بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

45/11/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الفصل الثاني؛ التفصیل الخامس؛ الموضع الثاني؛ نظریة الشیخ الأنصاري

 

إیراد المحقّق النائیني على نظریة الشیخ الأنصاري

أوّلاً: «إنّ منها [أي من الأمور الوضعیة] ما یقبل تعلّق الجعل و الاعتبار بنفسه كالملكیة و الزوجیة و نحوهما، فكما أنّ الوجوب و الحرمة أمران جعلیان یوجدان بجعل الشارع، فكذلك الملكیة و الزوجیة و نحوهما».([1] )

ثانیاً: «ما هو المنشأ لانتزاع بعض الوضعیات كالطهارة و النجاسة و لزوم العقد و الحجیة و نحو ذلك؟ فإنّه لیس في هذه الموارد حكم تكلیفي قابل لأن یكون منشأ لانتزاعها إذ ما من حكم تكلیفي إلا و یشترك فیه مورد آخر.

فأيّ حكم تكلیفي یمكن انتزاع لزوم العقد منه؟ فإنّ حرمة التصرّف في ما انتقل عنه یشترك فیها الغصب أیضاً، فلا‌یمكن أن تكون حرمة التصرّف في ما انتقل عنه منشأ لانتزاع لزوم العقد، إلّا بأن یقیّد عدم جواز التصرّف بما بعد الفسخ.

و بالجملة لیس من الأحكام الوضعیة ما یختصّ بحكم تكلیفي لایشاركه غیره فیه، فكیف یكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟».([2] )

ثالثاً: «إنّ تصوّر حكم تكلیفي یصلح لانتزاع بعض الأحكام الوضعیة منه كالحجّیة و الطریقیة ربّما یلحق بالمستحیل، فإنّ كلّ حكم تكلیفي لا‌محالة یكون ساقطاً في فرض العصیان مع أنّ الحجّیة لاتكاد تسقط به».([3] )


نظریة صاحب الكفایة: التفصیل بین أقسام ثلاثة

قال: التحقیق أنّ ما عُدّ من الوضع على أنحاء:

منها: ما لایكاد یتطرّق إلیه الجعل تشریعاً أصلاً، لا استقلالاً و لا تبعاً، و إن كان مجعولاً تكویناً عرضاً بعین جعل موضوعه كذلك [و مثاله السببیة و الشرطیة و المانعیة و الرافعیة للتكلیف].

و منها: ما لایكاد یتطرّق إلیه الجعل التشریعي إلا تبعاً للتكلیف [و مثاله الجزئیة و الشرطیة و المانعیة و القاطعیة للمكلّف به].

و منها: ما یمكن فیه الجعل استقلالاً بإنشائه و تبعاً للتكلیف بكونه منشأ لانتزاعه و إن كان الصحیح انتزاعه من إنشائه و جعله [أي بجعل استقلالي] و كون التكلیف من آثاره و أحكامه [و مثاله الحجّیة و القضاوة و الولایة و النیابة و الحریة و الرقیة و الزوجیة و الملكیة] .([4] )

فلا‌بدّ من البحث حول التفصیل المذكور ولنبحث عن كلّ قسم من هذه الأقسام الثلاثة:

القسم الأوّل

قد مثّل له صاحب الكفایة بالسببیة و الشرطیة و المانعیة و الرافعیة للتكلیف و حكم علیه بعدم الجعل التشریعي لا استقلالاً و لا تبعاً، بل التزم فیه بكونه مجعولاً تكویناً عرضاً بعین جعل موضوعه كذلك.

