45/04/26
بسم الله الرحمن الرحیم
إنّ ما ذكره متین لو قلنا بالانحلال الحقیقي، فإنّ العلم التفصیلي بالجامع هو عین العلم الإجمالي بإحدى الخصوصیتین، فكیف یكون موجباً للانحلال الحقیقي؟ و لكنّا نقول بالانحلال الحكمي، بمعنی أنّ المعلوم بالإجمال و إن كان یحتمل انطباقه على خصوصیة الإطلاق و على خصوصیة التقیید إلا أنّه حیث تكون إحدی الخصوصیتین مجری للأصل دون الأخري، كان جریان الأصل في إحداهما في حكم الانحلال، لأنّ تنجیز العلم الإجمالي متوقّف على تعارض الأصول في أطرافه و تساقطها، فبعد العلم بوجوب الأقلّ بنحو الإهمال الجامع بین الإطلاق و التقیید و إن لمیكن لنا علم بإحدى الخصوصیتین حتّی یلزم الانحلال الحقیقي، إلّا أنّه حیث یكون التقیید مورداً لجریان الأصل بلامعارض كان جریانه فیه مانعاً عن تنجیز العلم الإجمالي فیكون بحكم الانحلال.([1] )
و ما أفاده یتمّ على ما ذهب إلیه المحقّق النائیني و اختاره المحقّق الخوئي أیضاً من توقّف تنجیز العلم الإجمالي على تعارض الأصول في جمیع الأطراف و تساقطها.([2] )
إنّ مقتضی التحقیق هو أن یقال: إنّ التكلیف بإتیان الأقلّ معلوم تفصیلاً و هذه القضیّة لیست بنحو المهملة بل هي مطلقة بمعنی أنّه یجب الإتیان بالأقلّ على كلّ تقدیر سواء ما تمّ فیه البیان كان هو الأقلّ أم هو الأكثر، و العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ینحلّ بهذا العلم التفصیلي، لأنّ العلم الإجمالي مهمل و العلم التفصیلي مطلق فإنّ بیان الشارع بالنسبة إلى إتیان الأقلّ واصل إلى المكلّف و إنّما التردید هو في أنّ الأقلّ ملحوظ باعتبار اللابشرط القسمي أو ملحوظ باعتبار بشرط شيء «أي بشرط انضمام الجزء المشكوك إلیه»؛ أمّا اعتبار اللابشرط القسمي الذي هو الإطلاق فلایوجب تكلیفاً زائداً على الأقلّ فلایحتاج إلى بیان آخر غیر بیان وجوب الأقلّ، و أمّا اعتبار بشرط شيء فهو یوجب تكلیفاً زائداً على الأقلّ و یحتاج إلى بیان آخر، فهنا علم تفصیلي بوجوب الأقلّ و اعتباران: أحدهما لایوجب تكلیفاً و الآخر یوجب تكلیفاً زائداً و التردید بین الاعتبارین یرجع إلى الشبهة البدویة.
إنّ العلامة الأنصاري قال في ضمن كلامه: قد یأمر المولى بمركب یعلم أنّ المقصود منه تحصیل عنوان یشك في حصوله إذا أُتي بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك، كما إذا أُمر بمعجون و علم أنّ المقصود منه إسبال الصفراء بحیث كان هو المأمور به في الحقیقة أو علم أنّه الغرض من المأمور به، فإنّ تحصیل العلم بإتیان المأمور به لازم.
ثم أورد على نفسه بقوله: «إن قلت» و الإشكال هو أنّ الأوامر الشرعیة كلّها من هذا القبیل لابتنائها على مصالح في المأمور بها، فالمصلحة فیها إمّا من قبیل العنوان في المأمور به أو من قبیل الغرض.
و بتقریر آخر: المشهور بین العدلیة أنّ الواجبات الشرعیة إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلیة([4] )، فاللطف إمّا هو المأمور به حقیقةً أو غرض الآمر، فیجب تحصیل العلم بحصول اللطف و لایحصل إلا بإتیان كلّ ما شك في مدخلیته.([5] )
مسألة البراءة و الاحتیاط في الأقلّ و الأكثر الارتباطیین غیر مبنیة على كون كلّ واجب فیه مصلحة كما هو مسلك المشهور من العدلیة حیث قالوا: إنّ الواجبات السمعیة (الشرعیة) ألطاف في الواجبات العقلیة بل مسألة البراءة و الاحتیاط تجري على مذهب الأشاعرة أیضاً فإنّهم أنكروا الحسن و القبح رأساً و أنكروا تبعیة الأحكام للمصالح و المفاسد و أیضاً هذه المسألة تجري على مذهب بعض العدلیة القائلین بأنّ المصلحة قد تكون في المأمور به و قد تكون في الأمر.
