بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/03/24

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه الثاني: استصحاب بقاء الشیء علی تقدیر حدوثه

 

التنبیه الثاني: استصحاب بقاء الشيء علی تقدیر حدوثه

قد اختلفوا في جریان الاستصحاب فیما إذا لم‌یحرز حدوث المتیقّن بالوجدان و لذا یستصحب بقاؤه على تقدیر حدوثه و ذلك في مورد دلالة الأمارات أو الأصول على حدوث المتیقّن ثم حصول الشك الفعلي في بقائه بعد ذلك.

الإشكال في جریان هذا الاستصحاب بعدم الیقین بالحدوث

إنّ هذا الاستصحاب لم‌تتمّ أركانه، لأنّ من أركان الاستصحاب الیقین بالحدوث و هذا الركن مفقود في المقام لعدم الیقین الوجداني بحدوث المتیقّن.

و هكذا الشك في البقاء فإنّه من أركان الاستصحاب و هذا الركن أیضاً مفقود في المقام، لأنّ المراد من الشك في البقاء هو الشك في بقاء المتیقّن و المفروض هنا عدم وجود الیقین و حینئذٍ لیس في هذا المقام متیقّن سابق، بل الشك في مسألتنا هذه هو في بقاء شيء غیر متیقّن و غیر معلوم الثبوت و لكن یستصحب بقاؤه على تقدیر ثبوته.([1] )

جریان الإشكال علی بعض مباني الحجیة عند المحقّق الخوئي([2] )

إنّ لمبنی حجّیة الأمارات و الأصول دوراً أساسیاً في توجّه هذا الإشكال و لذلك لابدّ من ملاحظة مباني الحجّیة حتّی یتّضح جریان الإشكال علیه أو عدم جریانه.

إنّ المحقّق الخوئي یری جریان الإشكال على مبنى الطریقیة و على بعض مباني الموضوعیة و قال في توضیح ذلك:

«إنّه بناء على الطریقیة لا یقین بالحكم، لاحتمال عدم مصادفة الأمارة للواقع، بل و لا شك في البقاء على ما ذکرناه [لعدم وجود المتیقّن مع أنّ المراد من الشك الفعلي هو الشك في بقاء المتیقّن] فلا مجال لجریان الاستصحاب.

و أمّا بناء على الموضوعیة على ما هو المشهور بینهم من أنّ ظنّیة الطریق لاتنافي قطعیة الحكم، فموضوعیة الأمارات و سببیتها تتصوّر على وجهین:

الوجه الأوّل: أن یكون قیام الأمارة على وجوب شيء مثلاً موجباً لحدوث مصلحة في ذات الفعل، بأن یكون قیام الأمارة من قبیل الواسطة في الثبوت لعروض المصلحة الملزمة في ذات الفعل.

و لا إشكال في جریان الاستصحاب على هذا المبنی، إذ بعد قیام الأمارة یكون الوجوب متیقّناً، فإذا شك في بقائه فلا مانع من جریان الاستصحاب بالنسبة إلى هذا الوجوب الحادث لأجل قیام الأمارة، و إن كان الوجوب الواقعي مشكوكاً من أوّل الأمر.

الوجه الثاني: أن یكون قیام الأمارة على وجوب شيء مثلاً موجباً لعروض المصلحة للفعل المقیّد بكون وجوبه مؤدّی الأمارة، بأن یكون قیام الأمارة من قبیل الواسطة في العروض للمصلحة.

و لایجري الاستصحاب على هذا المبنی، إذ الوجوب الواقعي لم‌یكن متیقّناً حتّی نجري الاستصحاب فیه و الوجوب الحادث لقیام الأمارة معلوم العدم، لأنّه كان مقیّداً بقیام الأمارة، و المفروض عدم دلالة الأمارة على الحكم في الزمان الثاني و إلا لم‌یقع الشك فیه، فلا‌ مجال لجریان الاستصحاب»([3] ).

