معلقاً فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة فيحكم مثلاً بأن العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته من أحكامه المطلقة و المعلقة لو شك فيها فكما يحكم ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه».و أورد عليه بعض الأساطين على ما في المغني في الأصول، ج2، ص52: «إن عندنا مرتبتين في جعل الأحكام، مرتبة الإنشاء، و الحاكم في هذه المرتبة يفرض الموضوع و قيوده، ثم يصدر منه الاعتبار، و لكلّ اعتبار -الذي هو فعل التنفس - معتبَر -بالفتح- فالحاكم يعتبر الحكم على فرض تحقق الموضوع، فيعتبر –مثلاً- وجوب الحج علي المستطيع، و لا ريب أن الاستطاعة -قبل تحققها - فرضية لا تحقيقية، و الوجوب ليس متعلقاً بالمستطيع الفرضي، بل بالمستطيع الفعلي، كما أن حرمة الخمر تتعلق بالخمر الفعلي لا بالخمر الفرضي، ففي مرحلة الإنشاء لا‌يوجد إلا اعتبار فرضي، و إذا وجدت الخمر ترتبت عليها الحرمة. و أمّا قبل وجودها فيستحيل وجود الحرمة لها، إذ المفروض أنّ موضوع الحرمة ليست الخمر الفرضية بل الواقعية، و هي لا وجود لها، فلو وجدت الحرمة بدونها لزم تحقق الحكم بلا موضوع.إذا اّتضح هذا، فالموجود ليس إلا إنشاء الوجوب والحرمة، و المنشأ لايتحقق إلا بعد تحقق الاستطاعة و الخمر، و ما نريد استصحابه هو المنشأ، فإن أمكن انفكاك الفعلية عن الوجود، تمّ كلام المحقق الخراساني). و أما مع مساوقتها الوجود - كما هو كذلك- فلا معنى للقول: توجد الحرمة -قبل الغليان– دون الفعلیة».ذكر المحقق العراقي دليلاً لجريان الاستصحاب التعليقي في النهاية، ج4، ص161 و ما بعدها و في كلامه تطويل نذكره ملخصاً من المغني في الأصول، ج2، ص53: «و بيانه يحتاج إلى ذكر مقدّمات ثلاث:المقدّمة الأولى: أنّ الحكم بالنسبة إلى موضوعه إمّا أن يكون مطلقاً أو معلّقاً، و الثاني قسمان؛ إذ التعليق إمّا أن يكون بحكم العقل أو الشرع.أمّا الأوّل أعني ما كانت نسبته إلى موضوعه هي الإطلاق فيجب فيه تحصيل الموضوع، و مثاله ما لو أمر الطبيب بشرب الدواء، فإنه لا‌بدّ للمريض من تحصيله.و أمّا القسمان الآخران فلا‌يجب فيهما تحصيل الموضوع، و مثال الأوّل منهما ما لو قال المولى: أكرم العالم، فإن وجوب الإكرام معلق على وجود العالم و لا‌يجب إيجاد عالم لإكرامه، بل إن وجد وجب إكرامه.و مثال الثاني منهما العنب إذا غلى يحرم، فإن تعليق الحرمة على الغليان هنا شرعي.و طرح هذه المقدمة لبيان نكتة، و هي أنّهم اختلفوا في مورد جریان الاستصحاب التعليقي، هل هوخصوص ما لوكان التعليق شرعياً أو يشمل حتى التعليق العقلي كما لو قال: يحرم العنب المغلي؟ فإن التعليق فيه عقلي، و اختار جريانه في كلا الموردين.المقدمة الثانية: أن القيود الشرعية على قسمين: قيود الوجوب و قيود الواجب، و يصطلح على الأول بقيود الهيئة، و على الثاني بقيود المادة، و مع أن لكلٍّ من القيدين مدخلية في المصلحة إلا أنهما يختلفان في كيفية الدخل، فإن قيود الوجوب علة لاتّصاف الفعل بالمصلحة، فلا‌يكون الواجب بدونها ذا مصلحة، و قيود الواجب علة في تحقق المصلحة و وصولها إلى مرحلة الفعل، فالزوال قید لوجوب الصلاة فهو علّة لاتّصاف صلاة الظهر بالمصلحة، و لا مصلحة فيها بدون تحققه، و الطهارة قيد للصلاة، فلا‌توجد المصلحة بدونها.