إنّ حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري لایجدي للقائلین ببطلان مسلكهم، فإنّ المشهور من العدلیة قالوا بتبعیة الأحكام للمصالح و المفاسد في المتعلّق بل غیر المشهور من العدلیة أیضاً قالوا بتبعیة الأحكام للمصالح و المفاسد إلا أنّهم قالوا: إنّ تلك المصالح و المفاسد إمّا في المتعلّق و إمّا في نفس الأمر و النهي الشرعیین.
فالمتحصّل هو أنّ الإیراد الخامس یتمّ على مسلكنا من تبعیة الأحكام للمصالح و المفاسد و المستشكل في الإیراد الخامس یرید إثبات جریان أصالة الاحتیاط في الأقلّ و الأكثر الارتباطیین، و ما أفاده یتمّ على مسلك الشیخ الأنصاري بل مسلك جمیع علمائنا و إن لمیتمّ على مسلك الجمهور من الأشاعرة.
إنّ القطع بحصول الغرض ممّا لایكاد یمكن هنا و إن عملنا بالاحتیاط و أتینا بالأكثر، لأنّ الإتیان بالجزء الزائد المشكوك إمّا یكون بقصد جزئیته للواجب و الأمر به فهو تشریع محرّم و إمّا یكون بغیر قصد الجزئیة بل بقصد احتمال جزئیته للواجب و احتمال تعلّق الأمر به فحینئذٍ نشك في حصول الغرض أیضاً، لأنّا نحتمل أن یكون اللطف منحصراً في امتثاله التفصیلي مع معرفة وجه الفعل لاحتمال اعتبار قصد الوجه و قد صرّح العلامة([9] ) بوجوب تمیّز الأجزاء الواجبة من المستحبات ليوقع كلاً على وجهه و یظهر ذلك من كلمات بعضهم([10] ) أیضاً.
فلمیبق إلا التخلّص من تبعة مخالفة الأمر الموجّه علیه، فإنّ هذا واجب عقلي في مقام الإطاعة و المعصیة، و لا دخل له بمسألة اللطف بل هو جار على فرض عدم اللطف و عدم المصلحة في المأمور به رأساً.
و هذا التخلّص یحصل بالإتیان بما یعلم أنّه مع تركه یستحقّ العقاب و المؤاخذة، و أمّا الزائد فیقبح المؤاخذة علیه مع عدم البیان.
إنّ بعض الأعلام مثل صاحب الكفایة و المحقّق الخوئي قد أوردوا على الشیخ الأنصاري بوجوه، نذكر بعضها:
الأوّل:([11] ) إنّ احتمال اعتبار قصد الوجه واضح البطلان كما تقدّم بیانه في بحث التعبدي و التوصلي.
الثاني:( [12] ) لو قلنا باعتبار قصد الوجه یلزم عدم إمكان الاحتیاط في باب الأقلّ و الأكثر الارتباطیین مع أنّه لا إشكال في إمكان الاحتیاط في باب الأقلّ و الأكثر الارتباطیین كما لا إشكال في إمكان الاحتیاط في المتباینین أیضاً.
و زاد المحقّق الخوئي على بیان صاحب الكفایة هنا، اختصاص اعتبار قصد الوجه على القول به بصورة الإمكان، حیث أنّ القول باعتبار قصد الوجه مطلقاً مستلزم لعدم إمكان الاحتیاط في المقام مع أنّه لا إشكال و لا خلاف في إمكان الاحتیاط بل في حسنه بالإتیان بالأكثر و على هذا لابدّ أن یقال: إنّ اعتبار قصد الوجه على القول به یختصّ بصورة الإمكان، ففي مثل المقام لایكون واجباً قطعاً و إلا لزم بطلان الاحتیاط رأساً مع أنّه حسن في هذا المقام كما أنّه حسن في باب المتباینین أیضاً.
الثالث:( [13] )إنّ اعتبار قصد الوجه مع عدم تمامیة دلیله إنّما هو في الواجبات الاستقلالیة دون الواجبات الضمنیة أي الأجزاء.
و بتعبیرآخر: المراد بالوجه في كلام من صرّح بوجوب إیقاع الواجب على وجهه و وجوب اقترانه به، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه من وجوبها الغیري أو وجوبها العرضي.
الرابع:( [14] )إنّ الكلام في هذه المسألة لایختصّ بما لابدّ أن یؤتی به على وجه الامتثال من العبادات، بل یعمّ التوصّلیات لعدم توقّف حصول الغرض فیها على قصد الوجه فیلزم حینئذٍ التفصیل بین التعبدیات و التوصّلیات، بأن یقال بجریان البراءة العقلیة في التعبدیات و بجریان أصالة الاحتیاط في التوصّلیات، و هذا القول مقطوع البطلان و لمیلتزم به أحد حتّی الشیخ نفسه.([15] )
تحقیق الجواب عن هذا الإشكال یتوقّف على بیان مقدّمات:
المقدّمة الأولى: إنّ ما لایمكن تعلّق الإرادة التكوینیة به لایمكن تعلّق الإرادة التشریعیة به و الوجه فیه ظاهر، فإنّ الإرادة التشریعیة إنّما هي لتحریك عضلات العبد و إرادته نحو شيء، فإذا فرضنا استحالة ذلك في الخارج، فیستحیل تعلّق الإرادة التشریعیة به أیضاً.
