بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

45/11/03

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الفصل الثاني؛ التفصیل الخامس؛ المقام الأول؛ الموضع الأول؛ النظریة المحقق الخوئي

 

نظریة المحقّق الخوئي

«الحكم الشرعي من سنخ الفعل الاختیاري الصادر من الشارع و لیس هو عبارة عن الإرادة و الكراهة، أو الرضا و الغضب، فإنّها من مبادي الأحكام، تعرض للنفس بغیر اختیار، و لیست من سنخ الأفعال الاختیاریة.

فالحكم عبارة عن اعتبار نفساني من المولى، و بالإنشاء یبرز هذا الاعتبار النفساني لا أنّه یوجد به كما مرّ.

فهذا الاعتبار النفساني تارةً یكون بنحو الثبوت و أنّ المولى یثبت شیئاً في ذمة العبد و یجعله دیناً علیه، كما ورد في بعض الروایات: «إنّ دین الله أحقّ أن یقضى»([1] [2] ) فیعبّر عنه بالوجوب، لكون الوجوب بمعنی الثبوت.

و أخری یكون بنحو الحرمان، و أنّ المولى یحرم العبد عن شيء و یسدّ علیه سبیله كما یقال في بعض المقامات: إنّ الله تعالى لم‌یجعل لنا سبیلاً إلى الشيء الفلاني فیعبّر عنه بالحرمة، فإنّ الحرمة هو الحرمان عن الشيء، كما ورد: أنّ الجنة محرمة على آكل الربا([3] [4] [5] [6] [7] [8] [9] [10] [11] ) مثلاً، فإنّ المراد منه المحرومیة عن الجنة، لا الحرمة التكلیفیة.

و ثالثة یكون بنحو الترخیص و هو الإباحة بالمعنی الأعمّ، فإنّه تارة یكون الفعل راجحاً على الترك، و أخری بالعكس و ثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر و هذا الثالث هو الإباحة بالمعنی الأخصّ.

فهذه هي الأحكام التكلیفیة و العبارة الجامعة أنّ الأحكام التكلیفیة عبارة عن الاعتبار الصادر من المولى من حیث الاقتضاء و التخییر».([12] )

مناقشة في نظریة المحقّق الخوئي: من بعض الأساطین

إنّ ذلك إنّما یصحّ إذا كان المبرز لتلك الأحكام قضیة «یجب علیك» أو قضیة «یحرم علیك» فإنّ مادة یجب علیك هو اعتبار الثبوت، و مادة یحرم علیك هو اعتبار الحرمان.

و أمّا إذا كان المبرز هو صیغة الأمر أو النهي فلا‌نسلّم ذلك لأنّ مفاد الصیغة حینئذٍ هو البعث المولوي أو الزجر المولوي، كما أنّ مفاد المادة أیضاً هو مثل الصلاة و الصوم لا الوجوب و الحرمة.

فلا‌بدّ من التفصیل في المقام بحسب ما هو المبرز.([13] )

الجواب عن هذه المناقشة

إنّ خصوصیة المبرز من حیث كونه جملة خبریة أو إنشائیة أو فقل من حیث كونه مادّة الأمر أو النهي أو صیغتهما، لایوجب تفاوتاً في الحكم الاعتباري المبرَز، فإنّ الكلام هنا في حقیقة الحكم الاعتباري من دون لحاظ إبرازه، و مفاد القضیة المبرِزة لایوجب اختلافاً أو تفصیلاً في حقیقة الحكم، فإنّ الإبراز قد یكون بالجملة الخبریة و أخری بالإنشائیة بل قد یكون بغیر الجملة الخبریة و الإنشائیة كما قد ورد أنّ رسول الله قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي‌ أُصَلِّي»([14] [15] [16] [17] [18] )، فإنّ فعل المعصوم و تقریره حجّة و مبرز للأحكام، فإنّ كلّ هذه الأمور المبرزة تدلّ على وجود الحكم المجعول الشرعي في وعاء الاعتبار.

ثمّ إنّ الحكم الشرعي و إن كان اعتباریاً بمعنی أنّه مجعول تشریعي في وعاء عالم الاعتبار إلا أنّ ذلك لاینافي كونه ذا حقیقة في عالم الاعتبار، بل كونه موجوداً في عالم اللوح المحفوظ من حیث تعلّق العلم به لذا قال المحقّق النائیني:

«إنّ الأحكام المجعولة في الشریعة إنّما هي مجعولة على طبق الإرادة التشریعیة في عالم الظاهر و لها مرتبة عُلیا في مرتبة اللوح المحفوظ»([19] ).