و يتفرّع على هذا أن قيود الوجوب واقعة في سلسلة علل الأحكام؛ لأن نسبة المصلحة إلى الحكم نسبة العلة للمعلول، و إنشاء الحكم من دون مصلحة لغواً لا‌يصدر من الحكيم، و الفرض أن قيد الوجوب دخيل في اتصاف الفعل بالمصلحة، فيكون قيد الوجوب في مرتبة على الحكم، و أما قيود الواجب فهي في سلسلة معلولات الحكم؛ لأن قيد الواجب يوصل المصلحة إلى الفعلية، فبعد تحقق الوجوب تصل النوبة إلى قيد الواجب، و مع عدم وجوب الصلاة لا شأن لكون الطهارة شرطة لها.و من المعلوم عدم إمكان تقيّد المعلول بعلته ولا‌تقيّد العلة بمعلولها؛ لأن القيد في مرتبة المقيد، و العلة في مرتبة متقدمة على المعلول، فلا‌يعقل -مع اختلاف الرتبة بينهما- أن يكون أحدهما مقيدة بالآخر؛ فإن الاختلاف في الرتبة يمنع من تقييد ما في الرتبة المتقدمة بما في الرتبة المتأخرة، و كذلك العكس، و نسبة الموضوع إلى الحكم و إن لم‌تكن نسبة العلة للمعلول؛ لأن علة الحكم هي إرادة الشارع، إلا أنها بمنزلتها ملاكاً؛ فإن الموضوع متقدم رتبة على الحكم.و بمقتضى البرهان السابق لا‌يعقل تقيد الموضوع بحكم نفسه و لا بما هو من علله، و لا تقيد الحكم بموضوعه، و بما أن علة الموضوع واقعة في رتبة العلل بالنسبة إلى الموضوع أو إلى الحكم، فلا‌يمكن أن يكون المتأخر مقيدة بما في رتبة العلة، فإنا أثبتنا بالبرهان أن قيد الوجوب في رتبة علة الحكم، فيستحيل أن يقيد الحكم بقيد الوجوب، لتقدمه على الحكم بمرتبتين، التقدمه على المصلحة لكونه شرط لها و هي متقدمة على الحكم.و النتيجة من هذه المقدمة: أنه في جميع القيود الراجعة للوجوب لا‌يمكن أن يتقيد الحكم بملاکه، و لا‌يخفى أن التقييد أمر غير التضييق القهري، فإن الحكم لا‌يتقيد بموضوعه و لا بقيد موضوعه، و لكن لا‌يمكن أن يتجاوز عن دائرة موضوعه، فكلّ حكم مضيّق بموضوع نفسه، فالحرارة الصادرة من النار لا‌يمكن أن تتقيد بالنار، و لكن تتضيق بها، فإن الحرارة الصادرة من النار غير الحرارة الصادرة من الشمس، فكل من الحرارتين محدودة بمنشأصدورها، و سيظهر أثر هذه المقدمة في أثناء البحث.المقدمة الثالثة: و هي مهمة جدّاً، و إن ثبتت فهي تغير مسار البحث الأصولي، و قد طرحها لحلّ هذا المطلب: إن الأحكام الشرعية مطلقة، التكليفية و الوضعية، - كما يراها عمدة أساطين الأصول و الفقه- أنشأت على نحو القضايا الحقيقية، و معنى ذلك أن الحكم أنشئ للموضوع المفروض الوجود، فإذا وجد في الخارج وجد المحمول خارج و صار فعلية، و هذا المعنى يأتي في التكوينيات و التشريعيات على حدّ سواء، كما في (النار حارّة)، و (الخمر حرام)؛ فإن معنى ذلك أنه إذا وجد شيء في الخارج و اتّصف بأنه نار فهو حارّ، و إذا وجد شيء في الخارج و اتّصف بأنه خمر فهو حرام، و إذا وجد عقد في الخارج و اتّصف بأنه بيع فهو لازم.