44/08/01
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الأصول العملية/أصالة البراءة /خاتمة في شرائط جریان أصالة البرائة، التنبیه الرابع، القول الثاني
القول الثاني
و هو ما أشار إلیه المحقّق النائیني «إن قلت»[1] ثم ناقشه و هو:
«أنّ الواقع الذي لایصل إلیه العبد و لو بالفحص كما هو المفروض كیف یكون منجّزاً علیه مع أنّ وجوب الفحص لمیكن إلا طریقیاً لإیصال الواقع و مع فرض عدم إمكان الوصول إلیه لاتكون مخالفة مثل هذا الحكم الطریقي موجبة لاستحقاق العقاب».
و قد التزم بهذا القول المحقّق الخوئي في الدورة الأُولى و استدلّ على عدم استحقاق العقاب بجریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان فقال:
إذ المراد بالبیان جعل التكلیف في معرض الوصول .. فمع عدم تمكّن المكلّف من الوصول إلیه كان البیان غیر تامّ من قبل الشارع و معه یستقلّ العقل بقبح العقاب فتكون مخالفة الواقع حینئذٍ مقرونة بالمؤمّن العقلي. غایة الأمر أنّ المكلّف غیر ملتفت إلى عدم تمامیة البیان من قبل المولى و كان یحتملها فتجرّی و اقتحم الشبهة بلا فحص، فلو كان مستحقاً للعقاب فإنّما هو على التجرّي لا على مخالفة الواقع، لأنّ الواقع ممّا لمتقم الحجّة علیه، فیكون العقاب علیه بلا بیان. [2]
القول الثالث: التفصیل الذي التزم به المحقّق الخوئي أخیراً
إن بنینا على وجوب الفحص لآیة السؤال و الأخبار الدالّة على وجوب التعلّم و تحصیل العلم بالأحكام فالحقّ عدم استحقاق العقاب، لعدم إمكان التعلّم و الفحص و تحصیل العلم على الفرض، فلایكون المقام مشمولاً للآیة الشریفة و الأخبار الدالّة على وجوب التعلّم.
و إن بنینا على وجوب الفحص لأجل العلم الإجمالي أو لأجل أدلّة التوقّف و الاحتیاط بناءً على كونها دالّة على الوجوب المولوي الطریقي لا الإرشادي المحض على ما استظهرناه منها [حیث قد تقدّم في مبحث البراءة عند ذكر استدلال الأخباریین على وجوب الاحتیاط بالطائفة الأُولى و الثانیة من الأخبار الآمرة بالتوقّف عند الشبهة و الأخبار الآمرة بالاحتیاط أنّ الأمر في تلك الأخبار لایمكن أن یكون أمراً مولویاً بل الأمر فیها إرشادي][3] فالحقّ استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لكونه حینئذٍ منجّزاً بالعلم الإجمالي أو بوجوب التوقّف و الاحتیاط.[4]
و التحقیق هو أنّ دلیل وجوب الفحص في الشبهات الحكمیة و اشتراط جریان البراءة الشرعیة به ثلاثة أمور:
الأوّل: حكم العقل بأنّ وظیفة العبودیة تقتضي الفحص عن أحكام المولى فإنّ عدم فحصه ظلم منه على مولاه([5] ) و هذا ممّا ذكره المحقّق النائیني و ارتضاه المحقّق الخوئي.
الثاني: الأخبار الآمرة بالتوقّف فإنّها على طائفتین و الطائفة الأُولى مطلقة بالنسبة إلى قبل الفحص أو بعده و الطائفة الثانیة منها مختصّة بما قبل الفحص مثل ما ورد عنهم(: «فَأَرْجِهِ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ»[6] [7] [8] و هذه الطائفة الثانیة توجب تقیید الطائفة الأُولى، فیرتفع التعارض بین أخبار البراءة و الطائفة الأُولى من أخبار التوقّف.
الثالث: آیة السؤال و الأخبار الدالّة على وجوب التعلّم فإنّها تقتضي الفحص.
أمّا ما استدلّ به المحقّق النائیني على وجوب الفحص من العلم الإجمالي بوجود واجبات و محرّمات كثیرة بحیث لو تفحّص عنها لظفر بها -و لازمه تنجّز الواقع و وجوب الاحتیاط أو وجوب الفحص عن تلك الأحكام حتّی یظفر بها- فقد تقدّم بطلانه، فلایمكن الاستدلال به على وجوب الفحص.
و على هذا لا وجه لتنجّز الحكم الواقعي الذي لمیمكن الوصول إلیه بالفحص من باب العلم الإجمالي المذكور.
و أمّا تنجیز الواقع بناءً على دلالة الأخبار الآمرة بالتوقّف على وجوب الفحص -و إن قلنا بأنّ الأمر فیها مولوي- فهو ممنوع، فإنّ دلالتها على وجوب الفحص إنّما هو في ما إذا أمكن الفحص و لیس لسانها هو تنجیز الواقع و لو لمیمكن الفحص.
و لذا نلتزم بالقول الثاني و عدم لزوم استحقاق العقاب لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بیان.
التنبیه الخامس:
مناط الصحّة و البطلان في عمل الجاهل المقصّر التارك للفحص
هل یبطل عمل العامّي بلا تقلید و لا احتیاط؟
إنّ الكلام هنا في عمل الجاهل المقصّر إذا ترك الفحص كما إذا عمل بلا تقلید و لا احتیاط فهل یكون عمله صحیحاً أو باطلاً أو لابدّ من التفصیل في المقام؟
و الكلام في الصحّة أو البطلان تارةً یكون بالنسبة إلى قبل انكشاف الواقع و أُخری یكون بالنسبة إلى بعد انكشاف الواقع، و ما أفاده صاحب العروة[9] من بطلان عمل العامّي بلا تقلید و لا احتیاط فقد حمله بعض المحشّین مثل كاشف الغطاء[10] و المحقّق الخوئي[11] و المحقّق الحكیم[12] على ما قبل انكشاف الواقع.
و لكن أكثر الأعلام علّقوا علیه و فصّلوا فیه؛ فقال بعضهم مثل المحقّق النائیني[13] و السیّد الإصفهاني [14] بأنّ البطلان إنّما هو في صورتین: الأُولى صورة مخالفة عمله للواقع، و الثانیة صورة موافقته للواقع مع عدم حصول قصد القربة في ما إذا كان العمل عبادیاً.
حكم العمل قبل انكشاف الواقع
و كیف كان، لا شكّ في أنّ عمل العامّي بلا تقلید و احتیاط لایمكن عقلاً الاجتزاء به و لذا یحكم بالبطلان قبل انكشاف الواقع بمعنی أنّه لایجوز الاقتصار علیه في مقام الامتثال بحكم العقل ما لمتنكشف صحّته.
حكم العمل بعد انكشاف الواقع
للمسألة صور أربع:
الصورة الأُولى
و هي أن تنكشف مخالفة العمل للواقع الذي قامت علیه الحجّة الفعلیة و مخالفته للطریق الذي كان من حقّه الرجوع إلیه حین العمل على تقدیر الفحص مثل عمل العامي الذي خالف عمله فتوی من یجب علیه تقلیده الآن و خالف عمله أیضاً فتوی من وجب علیه تقلیده حین العمل.
و لا شكّ في بطلان العمل في هذه الصورة.
الصورة الثانیة
و هي أن تنكشف مطابقة العمل للواقع الذي قامت علیه الحجّة الفعلیة و مطابقته للطریق الذي كان من حقّه الرجوع إلیه حین العمل على تقدیر الفحص و لا شكّ في صحّة العمل في هذه الصورة.