الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه الرابع: جریان الاستصحاب في الأمور التدریجیة
التنبیه الرابع: جریان الاستصحاب في الأمور التدریجیة
فیه مقامان:
المقام الأوّل في الزمان و المقام الثاني في غیر الزمان من التدریجیات غير القارّة و القارّة
الوجه في البحث عن هذا التنبیه عند الشیخ الأنصاري
قال الشیخ: «إنّه قد عُلم من تعریف الاستصحاب و أدلّته أنّ مورده الشك في البقاء و هو وجود ما كان موجوداً في الزمان السابق، و یترتّب علیه عدم جریان الاستصحاب في نفس الزمان و لا في الزماني الذي لا استقرار لوجوده بل یتجدّد شیئاً فشیئاً على التدریج و كذا في المستقرّ الذي یؤخذ قیداً له»([1]
).
إیراد المحقّق الإصفهاني علی هذا الوجه
«لیس منشأ الإشكال في بقاء الأمور التدریجیة أنّ البقاء عبارة عن وجود ما كان موجوداً في الزمان السابق في الزمان اللاحق، كما یوهمه كلام بعضهم، فإنّ مرجع هذا الإشكال إلى أنّ الزمان حیث لا زمان له فلیس له بقاء، مع أنّ البقاء ینسب إلى الخارج عن أفق الزمان كالمجرّدات.
بل الإشكال من أجل تدریجیة الزمان و ما یشبهه من الحركات الكیفیة و الأینیة بل الجوهریة، فإنّ الأمور غیر القارّة - لعدم القرار للموجود منها بل [هو] بحیث یوجد فینعدم ثم یوجد فینعدم- لا بقاء لها، فالیقین متعلّق بموجود زائل و الشك بحدوث موجود آخر»([2]
).
الكلام في جريان الاستصحاب في الزمان و الزمانيات
ثم إنّ الكلام في هذا التنبیه یقع في جریان الاستصحاب في الزمان و الزمانیات فهنا مقامان:
المقام الأوّل: في جریان الاستصحاب في الزمان.
المقام الثاني: في جریان الاستصحاب في الزمانیات و حیث أنّ الزمانیات على قسمین رئیسيّین القارّة و غیر القارّة فلابدّ أن نتكلّم في المقام الثاني عن كلا القسمین، فلنشرع ببيان المقامين:
المقام الأوّل: في الزمان
إنّ الأعلام اختلفوا في جریان الاستصحاب في الزمان([3]
[4]
)؛ فقال بعضهم بعدم الجریان کصاحب الفصول([5]
) و السيد المجاهد([6]
) و الشیخ الأنصاري، و بعض آخر بجریانه مثل صاحب الکفایة و المحقق العراقي و المحقّق الخوئي و المحقق الصدر و السید المحقق السیستاني([7]
[8]
[9]
[10]
) و أكثر من جاء بعد الشيخ الأنصاري.
و بعض الأعلام قائل بالتفصیل في جریان استصحاب الزمان:
ذهب المحقق النائيني في فوائد الأصول إلى كون استصحابه بمفاد كان التامّة يجري دون ما كان بمفاد كان الناقصة.([11]
)
و تبعه على ذلك بعض الأساطين في المغني في الأصول.([12]
)
الإشكال الأوّل في جریان الاستصحاب في الزمان
إنّ جزء الزمان الذي نقصد جریان الاستصحاب فیه لم یتحقّق في السابق فلا حالة له سابقة حتّی یجري الاستصحاب فیه. و بعبارة أخری: إنّ الركن الأوّل من ركني الاستصحاب و هو الیقین السابق غیر محقّق في الزمان، فلا معنی للبقاء في الزمان.([13]
[14]
[15]
)
جوابان عن الإشكال الأوّل
قد تصدّی جمع من الأعلام لحلّ ذلك مثل صاحب الكفایة و المحقّق النائیني و المحقّق الإصفهاني بل الشیخ نفسه.