یلاحظ على بيان المحقق الخوئي

إنّ القول بالموضوعیة یقتضي جریان الاستصحاب مطلقاً كما سیأتي بیانه من صاحب الكفایة سواء كان قیام الأمارة بنحو الواسطة في العروض أم الواسطة في الثبوت، لأنّ ركن الاستصحاب هو وجود الیقین السابق سواء كانت المصلحة الملزمة باقیة أم لا، فإنّ الوجوب الحادث لقیام الأمارة و إن كان معلوم العدم في الزمان الثاني، إلا أنّه موجود في الزمان الأوّل عند قیام الأمارة فهو متیقّن الحدوث مشكوك البقاء فیجري الاستصحاب.

جوابان عن هذا الإشکال

الجواب الأول: من صاحب الكفایة

«إنّ اعتبار الیقین إنّما هو لأجل أنّ التعبّد و التنزیل شرعاً إنّما هو في البقاء لا في الحدوث([4] ) [و بعبارة أخری إنّ الیقین في دلیل لاتنقض الیقین بالشك، لاموضوعیة له، بل إنّه اعتبر حتّی یكون طریقاً إلى ثبوت الشيء فیترتّب على هذا الثبوت، الشك في بقائه و یدلّ دلیل حجّیة الاستصحاب على التعبّد ببقاء هذا الشيء الثابت].

فیكفي الشك فیه [أي في بقائه] على تقدیر الثبوت، فیتعبّد به على هذا التقدیر فیترتّب علیه الأثر فعلاً فیما كان هناك أثر و هذا هو الأظهر»([5] ).

ثم أشار صاحب الكفایة إلى أنّ هذا الجواب مبنيّ على ما هو التحقیق من «أنّ قضیة حجّیة الأمارة لیست إلا تنجّز التكالیف مع الإصابة و العذر مع المخالفة([6] )، كما هو قضیة الحجّة المعتبرة عقلاً، كالقطع و الظنّ في حال الانسداد على الحكومة ... فالحكم الواقعي الذي هو مؤدّی الطریق حینئذٍ محكوم بالبقاء فتكون الحجّة على ثبوته حجّةً على بقائه تعبّداً للملازمة بینه [أي بین البقاء] و بین ثبوته واقعاً»([7] ).

و أمّا بناءً على ما هو المشهور من كون مؤدّیات الأمارات إنشاء أحكام فعلیة شرعیة ظاهریة كما هو ظاهر الأصحاب و اشتهر بینهم أنّ ظنّیة الطریق لاتنافي قطعیة الحكم، فالاستصحاب جارٍ.([8] )

هذا ما أفاده صاحب الكفایة، و قد تقدّم أنّ للقول بالموضوعیة وجهین، فعلى الوجه الأوّل -و هو أنّ قیام الأمارة واسطة في الثبوت لعروض المصلحة الملزمة على الفعل- الاستصحاب جارٍ بلا إشكال دون الوجه الثاني، و لعلّ صاحب الكفایة یری أنّ المشهور التزموا بالوجه الأوّل.([9] )