المقدّمة الثانیة: إنّ ما تعلّقت به الإرادة الأصلیة (الداعیة) و ما هو المطلوب بالذات قد یكون مقدوراً اختیاریاً فلا محالة تتعلّق به الإرادة الفاعلیة أیضاً و قد یكون غیر مقدور و غیر اختیاري «نظیر كون الزرع سنبلاً» إلا أنّ بعض مقدّماته و علله الإعدادیة یكون مقدوراً و اختیاریاً فلا محالة تتعلّق الإرادة الفاعلیة بهذه المقدّمات.
المقدّمة الثالثة: إنّ الفعل الاختیاري إمّا علّة تامّة للآثار المرتبة علیه أو جزء أخیر للعلّة التامّة بحیث یترتّب علیه الأثر بلافصل و بلا واسطة أمر آخر و إمّا لیس كذلك، بل لایترتّب علیه الأثر بلافصل لأنّ الفعل الاختیاري هو علّة إعدادیة لهذا الأثر.
أمّا القسم الأوّل فیمكن فیه تعلّق الإرادة الفاعلیة بالأثر لأنّه مقدور للمكلّف و لذا یمكن تعلّق الإرادة الأمریة أیضاً به و أمّا القسم الثاني فلایمكن فیه تعلّق الإرادة الفاعلیة بالأثر لأنّ الأثر غیر مقدور للمكلّف و لذا لایمكن تعلّق الإرادة الأمریة بهذا الأثر.
و نتیجة هذه المقدّمات هو أنّه إن علمنا أنّ الفعل المأمور به علّة تامّة لحصول الغرض فیكون الغرض مقدوراً للمكلّف فیجب الاحتیاط بإتیان الأكثر حتّی یحصل الغرض و إن علمنا أنّ الفعل المأمور به علّة إعدادیة لحصول الغرض فلایكون الغرض مقدوراً للمكلّف فلایجب على المكلّف تحصیله لعدم إمكان تحصیله، لأنّ حصوله متوقّف على مقدّمات خارجة عن اختیار المكلّف و حینئذٍ لایجب على المكلّف إلا الإتیان بالفعل المأمور به و حیث أنّ وجوب الأقلّ قد تمّ فیه البیان من الشارع فیجب الإتیان به، و أمّا وجوب الأجزاء الزائدة علیه فیكون مجری أصالة البراءة هذا بحسب مقام الثبوت.
أمّا بحسب مقام الإثبات فلو شككنا في أنّ تأثیر الفعل المأمور به في الغرض هل هو بنحو العلّیة التامّة أو بنحو العلّیة الإعدادیة؟ فحینئذٍ لابدّ من ملاحظة الدلیل الشرعي في مقام الإثبات، فإن كان الأمر متعلّقاً بالغرض و الأثر مثل الأمر بالطهارة في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا﴾([17] ) یستكشف منه أنّ تحصیل الغرض مقدور للمكلّف، و إلا لمیأمر الشارع به، و حینئذٍ یجب الاحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ و الأكثر.
و إن كان الأمر متعلّقاً بالفعل المأمور به، كالأمر بنفس الصلاة المركبة من الأجزاء الذي هو مقدّمة لحصول الغرض فبتبعیة مقام الإثبات لمقام الثبوت یستكشف أنّ الأثر و الغرض خارج عن تحت القدرة و الاختیار و إلا لكان البعث نحو مقدّمته على خلاف الحكمة حیث أنّ المقصود الأولي هو حصول الغرض.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الأحكام الشرعیة و إن كانت تابعةً للملاكات التي في متعلّقاتها إلا أنّه من جهة عدم كونها ممّا تنالها ید العرف لعدم معرفتهم بها بالضرورة یكون الشارع هو المتكفّل بإیقاع أمره على نحو یفي بغرضه، و حیث أنّ المفروض عدم تعلّق الأمر الشرعي إلا بنفس الأفعال، یستكشف منه عدم قابلیة الأغراض لتعلّق الأمر بها لا بنحو الاستقلال و لا بنحو التقیّد، فالعقل یستقلّ بعدم لزوم تحصیلها على المكلّف، فإنّ الواجب علیه هو تحصیل ما تعلّقت به إرادته التشریعیة، فكلّ ما تعلّقت به إرادته یجب تحصیله علیه، و غیره لایجب علیه تحصیله و إن كان له دخل في الغرض واقعاً، فإنّ الشارع في مثل الفرض هو الذي أخلّ بغرضه بعدم أخذه في متعلّق أمره دون المكلّف، فعند احتمال دخل شيء في الغرض الداعي على أمره مع عدم أخذه في متعلّق الأمر لایكون الشك راجعاً على الشك في الامتثال حتّی یكون مجری أصالة الاحتیاط، بل تجري أصالة البراءة العقلیة و قاعدة قبح العقاب بلابیان.