الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاحتياط /الفصل الثاني: دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطیین
المقدمةقبل الورود في البحث ینبغي تقدیم أُمور:
الأمر الأوّلإنّ الفصل الأوّل تكفّل البحث في مسألة دوران الأمر بین المتباينین و هذا – أي الفصل الثاني- یتكفّل البحث في مسألة الأقلّ و الأكثر الارتباطیین، و الفرق بینهما هو في أنّ المتباینین لایقبلان الانطباق على الواحد في الخارج و لكنّ الأقلّ و الأكثر الارتباطیین ینطبقان على الواحد، و لذا یكون الاحتیاط في المتباینین بالجمع بین الطرفین، و أمّا الاحتیاط في الأقلّ و الأكثر الارتباطیین فهو بإتیان الأكثر.
الأمر الثانيالكلام هنا في الأقلّ و الأكثر الارتباطیین في قبال الأقلّ و الأكثر الاستقلالیین و الفرق بینهما هو أنّ في الأقلّ و الأكثر الارتباطیین نعلم إجمالاً بجعل حكم واحد لمتعلّق واحد بغرض واحد و لكن لاندري أنّ المتعلّق هل هو الأقلّ أو الأكثر مثل الصلاة المركّبة من عدّة أجزاء؟ و قد تعلّق بها حكم الوجوب و لكن نشكّ في أنّ الأجزاء الواجبة فیها –مثلاً- هي تسعة أجزاء أو هي عشرة.
و أمّا في الأقلّ و الأكثر الاستقلالیین فنعلم بأحكام متعدّدة بأغراض متعدّدة لمتعلّقات متعدّدة و لكن لاندري أنّ الخطاب –مثلاً- تعلّق بالمقدار الأقلّ من المتعلّق أو بالمقدار الأكثر، مثل الإكرام في ما إذا علمنا بوجوبه و لكن لاندري هل تعلّق بإكرام عشرة أو عشرین؟ فإنّ الوجوب ینحلّ بتعداد كلّ واحد واحد.
الأمر الثالثإنّ الأكثر هنا یؤخذ بشرط الشيء و الأقلّ یؤخذ لابشرط، مثلاً إذا شككنا بالنسبة إلى الواجب المركّب في أنّ هذا الفعل أیضاً من أجزائه أو لا؟ فالأقلّ یؤخذ بالنسبة إلیه لابشرط و لكن الأكثر هو بشرط وجود هذا الجزء.
و أمّا لو أخذنا الأقلّ بشرط لا عنه و الأكثر بشرط وجوده فحینئذٍ التردید في المتعلّق لیس من قبیل دوران الأمر بین الأقلّ و الأكثر، بل هما متباینان و لذا لو أتی المكلّف بالأكثر لایكفي ذلك عن الأقلّ في ما إذا كان الأقلّ هو متعلّق الحكم الشرعي واقعاً فلابدّ في مقام الاحتیاط من الجمع بین التكلیفین بإتیان الأقلّ مرّة و بإتیان الأكثر أخری و ذلك مثل القصر و الإتمام في الصلاة.( [1]
)
الأمر الرابعإنّ البحث هنا في أنّ الأقلّ و الأكثر الارتباطیین هل یعدّان من مصادیق الشكّ في التكلیف حیث أنّ التكلیف الضمني بالجزء الزائد على المقدار الأقلّ مشكوك فتجري البراءة عن وجوبه، أو من مصادیق العلم بأصل التكلیف و الشكّ في المكلّف به بحیث تجري فیه أصالة الاحتیاط و قاعدة الاشتغال.
ثمّ إنّ الكلام یقع هنا في مبحثین، لأنّ دوران الأمر بین الأقلّ و الأكثر تارةً یتحقّق في الأجزاء الخارجیة و أخری في الأجزاء التحلیلیة (أي الشرائط و الموانع).
المقام الأوّل:
دوران الأمر بین الأقلّ و الأكثر في الأجزاء الخارجیةفيه جهات ثلاثة:
المقدمة في بیان الأقوالقد اختلف الأعلام في حكم هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأوّل: جريان البراءة العقلية و النقلية ذهب إليه الشیخ الأنصاري([2]
)، و المحقّق الخوئي([3]
) و جمع من الأعلام.