[1] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص404.
[2] مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص95.
[3] مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص95.
[4] إن المحقق الإصفهاني بیّن هذا الكلام فقال في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص157. : «يعنى لا مانع من عدم أخذ اليقين بالثبوت في التعبد الاستصحابي حيث أن الغرض منه التعبد- في ظرف الشك- لا في ظرف اليقين، فلا حاجة إلى اليقين بالثبوت، إلا لتصحيح الشك في البقاء الذي هو موضوع التعبد و كما يشك في بقاء ما قطع بثبوته، كذلك في البقاء على تقدير الثبوت و قد صرّح. في آخر البحث أن اليقين مرآة محض لنفس الثبوت ليتعبد ببقائه إذا شك فيه».ثم استشكله فقال: «أقول: إن أريد من هذا التعليل مجرد مرآتية اليقين و أن المدار على الثبوت دون اليقين به، كما يعطيه جعل اليقين مرآة، فيوافق تعريف الاستصحاب بأنه إثبات الحكم في الزمان الثاني، لثبوته في الزمان الأول ففيه أن الثبوت الواقعي- حينئذ- لازم، لا لمجرّد تصحيح الشك في البقاء، و حينئذ فالتعليل بأن التعبد الاستصحابي تعبد بالبقاء- لا بالحدوث- مستدرك، فإنه يوهم عدم الحاجة إلى الثبوت الواقعي أيضاً.و إن أريد أن اليقين مرآة للثبوت أيضا لمجرّد تصحيح الشك في البقاء، فلا حاجة إلى تحققه في الواقع، بل يكفي احتمال ثبوته المحقّق لاحتمال بقائه، فالتعليل صحيح بل الثبوت الواقعي ... غير لازم، إلا أن لازمه صحة الاستصحاب بمجرد الشك في البقاء- على تقدير الثبوت- و إن لم‌يكن ثبوت‌ محقق، و لا ثبوت عنواني- إما متعلق اليقين أو متعلق المنجزية- و لا‌يمكن القول به، و لا‌يقول به أحد»
[5] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص404.
[6] في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص158.في التعلیقة على قوله: «بناء على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية» : «سواء كان جعل المنجزية و المعذرية باعتبارها ممن بيده الاعتبار- كما هو ظاهر قولهقدس‌سرهما: «فإنهم حجتي عليكم» و قوله.: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» أو كان جعلها بالإنشاء بداعي التنجيز و الاعذار.و في كليهما إشكال ... و هو أن التنجيز مثلاً بجعل الأمارة واسطة في الإثبات، لأن استحقاق العقاب عقلاً على مخالفة التكليف الواصل، و ما لم‌يكن هناك- وصول حقيقي أو وصول تنزيلي- لا‌يترتب على المخالفة استحقاقه العقاب فلا‌يمكن إدراج مخالفة التكليف تحت الموضوع المحكوم عقلاً بذلك إلا بإيصاله تنزيلاً إما بجعل الحكم المماثل الواصل بالحقيقة بعنوان أنه الواقع حتى يكون وصوله- بالحقيقة و بالذات- وصول الواقع بالعنوان بالعرض، و إما باعتبار الهوهوية لمؤدّى الأمارة مع الواقع فيقتضي وساطة الأمارة لإثبات الواقع اعتباراً.و يندفع بأن استحقاق العقاب- على المخالفة- باعتبار كونها خروجاً عن زيّ الرقية، و رسم العبودية، فيكون ظلماً على المولى، فيذمّ عليه عقلاً، و يعاقب عليه شرعاً، و كما أن مخالفة ما وصل- من قبل المولى- خروج عن زيّ الرقية كذلك مخالفة ما قامت عليه حجة من قبل المولى- أي مخالفة ما نصب عليه المولى على تقدير ثبوته- خروج عن زي الرقية، و إن لم‌يكن واصلاً بالحقيقة، و لا واصلاً بالتنزيل، فموضوع حكم العقل غير متقيّد بالوصول ليكون اعتبار الوصول توسعة في موضوع حكم العقل»
[7] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص405.
[8] إن المحقق الإصفهاني ذكر تفصیلاً بناءً على مبنی جعل الحكم المماثل؛ فقال في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص153..: «التحقيق: أن جعل الحكم المماثل، إن كان عن مصلحة أخرى غير المصلحة الواقعية، الباعثة على جعل الحكم الواقعي- كما هو كذلك بناء على موضوعية الأمارة- فحينئذ يتيقن بالحكم المماثل، على تقدير المصادفة و المخالفة.و إن كان عن مصلحة الواقع، بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر فلا حكم مماثل حقيقة، إلا في صورة المصادفة، و وصول الواقع- بهذا العنوان- و يستحيل ثبوته مع المخالفة- على فرض انبعاثه عن مصلحة الواقع- و إلا لكان معلولاً بلا علة، فلا يقين حينئذ بالحكم المماثل على أي تقدير بل على تقدير المصادفة الغير المعلومة، فحال جعل الحكم المماثل على الطريقي حال الإنشاء بداعي تنجيز الواقع»
[9] في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص154..: «... لا‌بدّ من التصرف في دليل الاستصحاب بأحد وجوه ثلاثة:الأول: أن يكون اليقين كاشفاً محضاً، و معرفاً صرفاً إلى نفس الثبوت الواقعي فيكون مفاده كما إذا قيل: إذا ثبت شي‌ء و شك في بقائه يجب إبقاؤه، فيفيد الملازمة بين ثبوت شي‌ء واقعاً و بقائه ظاهراً ... و عليه فإذا قامت حجة على الثبوت، كانت حجة على البقاء التعبدي، لأن الحجة- على أحد المتلازمين- حجة على الآخر، و يكون منجّز الثبوت منجزاً للبقاء، لمكان التلازم المحقق بتعليق البقاء التعبدي على الثبوت الواقعي، و إن لم‌يحرز فعلية البقاء التعبدي بسبب عدم إحراز المعلّق عليه، و هو الثبوت الواقعي ... و هذا الوجه هو مختار شيخنا العلامة- رفع الله مقامه- و التحقيق: أن التعبد بالبقاء لا‌يخلو عن أنه إما يكون حكماً نفسياً و إما يكون حكماً طريقياً فإنّ كان من قبيل الأول، فهو- كالحكم الواقعي- قابل لأن يتنجز بمنجز، إما ابتداء أو بالملازمة، و لكنه لا‌يمكن الالتزام بدوران التعبد بالبقاء مدار الثبوت الواقعي ... فيعلم منه أن الثبوت- المقوم للاستصحاب- هو الثبوت العنواني المقوم لصفة اليقين أو للأمارة المنجزة، و هو عبارة أخرى عن دوران التعبد الاستصحابي مدار اليقين بالثبوت، أو ما هو كاليقين بالثبوت، دون نفس الثبوت و إن كان من قبيل القسم الثاني، فهو في نفسه غير قابل للدخول في اللوازم القابلة لأن يتنجز بمنجز كملزومها و لا‌يعقل تعليق منجزية احتمال البقاء على الثبوت الواقعي فإنّ معناه أن احتمال البقاء مع عدم إحراز الثبوت بل بمصادفة الثبوت الواقعي، منجز، و الحال أن المنجزية لا‌يعقل أن تكون مع عدم وصول الإنشاء بداعي التنجيز ... .الثاني: إرادة مطلق الحجة- القاطعة للعذر- من اليقين و تعليق منجزية احتمال البقاء على وجود المنجز الأعم من العقلي و الشرعي، فيفيد الملازمة بين المنجزين، لا بين الثبوت و البقاء و لا بين الثبوت و منجزية احتمال البقاء- كما في الأول على الشقين المتقدمين- و يمكن على هذا الوجه تعليق التعبد بالبقاء على وجود المنجز للثبوت- بناء على كون مفاد دليل الاستصحاب حكماً نفسياً لا طريقياً- فإذا قام الخبر على الحكم في الزمان الأول و شك في بقائه في الزمان الثاني، يكون شرعاً محكوماً بالبقاء واقعاً، و إن لم‌يلتفت إلى أنه متعبّد به.الثالث: - إرادة مطلق الحجة- القاطعة للعذر- من اليقين، لكن جعل منجز الثبوت منجزاً للبقاء، كما هو ظاهر الأخبار لأن مفادها إبقاء اليقين- أي المنجز- لا التمسك باحتمال البقاء، و يتعين- حينئذ- كون الاستصحاب حكماً طريقياً.و هذان الوجهان أولى من الوجه الأول، للتحفّظ فيهما على اليقين بالجهة الجامعة له مع سائر أفراد الحجج، دون الأول المبني على جعله معرفاً محضاً للثبوت كما أن الثالث أولى من الثاني للتحفّظ فيه على عنوان إبقاء اليقين و جعله في قبال الشك و الأمر بالتمسك به، دون الشك كما أوضحناه مراراً ...ثم إن إرادة مطلق الحجة القاطعة للعذر من اليقين- في باب الاستصحاب- و من العلم و المعرفة المجعولين غاية للأصول تارة بإرادة نفس هذه الحيثية، بنحو العموم، فيكون الدليل على منجزية الأمارة شرعاً محققاً لما أخذ في الاستصحاب و الأصول و أخرى يراد نفس حيثية الوصول التام، و المنجّز العقلي [واصل] بلا كلام، فيكون دليل الأمارة- سواء كان بعنوان تتميم جهة الكشف أو بعنوان المنجزية- توسعة فيما أخذ في دليل الاستصحاب و الأصول، و تكون الأمارة- بناء على الأول- مقدمة على الأصول بنحو الورود الحقيقي. و على الثاني بنحو الحكومة، و الورود التنزيلي»‌