و قد خالفهم المحقق العراقي) في ذلك؛ فذهب إلى التفصيل بين الأحكام الوضعية و التكليفية، فالأحكام الوضعية جعلت بنحو القضايا الحقيقية؛ لكونها اعتبارات قائمة بالجعل و الاعتبار، فالشارع يعتبر العقد غير قابل للانفساخ فيكون لازمة، أو يعتبره قابله فيكون جائزة، كما يعتبر الزوجية و الطلاق و الولاية للأب و هكذا..، و هذا الاعتبار لا‌يكون إلا بنحو القضايا الحقيقية.و أما الأحكام التكليفية مطلقة فليست كذلك، لأن حقيقة الحكم ليست إلا الإرادة و الكراهة، فإذا بلغت إحداهما مرحلة البروز انتزع العقل منها البعث و التحريك أو الزجر و المنع.و الوجه في ما ادّعاه: أن القضايا على قسمين: ١) القضايا التي يكون ظرف العروض فيها و الاتصاف هو الخارج، أي: أن وعاء عروض المحمول على الموضوع، و اتصاف الموضوع بالمحمول و الخارج، کالجواهر و الأعراض، و الأحكام الوضعية، و القضايا في جميع ذلك حقيقية؛ فإن ظرف عروض الحرارة على النار، و اتصافها بالحرارة هو الخارج، و ليس الذهن ظرف العروض و لا الاتصاف، فإذن قضية (النار حارّة) قضية حقيقية، فمع فرض النار تفرض الحرارة، و توجد مع وجودها، و قضية (البيع لازم أو صحیح)، قضية حقيقية أيضاً، ففي فرض وجود البيع يفرض كونه لازمة أو صحيحة و يترتب على وجوده في الخارج اللزوم أو الصحة.2) القضايا التي يكون ظرف العروض فيها و الاتصاف هو الذهن، و منها الأحكام التكليفية، فإن قوام الحكم هو الإرادة و الكراهة، ففي قوله: (أكرم العالم) قد تعلّقت الإرادة بإكرامه، و في قوله: (لا‌تشرب الخمر) قد تعلقت الكراهة بشربه، و الإرادة من الأمور ذات التعلق التي قوامها بالمتعلق فيستحيل وجودها بدونه، كالحبّ و البغض و الشوق، فإنه يستحيل تحقق الحبّ بدون محبوب، و الإرادة بدون مراد، و البغض بدون مبغوض.و بما أن صقع وجود الإرادة و الكراهة هو عالم النفس فلا‌بدّ أن يكون متعلقهما أمر نفسية، لأن ما في الخارج لا‌يمكن أن يكون متعلق لما في النفس، لأن الإرادة موجود نفسي، و ما في الخارج موجود خارجي، و لا‌يمكن أن يكون النفسي خارجية و لا الخارجي نفسياً، و إلا لزم تحقق الإرادة بلا مراد، و الكراهة بلا مکروه، و الحبّ بلا محبوب وكلّ ذلك محال.ثم إن الإرادة والكراهة على نحوين: إرادة أو كراهة منوطة، و إرادة أو كراهة غیر منوطة؛ و مثال الإرادة غير المنوطة ما لو قال المولى: أكرم زبدة بدون أن يأتي بشرط، و مثال المنوطة ما لو قال: إن جاءك زيد فأكرمه، و مثال الكراهة غير المنوطة ما لو قال المولي: الخمر حرام، و مثال الكراهة المنوطة: العنب إذا غلى يحرم، فإنها منوطة بالغليان، و على هذا فالإرادة و الكراهة في جميع الواجبات والمحرمات المشروطة منوطتان، و أما في الواجبات والمحرمات المطلقة ليستا بمنوطتين.إذا اتّضحت هذه المقدمات نقول: إن الكراهة في قول المولى: العنب إذا غلى يحرم، تعلقت بشرب العصير العنبي إذا تحقق الغليان، و متعلق الكراهة - كما تقدم - موجود نفسي لا‌محالة، و لا‌يمكن أن يكون وعاؤه الخارج، و الحرمة التي هي الكراهة منوطة بالغليان، و عند الإناطة لا‌بدّ أن يكون المنوط به موجودة في أفق النفس أيضاً، فالحاكم عندما يفرض غليان العنب تتحقق الكراهة، كما أنه إذا فرض تحقّق زوال الشمس مع تصور زوالها