الثاني: و هو قول صاحب الكفایة([4]
) في متن الكفاية و المحقّق النائیني([5]
) حیث ذهبا إلى جریان البراءة النقلیة دون العقلیة.
الثالث: عدم جريان البرائتين و هو ما يظهر من صاحب الكفاية في حاشيته على الكفاية([6]
) و يظهر من المحقّق المشكيني في الحاشية على الكفاية إلى أنّه ذهب إلى هذا الرأي في دورته الأخيرة([7]
) و هو ظاهر كلمات بعض متأخري المتأخرين([8]
)، و كذلك ظاهر كلمات بعض القدماء مثل السیّد([9]
) و الشیخ([10]
)و إن كان ظاهر بعض كلماتهم الأخر غير ذلك.
فلابدّ هنا من التكلّم في ثلاث جهات: جریان البراءة العقلیة و جریان البراءة الشرعیة و مقتضی الاستصحاب.
الجهة الأولی: جریان البراءة العقلیةقد استدلّ على البراءة العقلیة بوجوه:
الوجه الأوّل: ما أفاده العلامة الأنصاري ([11]
)و هو استقلال العقل بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لمیعلم من أجزائه إلا عدّة أجزاء و یشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر و هو الشيء الفلاني، ثمّ بذل جهده في طلب الدلیل على جزئیة ذلك الأمر فلمیقدر، فأتی بما علم و ترك المشكوك، خصوصاً مع اعتراف المولى بأنّي ما نصبت لك علیه دلالة.
الوجه الثاني: ما أفاده العلّامة الأنصاري
)بیانه: أنّ هنا علماً إجمالیاً بالواجب النفسي المردّد بین الأقلّ و الأكثر، و لكنّه لا عبرة به بعد إنحلاله إلى معلوم تفصیلي و مشكوك لأنّ أحد طرفي العلم الإجمالي و هو الأقلّ معلوم الإلزام تفصیلاً و الطرف الآخر و هو الأكثر مشكوك الإلزام و دوران الإلزام في الأقلّ بین كونه مقدّمیاً غیریاً و نفسیاً لایقدح في كونه معلوماً بالتفصیل.
و ما أفاده الشیخ یرجع إلى أمرین:
الأوّل: انحلال العلم الإجمالي بالواجب النفسي المردّد بین الأقلّ و الأكثر بوجوب الأقلّ الأعمّ من كونه غیریاً أو نفسیاً، و الثاني: دوران الأقلّ بین الوجوب الغیري و النفسي.
إیراد المحقّق الخوئي
علی الوجه الثانيإنّ الأقلّ لایتّصف بالوجوب المقدّمي الغیري لاستحالة اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیري، لأنّ الوجوب الغیري ناشئ عن توقّف وجود على وجود آخر و لیس وجود المركّب غیر وجود الأجزاء كي یتوقّف علیه توقّف وجود الشيء على وجود غیره.( [13]
)
الوجه الثالث: ما يستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري
)إنّ العلم الإجمالي بالواجب المردّد بین الأقلّ و الأكثر ینحلّ بالعلم التفصیلي و الشك البدوي لأنّ الأقلّ واجب بالوجوب الجامع بین الاستقلالي و الضمني، إذ لو كان الواجب في الواقع هو الأقلّ فیكون الأقلّ واجباً بالوجوب الاستقلالي و لو كان الواجب في الواقع هو الأكثر فیكون الأقلّ واجباً بالوجوب الضمني، لأنّ التكلیف بالمركب ینحلّ إلى التكلیف بكلّ واحد من الأجزاء.
فتحصّل أنّ تعلّق التكلیف بالأقلّ معلوم و یكون العقاب على تركه عقاباً مع البیان و إتمام الحجّة و تعلّق التكلیف بالأكثر مشكوك فیه و یكون العقاب على تركه عقاباً بلابیان، فتجري البراءة العقلیة عن وجوب الأكثر.
بیان المحقّق الخوئي
للوجه الثالثلا شكّ هنا في أنّ ذات الأقلّ واجب قطعاً إلّا أنّ وجوبه مردّد بین كونه مطلقاً بالنسبة إلى لحوق الجزء المشكوك و مقیّداً بلحوقه، فالأقلّ واجب إمّا بالإطلاق بنحو اللّابشرط القسمي و إمّا بالتقیید بنحو بشرط الشيء.