و قال أیضاً: «إنّ الموجود إمّا أن یكون موجوداً في العین أو في عالم الاعتبار، و على كلّ منهما فإمّا أن یكون من الموجودات المتأصّلة أو الانتزاعیة، فتكون الأقسام أربعة:

الأوّل: الموجود المتأصّل في العین كالجواهر و الأعراض القائمة بها ... .

الثاني: الموجود الانتزاعي في العین ... كالفوقیة و التحتیة و القبلیة و البعدیة ... .

الثالث: الموجود المتأصّل في عالم الاعتبار، كالوجوب و الحرمة و الملكیة و الزوجیة و غیرها من الأمور الاعتباریة.

و الفرق بینه و بین القسم الثاني أنّ هذا القسم موجود بنفسه و بإزائه شيء یقال علیه حقیقة. غایة الأمر أنّ وعاء وجوده هو عالم الاعتبار دون الخارج و هذا بخلاف القسم الثاني، فإنّ وعاء وجوده هو الخارج دون الاعتبار إلا أنّ وجوده بنحو الانتزاع دون التأصّل، فكم فرق بین كون الشيء موجوداً متأصّلاً في عالم الاعتبار و كونه موجوداً في الخارج غیر متأصّل.

الرابع: الموجود الانتزاعي في عالم الاعتبار، كالسببیة للملكیة و نحوها، فإنّ ما له وجود متأصّل في عالم الاعتبار إنّما هو نفس الملكیة، و أمّا سببیة شيء لها فلا وجود لها بنفسها إلا بنحو الانتزاع، كالعلّیة المنتزعة من الموجودات الخارجیة.

فتحصّل أنّ الأحكام الشرعیة من قبیل الموجودات الاعتباریة المتأصّلة أو الانتزاعیة» ([20] ).

هذا ما أفاده المحقّق النائیني.

الموضع الثاني: حقیقة الحكم الوضعي

قد وقع النزاع بین الأعلام في أنّ الحكم الوضعي مجعول بالاستقلال أو هو مجعول بالتبع أو إنّه غیر مجعول، بل هو أمر انتزاعي؟ و الأمر الانتزاعي قد منتزعاً من الأمور الخارجیة و قد منتزعاً من الأمور الاعتباریة، كما أنّ الأمر الانتزاعي قد یكون نفسه من الأمور الخارجیة و المقولات الحقیقیة و قد یكون من الأمور الاعتباریة.([21] )

نظریة الشيخ الأنصاري: انتزاع الوضعیات من الأحكام التكلیفیة

إنّ الشیخ الأنصاري التزم بأنّ الوضعیات منتزعة من الأحكام التكلیفیة في مواردها بل نسب ذلك إلى المشهور فقال:

المشهور كما في شرح الزبدة، بل الذي استقرّ علیه رأي المحقّقین، كما في شرح الوافیة للسیّد صدر الدین ، أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي و أنّ كون الشيء سبباً لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء فمعنی قولنا: «إتلاف الصبيّ سبب لضمانه» أنّه یجب علیه غرامة المثل أو القیمة إذا اجتمع فیه شرائط التكلیف من البلوغ و العقل و الیسار و غیرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسِر بقوله: «إِغْرَم ما أتْلفتَهُ في حالِ صِغَرك» أُنْتُزِعَ من هذا الخطاب معنیً یعبّر عنه بسببیة الإتلاف للضمان، و یقال: «إنّه ضامن» بمعنی أنّه یجب علیه الغرامة عند اجتماع شرائط التكلیف و لم‌یدّع أحدٌ إرجاع الحكم الوضعي إلى التكلیف الفعلي المنجّز حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص، حتّی یدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافین من أنّه قد یتحقّق الحكم الوضعي في مورد غیر قابل للحكم التكلیفي كالصبي و النائم و شبههما.

و كذا الكلام في غیر السبب فإنّ شرطیة الطهارة للصلاة لیست مجعولة بجعل مغایر لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة و كذا مانعیة النجاسة لیست إلا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس و كذا الجزئیة منتزعة من الأمر بالمركب. ([22] [23] )