يتحقق الحكم بوجوب الصلاة، فيتمّ الاستصحاب التعليقي حينئذ بهذا البيان:إن قضية (العنب إذا غلى يحرم) ليست قضية حقيقية، و قيد الكراهة – و هو الغليان - ليس هو الخارجي؛ لأن ظرف وجود الغليان الخارجي هو الخارج، و ظرف وجود الكراهة هو النفس، و يستحيل أن تناط الكراهة النفسائية بأمر خارجي، فلا‌بدّ أن تناط - إذن - بالصورة النفسانية للغليان، و بما أن هذه الصورة متحققة فالكراهة - التي هي الحرمة- متحققة قبل الغليان الخارجي، أي تتحقق بنفس تصور الغليان، فإذا تغيّر حال العنب - قبل أن يغلي - إلى زبيب ثم غلى و شككنا في بقاء الحرمة استصحبناها».و قال المحقق الحائري في درر الفوائد، ص545: لا إشكال في صحّة هذا الاستصحاب، لعدم‌ الفرق‌ في‌ شمول‌ أدلة الباب‌ بين‌ ما يكون‌ الحكم‌ المتيقن‌ في‌ السابق‌ مطلقاً أو مشروطاً، و لا‌يتوهم أن الحكم المشروط قبل تحقق شرطه ليس بشي‌ء، إذ قد تقرّر في محلّه تحققه و وجوده قبل وجود شرطه، و كما أن وظيفة الشارع جعل الشي‌ء حراماً مطلقاً مثلاً كذلك وظيفته جعله حراماً على تقدير كذا، فإذا شك في بقاء الحرمة المعلقة في الآن الثاني يصحّ أن يجعل حرمة ظاهرية معلقة على ذلك الشرط، و إذا صحّ ذلك فشمول أدلة الاستصحاب مما لا‌ينبغى أن ينكر، و هذا واضح.قال المحقق الإصفهاني في نهاية الدراية، ج5، ص172 في بيان كلام صاحب الكفاية: تارة- يكون في بقاء الحكم الكلي المرتب على موضوع كلي، بنحو القضية الحقيقية، و هذا كما في الشك في نسخ الحكم و ارتفاعه من موضوعه الكلي، بعد ثبوته له، سواء كان الحكم المرتب مطلقاً أو مشروطاً معلقاً.و أُخرى- يكون في بقاء الحكم الفعلي، و ارتفاعه عن موضوعه، لتبدل حالة منه إلى حالة أُخرى، و هذا هو محلّ الكلام في غير مقام الشك في النسخ.فنقول: إن‌ كان‌ الوجوب‌ الشرطي‌ التعليقي‌- أو الحرمة كذلك- مرتباً على الموضوع المتقيد بما يسمى شرطاً، كما إذا قلنا بأن مرجع قوله: (يحرم العصير العنبي إذ غلا) إلى حرمة العصير المغلي، و أن تعليقها باعتبار ترتبها على موضوع‌ مقدر الوجود، و إن فعليتها بفعلية موضوعها، فحينئذٍ لا مجال لاستصحاب الحرمة المعلقة، حيث لا شك في عدم ارتفاع الحرمة الكلية عن موضوعها، إذ ليس الكلام في نسخها بل الكلام في ارتفاع الحرمة الفعلية بفعلية موضوعها.و من الواضح أنه- قبل تبدل العنبية إلى الزبيبية- لم‌يكن الموضوع و هو العصير المغلي فعلياً، لتكون له حرمة فعلية، فيستصحب، و بعد التبدل و حصول الغليان يشك في حرمته فعلًا فإن المفروض أنّ هذه الحالة حالة الشك.فما كان له حرمة كلية إنشائية لا شك في بقائها له، للقطع فعلاً- أيضاً- بأن العصير العنبي المغلي حرام، و ما كان له حرمة فعلية تطبيقاً لم‌يكن لموضوعها تحقق و فعلية في حالة العنبية حتّى يستصحب بعد التبدل إلى الزبيبية، إذ الموضوع هو العصير المغلي في حالة العنبية، و كونه بحيث إذا غلا- في حالة العنبية- تثبت له الحرمة الفعلية أمر عقلي كما هو شأن كل موضوع مركب.فإن العقل يحكم عند وجود جزء منه بأنه إذا تحقق الجزء الآخر يكون الحكم فعلياً، و ليس هذا الأمر العقلي قابلًا للاستصحاب.