و ما أفاده یتخلّص في ثلاثة مطالب:

المطلب الأوّل: منشأ انتزاع السببیة و نحوها خصوصیة ذاتیة

قال: «كما أنّ اتصافها بها [أي بالسببیة و غیرها] لیس إلا لأجل ما علیها من الخصوصیة المستدعیة لذلك تكویناً [و هي الخصوصیة الذاتیة في نفس ذات الشيء] للزوم أن یكون في العلّة بأجزائها من ربط خاصّ، به كانت مؤثرة في معلولها لا في غیره [أي في غیر معلولها] و لا غیرها فیه [أي و لا غیر العلّة في هذا المعلول لما تقدّم من أنّ علّیة شيء لشيء ترجع إلى ربط خاص بینهما] و إلا لزم أن یكون كلّ شيء مؤثراً في كلّ شيء».([5] )

المطلب الثاني: نفي الجعل التشریعي التبعي بالنسبة إلی السببیة و نحوها

قال صاحب الكفایة: «إنّه لایكاد یعقل انتزاع هذه العناوین لها من التكلیف المتأخر عنها ذاتاً».([6] )

و قال المحقّق الإصفهاني في تقریب هذا البرهان:

«إنّ فرض مسببیة التكلیف أو مشروطیته عن الدلوك [في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ ([7] )] فرض تأخره عنه بالذات، و فرض منشئیة التكلیف لانتزاع السببیة للدلوك فرض تقدّمه بالذات لتبعیة الأمر الانتزاعي لمنشأه فیلزم تقدّم المتأخر بالذات و تأخر المتقدّم بالذات». ([8] )

و بعبارة أخری: إنّ السببیة مثلاً إن كان جعلها تبعیاً فتكون انتزاعیة و الأمر الانتزاعي متأخّر عن منشأ الانتزاع، فتكون السببیة متأخّرة عن التكلیف مع أنّ سببیة شيء للتكلیف تقتضي تقدّمه علیه، لأنّ السبب من أجزاء العلّة التامة.

مناقشة المحقّق الإصفهاني في المطلب الثاني

إنّ المحقّق الإصفهاني ناقش في برهان صاحب الكفایة على نفي الجعل التبعي و قال:

«إنّ التقدّم و التأخّر یلاحظان بالإضافة إلى ذات العلّة و المعلول، فلا منافاة بین تأخر التكلیف بذاته عن ذات الدلوك و تقدّمه بذاته على وصف یعرض الدلوك، و هو عنوان السببیة المتأخر عن الدلوك تأخر كلّ وصف عن موصوفه و عارض عن معروضه». ([9] [10] )


[1] أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص382.
[2] فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص387.
[3] . أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص382.أما إیرادات بعض الأساطين على الشيخ الأنصاري:قال على ما في المغني في الأصول، ج1، ص306: «أولاً: أن الشيخ لم يُقِم على مدّعاه أي برهان، بل كان دليله فيه هو الوجدان في مثل: (إن جاءك زيد فأكرمه)؛ فإنه ليس فيه إنشاءان، أحدهما شرطية المجيء، و الآخر وجوب الإكرام.و الجواب عنه بما تقدّم من آية الخمس، و بعض الأحاديث التي صرّحت بجعل الأحكام الوضعية، فلم‌يذكر فيها أيّ شرط و أيّ تكليف، مثل: (من حاز ملك)، و (من ملك شيئاً ملك الإقرار به)، و (من سبق إلى ما لم‌يسبق إليه أحد فهو أحقّ به)، فإن المجعول في هذا الأخير هو الحق و هو حكم وضعي.ثانياً: أن أقصى دلالة الوجدان هوعدم وجود مجعولين، فإن أراد به عدم وجود مجعولين مستقّلين فصحيح، و إن أراد به عدم وجود مجعولين مطلقاً فممنوع؛ فإن المجعول في (إن جاءك زيد فأكرمه) هو وجوب الإكرام عند المجيء، و لما كان الإكرام معلّقة على المجيء انتزعت شرطية المجيء، فكانت شرطية المجيء مجعولاً آخر تبعياً، و هذا الأمرجارٍ في جميع موضوعات التكاليف.ثالثاً: إن دليل الشيخ أخصّ من دعواه، لأن مدّعاه هو أن جميع الأحكام الوضعية انتزاعية، و دليله -أي الوجدان - ينحصرفي خصوص أسباب التكليف في القضايا الشرطية».و قال في ص307: «و الحقّ في المسألة: هو أن الأحكام الوضعية جميعها مجعولة بالجعل التشريعي، إلا أنه بالاستقلال في بعضها، و بالتبع في الأخرى، فالمجعولة تبعاً هي شروط التكليف، و المكلف به، و المجعولة استقلالاً ماعداها، كالملكية و الحقوق و الولايات و غيرها.و الدليل على ذلك: أولاً: سيرة العقلاء؛ فإن الأحكام الشرعية في أبواب المعاملات و الحكومات و الزوجية و..، ليست تأسيسية، بل هي إمضائية فلا‌بدّ من الرجوع للسيرة، و النظر إلى ما عند العقلاء، و عندما نرجع لهم لا‌نلاحظ وجود أحكام ينتزع منها هذه المعاني، بل العكس هو الصحيح؛ فهم يرتبون أحكامهم على وجود هذه المعاني، فتوجد الملكية، و من آثارها جواز تصرف المالك، و ليس هذا الأمر مختصة بملة دون أخرى، و لهذا عندما تسأل أحدا منهم: لماذا تتصرّف في هذا الشيء؟ يقول: لأنه ملكي، و هكذا الحال في الحقوق، فسيرة العقلاء قائمة على أن من سبق إلى مكان فهو أحقّ به، و الشارع أمضى ذلك، و كذا في باب القضاء؛ فإن منصب القضاء أمر وضعي، و له أصل عقلائي غير أن الشارع حدّده بحدود كقوله: «من نظر في حلالنا و حرامنا فإني جعلته حاكماً»، فالمتعلق للجعل هي الحكومة، و يترتب الحكم التكليفي عليها، فإذا حكم فحكمه نافذ و لايرد، و لا معنى للقول بانتزاع القاضي الشرعي من الحكم بحرمة الردّ، بل حرمة الرد من آثار الحكومة.ثانياً: إن التأمل في النصوص يقضي بأن الأحكام مجعولات استقلالية، فلا‌يحلّ في قوله: «لا‌يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غیره» حكم تكليفي، و موضوع حرمة التصرف هو مال الغير، فلو قلنا بأن الحكم الوضعي منتزع من الحكم التكليفي للزم تقدّم المتأخر، و تأخر المتقدم؛ لأن الأمر الانتزاعي متأخر عن منشأ انتزاعه، فيلزم تأخر ملكية الغير عن الحكم بحرمة التصرف، بينما الملكية متقدمة على الحرمة؛ لكونها موضوعة لها.ثالثاً: يلزم من كون الملكية منتزعة من إباحة التصرف، و الزوجية منتزعة من جواز الوطي النقض بموارد تحليل الإماء؛ فإنه يجوز الوطي حينئذ بلا أن توجد ملكية و لا زوجية، و كذا في المعاطاة على مسلك القدماء؛ فإنهم يرون إفادتها لإباحة التصرف دون الملكية، و في حقّ الإمام؛ فإنه يباح التصرف بدون أن تحصل الملكية.رابعاً: يلزم على القول بانتزاع هذه الأمور من الأحكام التكليفية ما أورده المحقق الخراساني.، أعني ما وقع لم‌يقصد، و ما قصد لم‌يقع.و على هذا، فالحقّ أن الأحكام الوضعية مجعولة كالأحكام التكليفية، إلا أنها بالاستقلال في بعض كالزوجية و الملكية، و تبعاً للحكم التكليفي في بعض آخركالجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية للمكلف به، و الشرطية و المانعية و الرافعية للتكليف، و الاستصحاب يجري في جميعها بمقتضى إطلاق "لا‌تنقض اليقين بالشك"»
[4] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص400.
[5] . كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص401.
[6] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص400.
[7] السورة اسراء، الأية 78.
[8] بحوث في الأصول، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج1، ص47.
[9] . بحوث في الأصول، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج1، ص47.
[10] نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص122.. «إن المتأخر بالذات ذات المعلول عن ذات العلة، و أما عنوان العلیة و عنوان المعلولیة فهما متضایفان ...»