[1] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى‌». الخلاف، الشيخ الطوسي، ج2، ص209.
[2] نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، ج1، ص460.
[3] في مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، ج13، ص332.نقلا عن لب اللباب لقطب الدين الراوندي: قَالَ.: «الدِّرْهَمُ مِنَ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ ثَلَاثٍ وَ ثَلَاثِينَ زَنْيَةً كُلُّهَا بِذَاتِ مَحْرَمٍ وَ مَنْ‌ نَبَتَ‌ لَحْمُهُ‌ مِنَ‌ السُّحْتِ‌ فَالنَّارُ أَوْلَى بِه»‌
[4] مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، ج13، ص332.
[5] و الظاهر أنها عامّية فقد رواها في المعجم الأوسط، الطبراني، ج6، ص112.: «عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ .: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ مِنَ الْحَرَامِ.»
[6] الثالث عشر من فوائد ابن المقرئ، ابن المقرئ، ج1، ص101.
[7] الترغيب والترهيب لقوام السنة، الأصبهاني، إسماعيل، ج2، ص42.
[8] مسند أحمد مخرجا، أحمد بن حنبل، ج22، ص332. «عن جابر بن عبد الله عن رسول الله.: ... إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»
[9] سنن الترمذي - ت شاكر، الترمذي، محمد بن عيسى، ج2، ص512.. «لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ.»
[10] المعجم الأوسط، الطبراني، ج8، ص267.. «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلَحْمِ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ»
[11] و مضمون هذه الرواية تجدها في وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج18، ص117، أبواب الربا، باب1، ح1، ط آل البيت.. أبواب الربا
[12] مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص77.
[13] بهذا المضمون ما جاء في المغني في الأصول، ج1، ص288.
[14] مشابه القرآن، ج2، ص170.
[15] نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، ج1، ص423.
[16] نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، ج1، ص426.
[17] نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، ج1، ص447.
[18] عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور، ج3، ص85.
[19] أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص381.
[20] . أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص381.
[21] ذكر في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص117. في التعلیقة على قوله: «أنّ الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعاً» مقدمة تشتمل على أمور: الأمر الأول: انقسام الموجودات الخارجیة إلى الموجود بوجود ما بحذائه و الموجود بوجود منشأ انتزاعه و في مقابلهما الاعتبارات الذهنیة.«إنّ الموجودات الخارجية على قسمين: أحدهما- ما له صورة و مطابق في العين، و يعبر عنه بالموجود بوجود ما بحذائه، كالجوهر و جملة من الأعراض. ثانيهما- ما لم‌يكن كذلك، بل كان من حيثيات ما له مطابق في العين و يعبر عنه بالموجود بوجود منشأ انتزاعه، و منه مقولة الإضافة و يقابلهما الاعتبارات الذهنية من الكلية و الجزئية، و النوعية و الجنسية، و الفصلية، فإنّ معروضها أمور ذهنية لا عينية ...».الأمر الثاني: الإشكال في الموجود بوجود منشأ انتزاعه نظراً إلى أن الوجود الواحد لا‌يعقل أن يكون وجوداً بالذات لمقولتين.«إن المقولات بذواتها متباينات، فكيف يعقل أن يكون الواحد وجوداً بالذات لمنشأ الانتزاع الذي هو من مقولة الجوهر مثلًا، و وجوداً بالذات للأمر المنتزع الذي هو من مقولة الإضافة؟ كما أن مقولة الإضافة حيث أنّها تختلف بالقياس إلى شي‌ء دون شي‌ء، فلا‌يعقل أن يكون لها وجود خارجي بالذات، إذ الوجود عين التعين، فلا‌بدّ من أن يكون حدّه الوجوديّ محفوظاً فلا‌يعقل اختلافه بالقياس مع أنّ السقف بالإضافة إلى ما دونه فوق، و بالإضافة إلى ما فوقه تحت، و لو كانت الفوقية و التحتية موجودتان بالذات و لم‌تكونا متقوّمين بالاعتبار لكان السقف فوقاً و تحتاً معاً، مع قطع النّظر عن كل شي‌ء فلذا يتخيّل أنّ مقولة الإضافة اعتباريّة محضة، كسائر الاعتبارات الذهنيّة، مع أنّها معدودة من المقولات، و هي ما يقال و يصدق على شي‌ء خارجاً، مع وضوح أن السماء فوقنا و الأرض تحتنا في العين لا في الذهن».الأمر الثالث: جواب المحقق الإصفهاني. عن هذا الإشكال«المحاكمة بين الطرفين يقتضي الجمع بين الأمرين، بأن يقال: لمقولة الإضافة نحوان من الوجود- بالقوة و بالفعل- و باعتبارهما لها وجود بالعرض و وجود بالذات، فالسقف مثلًا- لمكان كونه جسماً واقعاً في المكان- له قابلية أن يضاف إلى ما فوقه، فينتزع منه التحتيّة، و له قابلية أن يضاف إلى ما دونه فينتزع منه الفوقية، فللتحتيّة و الفوقية وجود بوجود السقف- بنحو وجود المقبول بوجود القابل- فوجود السقف الخاصّ خارجاً وجود بالذات للجسم الخاصّ، و وجود بالعرض لتلك المعاني القابلة للانتزاع منه و هذا معنى وجود الأمر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه خارجاً، مع قطع النّظر عن اعتبار كل معتبر كان و بهذا الوجه داخل في المقولات و بهذا الوجه يقال: إنّ للإضافات، و أعدام الملكات و القابليات و الحيثيات وجوداً ضعيفاً- أي بنحو وجود المقبول بوجود القابل- بالعرض، لا بالذات ...».الأمر الرابع: التوسعة في معنی الانتزاعي و الاعتباري«ربما يوسع في الانتزاعي، فيعمّ الاعتباریات لأنها معان منتزعة من معان ذهنية، كما ربما يوسع في الاعتباري، فيعمّ الانتزاعيات الخارجية لتقوّمها بالاعتبار، بل ربما يوسع في الانتزاعي و الاعتباري فيعمّ الماهيات جميعاً فيقال: الماهية انتزاعية اعتبارية- في قبال أصالة الوجود- فهي منتزعة من الوجود الخاصّ، و موجودة به بالعرض، فإنّ الوجود هو الموجود بالذات، و اعتباريتها بلحاظ تقوّمها بالاعتبار، إذ الماهية ما شمّت رائحة الوجود، لا‌تشمّ أبداً، لأن ما حيثية ذاته حيثية عدم الإباء عن الوجود و العدم، يستحيل أن ينقلب فيصير حيثية الإباء عن العدم».الأمر الخامس: «في الشرع و العرف اعتبار بمعنى آخر- في قبال جميع أنحاء الاعتباریات و الانتزاعيات- كما في اعتبار الملكية و الزوجية».ثم قال: «و مما ذكرنا تبيّن أمران: أحدهما: أنّ الأمر الانتزاعي مجعول بالعرض، لا مجعول بالتبع، نظير لوازم الوجود المجعولة بتبعه، فإن الموجود و لوازمه مجعولان بالذات، بجعلين، لاقتضاء تعدد الوجود- بالذات- تعدّد الإيجاد بالذات و من ذلك في التشريعيات وجوب المقدمة، فإنّه مجعول بتبع وجوب ذيها، لا أنه وجوب واحد ينسب إلى ذي المقدّمة بالذات، و إلى مقدمته بالعرض. و من الواضح أن المجعول بالعرض لا جعل له بالحقيقة، فجعل انتزاعية الأحكام الوضعي في قبال مجعوليّتها- كما عن المنازعين في المسألة- صحيح، و جعل الانتزاعيّة- كما في المتن- مساوقة للتبعية، و القول بها قولًا بالجعل، كلاهما لا‌يخلو عن مسامحة. ثانيهما: أنّ جعل الاعتبارات الشرعيّة من الملكيّة و الزوجيّة، داخلة في الأمور الانتزاعيّة، و أنّ منشأ انتزاعها: تارةً هي الأحكام التكليفية، و أخرى إنشاؤها بالعقد و شبهه- أيضاً- لا‌يخلو عن المسامحة.»