نعم إذا غلا العصير العنبي، و شك في بقاء حرمته بذهاب ثلثيه بغير النار كان مورداً للاستصحاب، للقطع بفعلية الحرمة بفعلية موضوعها قبل ذهاب الثلثين.و إن كان الحكم التعليقي حكماً معلّقاً على الشرط حقيقة زيادة على تعليقه على موضوعه المقدر وجوده، فموضوع الحرمة هو العصير في حالة العنبية، و الغليان شرط للحكم لا جزء الموضوع، و الحكم المشروط و إن لم‌يكن فعلياً قبل حصول شرطه، كما هو التحقيق، إلّا أنّ الشك ليس في بقاء الحكم الإنشائي الكلي لموضوعه الكلي، بل الحكم الإنشائي المنطبق على هذا الموضوع الجزئي، و إن كانت فعليته منوطة شرعاً بوجود شرط فعليته.فالإشكال إن كان لعدم قابلية الحكم الإنشائي- قبل فعليته بفعلية شرطه- للاستصحاب، فهو مدفوع: بأن الإنشاء- بداعي جعل الداعي فعلًا أو تركاً- هو تمام ما بيد المولى، و زمانه بيده. و إن كان فعليته البعثية أو الزجرية منوطة بشي‌ء عقلًا أو شرعاً، و لذا لا‌يشك في قبول الإنشاء الكلي للاستصحاب إذا شك في‌ نسخه و ارتفاعه الكلي.و إن كان لعدم الشك في الإنشاء المجعول من الشارع، فهو مدفوع بأن ما لا شك في بقائه هو الإنشاء الكلي لموضوعه الكلي و أما الإنشاء المتعلق بهذا الموضوع الجزئي بسبب تعلّق الكلي منه بكلي الموضوع فهو مشكوك البقاء بعد تبدل حالة إلى حالة».و ناقش في المغني في الأصول، ج2، ص67 دليلي هذين العلمين و قال: «أنه لا شك في أن الشارع - في الأحكام المشروطة - قد أوجد شيئاً، و لكن السؤال عن حقيقية هذا الشيء المنشأ، و ينبغي التحقيق أولاً في دعوی کون نسبة الإنشاء إلى المنشأ هي نسبة الإيجاد إلى الوجود؛ إذ أن الإيجاد والوجود متحدان وجود متغایران اعتبار کالمصدر و اسمه، فبملاحظة الوجود في نفسه يسمی وجودة، و بملاحظته بالنسبة إلى الموجد يسمى إيجادة، و دعوی کون الإنشاء كذلك يرد عليها نقض و حلّ:أما النقض، فبالملكية في باب الوصية؛ إذ لا شك في كونها من الإنشائيات، و لا شك في أن الموصي حينما يوصي قد أنشأ ملكية معلقة على ما بعد الموت فيقول: هذه الدار لزيد بعد مماتي، فلو قلت بأن نسبة الإنشاء إلى المنشأهي نسبة الإيجاد إلى الوجود للزم إما أن تنكر إنشاء الملكية في الوصية؛ لعدم تحقق المنشأ فيها حين الإنشاء، و هو باطل قطعة، و إما أن تقول بتحقق الملكية للموصی له قبل موت الموصي و هو خلاف الضرورة الفقهية.فيتبين من هذا بطلان القول بأن نسبة الإنشاء إلى المنشأ هي نفس نسبة الإيجاد إلى الوجود.و أما الحلّ فينضح بمعرفة حقيقة الإنشاء، هل هو الإيجاد أو لا، وعلى فرض كونه إيجادة فبأي نحو؟في الإنشاء مسلكان أساسيان، و يوجد مسلك ثالث إلا أنه خارج عن محلّ بحثنا.المسلك الأول: أن الإنشاء هو الاعتبار المبرز، فعندما يقول المنشئ: «زوّجت» فهو يعتبر الزوجية بين الاثنين و قد أبرزها بكلمة زوجت، و عندما يقول: «ملكتك الدار»، فإن البائع يعتبر الملكية للمشتري و يبرز ذلك بكلمة ملكت، ففي الإنشاء اعتبار أمر، و يتحقق ذلك الأمر في وعاء اعتباره، فالإنشاء يشتمل على اعتبار و معتبر و إبراز.المسلك الثاني: أن الإنشاء إيجاد المعنى الاعتباري، فالمنشئ بقوله: «زوّجت» يوجد العلقة الزوجية في وعاء الاعتبار.