و بالجملة تعلّق التكلیف بذات الأقلّ متیقّن و إنّما الشكّ في أنّه واجب مطلق بلاتقیید بشيء، أو أنّه واجب مقیّد بانضمام الأجزاء المشكوكة و حیثما لمیكن الإطلاق تضییقاً على المكلّف كما هو ظاهر، فلا معنی لجریان البراءة العقلیة أو النقلیة فیه، فإنّه لایحتمل العقاب في صورة الإطلاق حتّی ندفعه بقاعدة قبح العقاب بلابیان أو بحدیث الرفع، فتجري البراءة العقلیة في التقیید بلا معارض.
نظیر ما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء أو إباحته، فهذا العلم الإجمالي و إن كان طرفاه متباینین إلا أنّه حیث لاتجري البراءة العقلیة و لا النقلیة في طرف الإباحة -لعدم احتمال العقاب فیه كي یدفع بقاعدة قبح العقاب بلابیان أو بحدیث الرفع و أمثاله من الأدلّة النقلیة- یكون احتمال الحرمة مورداً لجریان البراءة العقلیة و النقلیة بلامعارض.( [15]
)
[4] قال في
كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص363.: «المقام الثاني في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين: و الحقّ أن العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلاً ... هذا بحسب حكم العقل. و أما النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شك في جزئيته فبمثله يرتفع الإجمال و التردد عما تردد أمره بين الأقل و الأكثر و يعينه في الأول ...».
[6] قال في حاشية
كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص366. عند بحثه عن جريان البراءة النقلية في الأكثر: لكنّه لايخفى: أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، و هو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي، ضرورة أنه ينافيه رفع الجزئية المجهولة، و إنما يكون مورده ما إذا لميعلم به كذلك، بل علم مجرد ثبوته واقعاً. و بالجملة: الشك في الجزئية و الشرطية و إن كان جامعاً بين الموردين، إلا أن مورد حكم العقل القطع بالفعلية و مورد النقل هو مجرد الخطاب بالإيجاب، فافهم.و راجع حقائق الأصول، ج2، أصول الفقه، ج8، ص310، و بحوث في علم الأصول، ج5، ص327.و قال السیّد الصدر
في بحوث في علم الأصول ج5، ص351 قال: «إنّ كلام المحقّق الخراساني في حاشیة الكفایة أكثر انسجاماً مع مبانیه في الكفایة من أنّ التكلیف الواقعی بالعلم الإجمالي یصبح فعلیّاً من جمیع الجهات و لهذا یكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة و هذا المبنی یقتضي عدم جریان البرائة عن وجوب الزائد». وجّه التفصیل المذكور فقال في ص345: «... إن التكاليف تنجيزاً أو تعذيراً إنما تلحظ بمعناها الحرفي و بما هي حافظة لما وراءها من المبادئ و الأغراض، إذ بقطع النّظر عن ذلك لاتكون إلا اعتبارات جوفاء لا معنى للتنجيز أو التعذير عنها، فالبراءة الشرعية الجارية عن التكليف المشكوك تؤمن بالدلالة العرفية المطابقية عن روح التكليف و جوهره و هو الغرض من ورائه. و عليه يمكن دعوى التفصيل بين البراءتين بأنّ الغرض حيث أنه وحداني و معلوم فلا انحلال فيه كما أن البيان تامّ بالنسبة إليه- مع قطع النّظر عما تقدّم في محله- فلاتجري بلحاظه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و أما البراءة الشرعية فهي تجري عن الزائد و الّذي ليس وجوبه معلوماً و بجريانها عنه تؤمن عن روح التكليف و جوهره».
[9] راجع الانتصار، ص146 و 148.
[10] راجع الخلاف، ج1، ص182، المسألة 138.