ثم قال: «إن مجعولات الشارع على أنحاء: منها- الموضوعات المستنبطة كالصلاة، و الحج، و نحوهما، مما اشتهر أنها ماهيات مخترعة، و أنها مجعولة باعتبار الشارع و التحقيق ... أنه لا جعل لها إلّا جعلها في حيّز الطلب» و سیأتي الكلام في هذا النحو. و النحو الثاني منها هي الأحكام التكليفية قال: «إن المعروف كونها مجعولة بالجعل التشريعي. توضيحه: أنّ حقيقة الجعل هو الإيجاد، فقد يكون منه تعالى بما هو جاعل هويّات الممكنات، فيتمحض في التكوين، و قد يكون منه تعالى بما هو شارع الشرائع و الأحكام لانبعاثه منه بما هو، ناظر إلى مصالح العباد، و دفع ما فيه الفساد، بالإضافة إلى طائفة من الأفعال لا بالإضافة إلى نظام الكل، فيكون جعلًا تشريعياً فكل جعل تشريعي- بهذه الملاحظة- جعل تكويني بالنظر إلى ذاته، و لا عكس ... فما ينبعث من الاشتياق إلى فعل الغير هو الإنشاء بداعي جعل الداعي، و هو حقيقة الحكم التكليفي المجعول من الشارع، بما هو شارع و ليس الحكم التكليفي عين الإرادة التشريعية، ليقال: إنها من صفات الذات- سواء كانت عين العلم بالمصلحة أو غيره- فلا جعل، بل قد عرفت أنه منبعث‌ عنها ... و مجعولاته التكليفيّة هي الإنشاءات الخاصة الصادرة منه- بما هو شارع- و إن كان ينتزع منه عنوان البعث و الداعي- اقتضاءً و إمكاناً- بعد صدوره و ينتزع منه الباعثيّة- فعلًا- عند تأثيره في انقداح الشوق في نفس المكلف».و النحو الثالث منها هي الأحكام الوضعيّة المبحوث عنها هنا و هي أقسام ثلاثة یتعرّض لكلّ منها في ذيل عبارة صاحب الكفایة
[22] بحر الفوائد في شرح الفرائد، الآشتياني، الميرزا محمد حسن، ج3، ص67.
[23] و قال المحقّق الآشتياني منتصراً لشيخه الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص126.. «لنا على عدم احتياج الحكم الوضعيّ إلى الجعل هو إنّا نشاهد بالضرورة صحّة اعتبار الحكم الوضعي و استناده إلى الشارع مع صدور الحكم التكليفي منه ليس إلّا، و من هنا قد اشتهر بين الفقهاء سببية الدّلوك لوجوب الصلاة و مانعيّة الحيض عن وجوبها و وجوب سائر العبادات و سببيّته لتحريم جملة من الأفعال و شرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ، مع أن الّذي ورد من الشّارع ليس إلّا أحكاماً تكليفيّةً في مواردها كما هو معلوم لكلّ من له أدنى تتبّع في الأدلّة. لا‌يقال: مجرّد عدم صدور جعل الحكم الوضعيّ من الشارع في الظّاهر لا‌يدلّ على عدم جعله واقعاً لم لا‌يكون مجعولاً واقعاً، أو مجعولاً بنفس جعل الحكم التّكليفي فيكونان مجعولين بجعل واحد كالكلّي و الفرد، و قد عرفت أنّ بالوضع لا‌يذهب إلى أنّه لا‌بدّ من جعل مستقلّ بالنّسبة إلى الحكم الوضعي فما ذكر لا‌يدلّ على المدّعى، لأنّا نقول: المفروض القطع بعدم صدور جعل الحكم الوضعي من الشارع في الواقع مطلقاً، و إن صعب عليك فرض ذلك بالنّسبة إلى الشارع فافرض ذلك في الأحكام‌ الصّادرة من الموالي بالنّسبة إلى عبيدهم، فإنّ المناط واحد حيث أنّ الحكم الوضعي لو كان محتاجاً إلى الجعل و متوقّفاً عليه لم‌يعقل الفرق فيه بين كون الحاكم به الشّرع، أو غيره كما أنّ الحكم التكليفي الذي قضت كلمتهم بافتقاره إلى الجعل حسب ما عرفت نفي الخلاف فيه في الأمر السّادس لا‌يعقل الفرق فيه بين كون الحاكم به الشّرع، أو غيره و نحن نرى بالوجدان صحّة انتزاع سببيّة المجي‌ء لوجوب الإكرام لو قلنا لعبدنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» مع فرض أنّه لم‌يوجد في أنفسنا إلّا إنشاء الحكم التّكليفي و هو وجوب الإكرام عند المجي‌ء ليس إلّا، و لو فرضت نفسك حاكماً لصدقت ما ذكرنا هذا مجمل القول في وجه عدم الاحتياج إلى الجعل، و أما الدّليل على عدم معقوليّة الجعل بالنّسبة إلى الحكم الوضعي فهو مما لا‌يحتاج إلى البيان بعد ملاحظة ما ذكرنا في وجه عدم الاحتياج و ما ذكرنا في المقدّمات، لأنّك قد عرفت أنّ الوجه في عدم احتياجه إلى الجعل كونه اعتباريّاً و منتزعاً عن الحكم التّكليفي، و قد عرفت في المقدّمات أنّ الموجود الاعتباري لا‌يمكن وجوده في الخارج و إنّما يكون باعتبار المعتبر و انتزاعه بحيث لو لم‌يعتبره لم‌يكن شي‌ء أصلاً، و الحكم الذي يوجد من الحاكم إنّما هو من الموجودات الخارجيّة حسب ما عرفت سابقاً فكيف يمكن أن يوجد بالاعتبار ضرورة تباين الوجودين و تنافي الاقتضائين»