الجواب الأول: من الشیخ الأنصاري
«لو أخذ المستصحب مجموع اللیل مثلاً أو النهار و لوحظ كونه أمراً خارجیاً واحداً و جعل بقاؤه و ارتفاعه عبارة عن عدم تحقّق جزئه الأخیر و تجدّده أو عن عدم تحقّق جزء مقابله و تجدّده، أمكن القول بالاستصحاب بهذا المعنی فیه أیضاً لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما یتصور فیه العرف من الوجود»([16]
[17]
).
الجواب الثاني: من المحقّق النائیني
«إنّ الزمان و إن كان بنفسه منقضیاً و متصرّماً بنفسه إلا أنّ تصرّمه مقوّم لحقیقته و ذاته، فإنّ كلّ آنٍ من الآنات المنقضیة إنّما هو من أجزاء الأمر الواحد الموجود، لا جزئي من جزئیاته، فكلّ قطعة من الزمان فرضت یوماً أو شهراً أو سنةً أو غیر ذلك فهي موجودة واحدة مستمرّ بقاؤها ببقاء أجزائها، فمادام یكون جزء منها باقیاً یصدق بقاء تلك القطعة عقلاً، فإنّ الزمان و إن لمیكن مركباً من المادّة و الصورة حقیقةً إلا أنّ ذوات الآنات المتّصلة، كأنّها مادّة لها، و الهیأة الاتصالیة كأنّها صورة لها فالهیأة الاتصالیة هي حافظة وحدتها عقلاً، فإذا شك في انقضائها، فالشك حقیقةً إنّما هو في بقاء ذاك الأمر الواحد المتیقّن حدوثه، إذ المفروض أنّ الیوم أو الشهر أو السنة موضوع عرفاً لمجموع قطعة من الزمان، حادثةٍ بحدوث أوّل جزء منها و باقیة ببقاء آخر جزئها و بعد وحدة هذا المعنی العرفي یكون المشكوك هو بقاء ذاك المتیقّن شخصاً لا غیره. و لیس المقام من باب التسامحات العرفیة في التطبیقات كتسامحهم في إطلاق لفظ المَنّ على ما كان أقلّ منه بمثاقیل حتّی یقال: إنّه لا اعتبار بمسامحاتهم، بل من باب تشخیص المفهوم بالرجوع إلیهم و لا ریب في [لزوم] اتباع نظرهم في ذلك»([18]
[19]
[20]
).
[4] و قال في
مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى، الآملي، الشيخ محمد تقى، ج5، ص121.. في التعلیقة علیه: «إذا طهرت في آخر الوقت و شکت في ضیق الوقت عن إدراك رکعة من الصلاة مع شرائطها فإن علمت بالمقدار الذي یعتبر بقاؤه في تکلیفها بالأداء و أنه یکفیه عشر دقائق مثلاً و کان شکّها في بقاء ذلك المقدار وجب علیها الأداء حینئذ لاستصحاب بقاء الوقت لما ثبت في محلّه من صحّة إجراء الاستصحاب في الزمان»
[7] ففي
كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص407.. «لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الأمور القارّة أو التدريجية الغير القارّة فإن الأمور الغير القارة و إن كان وجودها ينصرم و لايتحقق منه جزء إلا بعد ما انصرم منه جزء و انعدم ... و لايعتبر في الاستصحاب بحسب تعريفه و أخبار الباب و غيرها من أدلّته غير صدق النقض و البقاء كذلك قطعاً هذا مع أن الانصرام و التدرّج في الوجود في الحركة في الأين و غيره إنما هو في الحركة القطعية ... فانقدح بذلك أنه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار و ترتيب ما لهما من الآثار»
[8] نهاية الافكار، العراقي، آقا ضياء الدين، ج3، ص145.. «المقام الأول في استصحاب الزمان و ما يعرضها من العنوان الطاري كاليوم و الليل و الشهر و نحوها من العناوين المنتزعة من مجموع الأزمنة المتعاقبة المحدودة بين الحدّين و المحصورة بين الحاصرين (و لاينبغي) الإشكال في جريان الاستصحاب فيها...»