[13] مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج1، ص427.و أورد السیّد الصدر
في بحوث في علم الأصول ج5، ص328 على هذا الوجه: «و يرد عليه - بعد تسليم ما افترض فيه من اعتبار الأجزاء مقدّمات داخلية و القول بوجوب المقدّمة حتى الداخلية -: أنّ المقصود إن كان دعوى الانحلال الحقيقي و انثلام الركن الثاني من أركان منجزية العلم الإجمالي، فالجواب عليه أنّ الانحلال إنّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقاً للجامع المعلوم بالإجمال كما تقدّم و ليس الأمر كذلك في المقام لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي و المعلوم التفصيلي وجوب الأقلّ و لو غيرياً أي: أنّ المعلوم هو الجامع بين أحد طرفي العلم الإجمالي- و هو الوجوب النفسي للأقلّ- و وجوب آخر هو الوجوب الغيري و هذا لايوجب الانحلال.و إن أريد الانحلال الحكمي و انهدام الرّكن الثالث بدعوى أنّ وجوب الأقلّ منجّز على أيّ حال و لاتجري البراءة عنه فتجري البراءة عن الآخر بلا معارض، فالجواب عليه: أنّ الوجوب الغيري ليس منجّزاً و إنّما المنجّز هو الوجوب النفسي فقط على ما تقدّم في بحوث الواجب الغيري و النفسي، و عليه فلايكون العلم بالجامع بين الوجوب النفسي أو الغيري للأقلّ علماً بوجوب منجّز على كلّ تقدير بل علم بالجامع بين ما يقبل التنجيز و ما لايقبل التنجيز و هو لايكون منجّزاً».
[14] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص389..: و للقول الثاني استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلف مسبوقا بالقدرة بناء على أن المستصحب هو مطلق الوجوب بمعنى لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره أو الوجوب النفسي المعلق بالموضوع الأعم من الجامع لجميع الأجزاء و الفاقد لبعضها و دعوى صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعم الموجود في اللاحق و لو مسامحة فإن أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها أن الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة و لا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها و لو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختل جريانه في كثير من الاستصحابات مثل استصحاب كثرة الماء و قلته فإن الماء المعين الذي أخذ بعضه أو زيد عليه يقال إنه كان كثيرا أو قليلا و الأصل بقاء ما كان مع أن هذا الماء الموجود لم يكن متيقن الكثرة أو القلة و إلا لم يعقل الشك فيه فليس الموضوع فيه إلا هذا الماء مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد في المشار إليه و لذا يقال في العرف هذا الماء كان كذا و شك في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته و نقيصته
[15] . مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج1، ص429.جاء في حاشیة الكفایة للسیّد البروجردي
ج2، ص286 وجه آخر یناسب نقله إتماماً للبحث و هو أنّه: «إذا تعلّق الأمر بمركّب يتعلّق بأجزائه أيضاً بعين تعلّقه بالمركّب ينبسط الأمر عليها انبساطاً يمكن تبعيضه بالإضافة إلى كلّ جزء فيكون كلّ جزء من الأجزاء مأموراً به ضمناً لا مقدّمةً و لا استقلالاً، و على هذا إذا شكّ في جزئية شيء للمركّب يرجع الشكّ في أنّ الأمر الكذائي تعلّق بالجزء الفلاني و انبسط عليه كما انبسط على سائر الأجزاء المعلومة قطعاً أو لميتعلّق و لمينبسط فيكون الشكّ في الأكثر بهذا الاعتبار شكّاً بدويّاً.و الحاصل أنّ التكليف بالإضافة إلى الأقلّ فعليّ و بالنسبة إلى الأكثر شأني، و ذلك لا لأن الأقلّ يكون مأموراً به على كل تقدير إمّا بالأمر النفسيّ و امّا بالأمر الضمني كما أفاده الشيخ حتى يتوجّه عليه ما أفاده المصنف
، بل باعتبار العلم بانبساط الأمر على الأقلّ و الشك في انبساطه على الأكثر، و على هذا فلايكون المقام من أفراد العلم الإجمالي و مصاديقه حتى يقال بلزوم الاحتياط في أطرافه أو نحتاج في مقام القول بالبراءة من الالتزام بالانحلال، بل يكون الأمر بالإضافة إلى الجزء المشكوك من الشبهات البدوية الّتي يستقلّ العقل بقبح المؤاخذة عليها، هذا مجمل ما أفاده السيّد الأستاذ مدّ ظلّه».