فالفرق بين المسلكين أن الصيغ الإنشائية مبرزات على المسلك الأول، و موجدات على المسلك الثاني.أما على المسلك الأول، فإن قلنا بعدم انفكاك المعتبر عن الاعتبار فما أفاده تامّ، و إلا فلا، و الاعتبار على نحوين: إذ تارة يكون مطلقاً فلا‌ينفك المعتبر عنه، كما لو قال: «بعتك الدار»، و أخرى يكون معلقاً على شيء فينفك المعتبر عنه، إذ يكون الاعتبار فعلية، و المعتبر بعد تحقيق المعلق عليه، كما في الوصية سواء منها التمليكية كقوله: «ملكتك الدار بعد مماتي»، أو العهدية كقوله: «أنت وليٌّ على أولادي بعد مماتي»، و لهذا لا‌يحقّ للموصی له أن يتصرف إلا بعد موت الموصي.فعلى هذا المبنى يبطل كلام المحقق الحائري؛ لأن ما يصدر من الشارع فعلاً عند قوله: (العنب إذا غلى يحرم) هو اعتبار الحرمة مع إبرازها بهذه القضية، و أما المعتبر و هي حرمة العصير فهي بعد تحقق الغليان، فما لم‌يتحقق الغليان لا‌توجد حرمة حتى تستصحب، بل لا‌يوجد إلا اعتبارها و هوغيرها.و الحاصل: أن هنا أمرين: الاعتبار، و هو لا شك في وجوده و بقائه فلا حاجة لاستصحابه، و المعتبر و هو لا وجود له حتى يستصحب.و أما على المسلك الثاني فقد أفاد فيه: أن المنشئ قد أوجد شيئاً بالإنشاء، فيستصحب ذلك الشيء الذي وجد.و نقول: إن الوجود يستحيل انفکاکه عن الإيجاد في أيّ صقع كان، سواء أ كان الإيجاد تكوينياً أم اعتبارياً؛ إذ النسبة بينهما هي نسبة المصدر لاسمه، فلا‌يفرق في استحالة انفكاكهما بين الإيجاد التكويني و التشريعي، و هذا ما ينبغي الالتفات إليه، إلا أن الموجد في الإنشاء هل هي الصيغة، بحيث تكون علة تامة لذلك الأمر الاعتباري فيستحيل الانفكاك؛ لعدم معقولية التفكيك بين العلة التامة و معلولها، أو الصيغة بحيث تكون سبباً لا علة تامة، و مع ضمّ الشرط إليها تتمّ العلة، فلا‌يستحيل انفكاك المسبب عن السبب زماناً؟إذا اتّضح هذا فسببية الإنشاء للمنشأ لا‌تخرج عن أحد أمرين: إما سببية تكوينية أو اعتبارية، و الأولى باطلة قطعة؛ لأن (أنكحت) ليست سبباً تكوينياً لتحقق الزوجية، و (بعت) ليست سبباً تكوينياً لتحقق الملكية، فالسببية - إذن - اعتبارية، بمعنى أن الشارع و العقلاء يعتبرون صيغة (بعت) سبباً لحصول الملكية، و إذا كانت السببية اعتبارية، فكل أمر اعتباري دائر مدار نحو اعتبار المعتبر، فإن كان اعتباره غیر مقید فالصيغة سبب بلا قید و شرط فلا‌ينفك المسبب عنها، فلو قال: «ملكتك الدار» انتقلت لك الدار حالاً، و إن جاء بالقيد فالصيغة بحدّ المقتضي، و ما لم‌يتحقق الشرط يستحيل تأثيره في المقتضی -بالفتح -، فإذا قال: «ملكتك الدار بعد وفاتي»، تكون ملكت سببة الوجود الملكية بشرط تحقق موت الموصي، و يستحيل تحققها قبله.فينبغي عدم الخلط بين قول الشارع: العنب إذا غلى يحرم، و بين قوله: الخمر حرام؛ فإن الحرمة توجد على الثاني بمجرد إنشائها، و أما على الأول فالإنشاء بحدّ المقتضي، و تأثيره في وجود الحرمة معلق على تحقق الغليان.و عليه فاستدلال المحقق الحائري). مخدوش على كلا المبنيين في الإنشاء: الاعتبار و الإيجاد»