[10] و في الاستصحاب (السید المحقق السیستاني
.)، ص505: «قد ظهر أن الزمان کما یلاحظ کلیاً کذلك یلاحظ کلاً و الکل و إن کان وجوده بوجود جمیع أجزائه إلا أن هذا في الکلّ غیر التدریجي، و أما في الکل التدریجي فیتحقق الکل بوجود أول جزء منه و على هذا فیصدق البقاء علیه و لیس هناك مانع من استصحابه»
[12] المغني في الأصول، ج2، ص9 و ما بعدها. و من القائلین بالتفصیل السید المرعشي
، قال في القصاص على ضوء القرآن و السنة (السید المحقق المرعشي)، ج3، ص387: «قد وقع اختلاف في تمامیة استصحاب الزمان؛ فمن الأصولیین من أنکر ذلك مطلقاً، و منهم من قال به مطلقاً، و قیل بالتفصیل بأنه إن کان الزمان متقطعاً و متجزئاً فإنه لایجري الاستصحاب لاختلاف موضوعه و إن کان ظرف الزمان یعدّ واحداً فإنه یجري الاستصحاب لوحدة الموضوع ... و المجتهد الحاذق هو الذي یستکشف التجزیة و عدمها من الکلام نفسه من الروایات الشریفة ... فنختار في ما نحن فیه القول بالتفصیل».
[16] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص204. و أجاب عن ذلك بأنه لايمكن إثباته بهذا الوجه إلا على القول بكونه أصلاً مثبتاً قال
.: «إلا أن هذا المعنى على تقدير صحّته و الإغماض عمّا فيه لايكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متّصفاً بكونه من النهار أو من الليل حتى يصدق على الفعل الواقع فيه أنه واقع في الليل أو النهار إلا على القول بالأصل المثبت مطلقاً أو على بعض الوجوه الآتية، و لو بنينا على ذلك أغنانا عما ذكر من التوجيه»
[17] ذهب الی هذا الجواب في
الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الحائري الاصفهاني، محمد حسين، ج1، ص367.:. «... نعني به [أي باستصحاب وجود الوقت] استصحاب وجود الكيفية المقارنة للزمان المحدودة لجملة منه بعنوان مخصوص كالليل الذي هو عبارة عن الزّمن الذي يكون فيه الشمس تحت الأرض و النهار الذي هو عبارة عن الزمن الذي يكون فيه فوق الأرض، و لا ريب أنّ هذين الكونين متى تحقق أحدهما في موضع كان من مقتضاه البقاء ما لميمنع منه مانع و هو هنا ميل السماء لها عند بلوغها الأفق إلى أحد الجانبين. و كذا الكلام في استصحاب الليل المتقدّم على الفجر و بهذا يتّضح الحال في استصحاب الشهر حيث يشك في الهلال»
[19] و ذهب إلى هذا الجواب المحقق العراقي
في
نهاية الافكار، العراقي، آقا ضياء الدين، ج3، ص146.. حيث قال: «أن الآنات و الأزمنة المتعاقبة و إن كانت في الحقيقة وجودات متعددة متحدة سنخاً، و لكنها لما كانت على نهج الاتصال و لميتخلل سكون بينها، كان الجميع بنظر العرف موجوداً واحداً مستمراً، و بهذا الاعتبار يعد الموجود اللاحق بقاء لما حدث أولاً، فيصدق عليه الشك في بقاء ما حدث و تتّحد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة، و إن لميكن كذلك بحسب الحقيقة و الدقة و حينئذ إذا صدق الموجود الواحد المستمرّ على الوجودات المتعاقبة على نعت الاتّصال، و كان مدار الوحدة في متعلق الوصفين على الأنظار العرفية لا على المداقة العقلية، فلا جرم يجري فيها الاستصحاب كجريانه في الأمور القارّة لتمامية أركانه جميعاً من اليقين السابق بالوجود و الشك اللاحق في البقاء»
[20] أورد عليه بعض الأساطين دام ظله في المغني في الأصول، ج2، ص9 بقوله: إنّ جعله الزمان مركّباً من آنات يدور أمرها بين الموجود و المعدوم باطل لاستلزامه إثبات وجود الجزء الذي لايتجزّأ، و هو باطل برهاناً».