45/04/16
بسم الله الرحمن الرحیم
إنّ المحقّق النائیني أفاد تحقیقاً حول أنّ السراية هل موجبة للتنجس أو لا؟ و استدلّ على التنجّس بوجوه ثلاثة:
إنّ العرف بعد حكم الشارع بنجاسة الملاقي یفهم سرایة النجاسة إلیه و انبساطها علیه، كما في صورة الامتزاج.
إنّه لا طریق للعرف إلى فهم ذلك، و عهدة دعوی فهمه على مدّعیها، بل غایة ما هناك أنّ حكم الشارع بنجاسة بعض الأمور في حدّ ذواتها و حكم بنجاسة أمور أُخر بملاقاتها لها و أین ذلك من السرایة؟([1] )
و هو ما یستفاد من استدلال السید أبي المكارم ابن زهرة في الغنیة([2] ) حیث استدلّ بآیة تحریم الخبائث و هي قوله تعالى: ﴿وَ الرُّجْزَ فَاهْجُر﴾([3] ) فقال: إنّ هجر الشيء لایتحقّق إلّا مع الاجتناب عن ملاقیه.
إنّ الآیة لا دلالة فیها على نجاسة الملاقي، فضلاً عن كون نجاسته من شؤون نجاسة ما لاقاه.([4] )
ما رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی (بن عمران الأشعري) عن محمّد بن عیسی الیقطیني عن النضر بن سوید عن عمرو بن شمر (الجعفي) عن جابر (بن یزید الجعفيّ) عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: وَقَعَتْ فَأْرَةٌ فِي خَابِيَةٍ فِيهَا سَمْنٌ أَوْ زَيْتٌ فَمَا تَرَى فِي أَكْلِهِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: لَاتَأْكُلْهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: الْفَأْرَةُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتْرُكَ طَعَامِي مِنْ أَجْلِهَا، قَالَ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْتَسْتَخِفَّ بِالْفَأْرَةِ وَ إِنَّمَا اسْتَخْفَفْتَ بِدِينِكَ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِ شَيْءٍ».([5] )
إنّ رجال الرواية كلّهم من الأجلاء إلّا عمرو بن شمر فإنّ النجاشي قد ضعفه([6] ) مع كونه من رجال نوادر الحكمة ليشمله توثيقات صاحبه محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري و لنا في توثيقاته تفصيل فنصنّف توثيقاته على ثلاثة أقسام:
و عمرو بن شمر من القسم الأوّل من توثيقاته إلّا أن يدّعى انضمام توثيقات تفسير القمي و كامل الزيارات إليه لوجوده في بعض أسناد كلا الكتابين.
و ننبّه إلى أنّ الظاهر من استثناء ابن الوليد لبعض رجال نوادر الحكمة من توثيقات صاحب النوادر هو عدم توثيقهم عنده لاتضعيفهم.
تقریب الاستدلال بالرواية: إنّ الإمام جعل عدم الاجتناب من الطعام الذي وقع فیه الفأرة استخفافاً بتحریم المیتة، و لولا أنّ حرمة الشيء من جهة النجاسة مستلزمة لحرمة ملاقیه و هي من شؤونه لَما صحّ جعله استخفافاً بتحریم المیتة، بل غایته أن یكون استخفافاً بتحریم الطعام الملاقي لها، فتدلّ الروایة على أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي من شؤون وجوب الاجتناب عمّا لاقاه.
أوّلاً: الروایة ضعیفة السند.
ثانیاً: إنّ المراد من الحرمة فیها هي النجاسة، فإنّ حرمة الشيء لاتستلزم نجاسته، فضلاً عن نجاسة ملاقیه.([7] )
أمّا الإشكال بضعف السند فقد أجاب عنه بقوله: أمّا تضعیف الروایة فلیس في محلّه بعد ورودها في كتاب الكافي، فإنّ المناقشة في أخبار الكتب الأربعة لاسیّما الكافي منها، بعد كونها متلّقاة بالقبول بین الأصحاب، ساقطة من أصلها.
و أمّا الإشكال الثاني الذي أفاده العلّامة الأنصاري فیرد علیه أنّ مبنى الاستدلال على أنّ المستفاد من الروایة ملازمة حرمة الشيء من جهة نجاسته لحرمة ملاقیه، فكأنّه جعل من أحكام نجاسة الشيء حرمة ملاقیه و نجاسته كحرمة نفسه.
و المقصود من الاستدلال هو إثبات ذلك، لا أنّ مطلق حرمة الشيء مستلزم لحرمة الملاقي حتّی یلزم تخصیص الأكثر، فیرفع الید عن ظهور الروایة بإرادة النجاسة من الحرمة.
إنّ الروایة لیست موجودة في الكافي و قد تقدّم الإشكال في سندها.
إنّ الظاهر من الروایة أنّ جعل الإمام عدم وجوب الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحریم المیتة من جهة ما هو المرتكز في ذهن السائل من أنّ النجاسة القلیلة لاتوجب تنجّس الطعام الكثیر بملاقاتها، بل لابدّ فیه من التأثّر و التغیّر، فردعه الإمام بأنّك ما استخففت بالفأرة لصغرها و إنّما استخففت بدینك حیث أنّ الله تبارك و تعالى حرّم المیتة من كلّ شيء من دون فرق بین الصغیرة و الكبیرة، فما یترتب على المیتة الكبیرة من تنجّس الملاقي یترتب على میتة الفأرة أیضاً، فالروایة أجنبیة عن محلّ الكلام بالكلّیة.
فتحصّل أنّ الالتزام بالتنجیس من جهة السرایة مع أنّه لایساعد علیه دلیل، مخالف لظواهر الأدلّة أیضاً.
بعد تمامیة هذه المقدّمة، لابدّ من بیان حكم ملاقي بعض الأطراف بناءً على القول بأنّ التنجیس من جهة السرایة و عدمه، فلابدّ من الكلام على كلا المبنیین.
أمّا على المبنی الأوّل (و هو أنّ التنجیس من جهة السرایة) فحینئذٍ يجب الاجتناب عن ملاقي طرف الشبهة، كنفس الطرف الملاقى لما عرفت من أنّ العلم الإجمالي یوجب تنجّز معلومه بتمام ما له من الأثر من دون فرق بین الآثار المشتركة بین الطرفین و بین الأثر المختصّ بكلّ واحد من الأطراف إذا كان من آثار نفس المعلوم بالإجمال على تقدیر وجوده في ذلك الطرف، و حیث أنّ المفروض كون وجوب الاجتناب عن الملاقي من آثار وجود النجاسة في ما لاقاه، فمقتضى العلم الإجمالي هو ترتیب تمام ما للنجاسة من الأثر فیجب الاجتناب عن الملاقي أیضاً.
و أمّا على المبنی الثاني (و هو أنّ التنجیس لیس من جهة السرایة) فمقتضى القاعدة عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لبعض الأطراف و ذلك لأنّ المفروض أنّ الملاقي على فرض نجاسته فرد آخر من النجس محكوم بحكم مستقلّ مغایر لحكم ما لاقاه، و المعلوم بالإجمال حكم مختصّ بخصوص الطرفین و لایسري منهما إلى غیرهما، فإذا شك في حدوث حكم آخر من جهة الشك في تحقّق موضوعه فلا محالة تجري فیه البراءة.
و حیث أنّ المختار عند المحقّق النائیني هو المبنی الثاني، فالحقّ عنده هو أنّ الملاقي لبعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة طاهر بلا كلام فهنا مجری البراءة.([10] )
إنّ العلم باتّحاد حكم الملاقي و ما لاقاه أوجب لنا العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر.