44/05/09
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الأصول العملية/أصالة البراءة /التنبیه الأول: في تقدم الأصل الموضوعي علی أصالة البرائة
التنبیه الأوّل: في تقدّم الأصل الموضوعي علی أصالة البراءة
و فیه مطلبان:
إنّ الشيخ الأنصاري قال: إنّ أصل الإباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم علیه.[1]
توضیح ذلك: أنّ موضوع البراءة الشرعیة «ما لایعلمون» و موضوع البراءة العقلیة عدم البیان و قد یجري في موارد البراءة الشرعیة أو العقلیة أصل موضوعي فیوجب ارتفاع موضوعهما وجداناً أو تعبّداً فیتقدّم علیهما بالورود أو بالحكومة.
و الأصل الموضوعي قد یجري في موارد الشبهات الموضوعیة مثل ما إذا علمنا بنجاسة الماء ثم شككنا في اتّصاله بالكرّ، فإنّ البراءة تقتضي الحكم بجواز شربه و لكن هنا أصل موضوعي یمنع عن جریان البراءة و هو استصحاب نجاسة الماء.
و قد یجري في موارد الشبهات الحكمیة و قد مثّلوا لذلك بالشكّ في حكم جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم و قبل غسله، لأنّ في قوله تعالى: ﴿حتّی یطهرن﴾ [2] قراءتین: فإنّه بناء على قراءة ﴿حتّی یَطْهُرْنَ﴾ یجوز وطؤها بعد طهارتها عن الدم بانقطاعه، و أمّا بناء على قراءة ﴿حتّی یطّهّرْنَ﴾ فلایجوز وطؤها إلّا بعد الاغتسال و حینئذ تقتضي أصالة البراءة جواز الوطء بعد انقطاع الدم و قبل الاغتسال و لكن الأصل الموضوعي -و هو استصحاب حرمة الوطء- یمنع عن جریان البراءة.
المطلب الأوّل:
هل تمنع أصالة عدم التذكیة عن جریان أصالة البراءة؟
إنّ الشيخ الأنصاري مثّل للأصل الموضوعي الذي یمنع عن جریان أصالة البراءة بأصالة عدم التذكیة.
و التحقیق یقتضي بسط القول في صور المسألة فإنّ الشكّ في حلّیة اللّحم أو حرمته إمّا یكون من جهة الشبهة الموضوعیة و إمّا یكون من جهة الشبهة الحكمیة.
أمّا الشبهة الموضوعیة فلها أربع صور
الصورة الأُولى
و هي ما كان الشكّ في عدم قبول الحیوان للتذكیة مع العلم بصحّة التذكیة من حیث الشرائط، و هذا نظیر اللحم المردد بین كونه لحم الشاة أو لحم الكلب.
و هنا قولان:
القول الأوّل: حرمة أكل اللّحم
و هذا مختار صاحب العروة و السیّد المحقّق الحكیم و المحقّق النائیني و السیّد المحقّق الإصفهاني و المحقّق البروجردي[3] .
الدلیل على القول الأوّل
قد استدلّ على هذا القول بأصالة عدم التذكیة، فیكون الحیوان المشكوك میتةً فیحرم أكل لحمه.
القول الثاني: جواز أكل اللّحم
و هذا القول مختار المحقّق الحائري و السیّد المحقّق عبد الهادي الشیرازي و المحقّق الخوئي.([4] )
الدلیل على الجواز یبتني على ثلاثة أمور
الأمر الأوّل: العموم الدالّ على قابلیة كلّ حیوان للتذكیة إلّا ما خرج بالدلیل و هذا العموم یستفاد من صحیحة علي بن یقطین كما استدلّ بها صاحب الجواهر[5] ، أمّا الروایة:
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ([6] )عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ؛ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ: «عَنْ لِبَاسِ الْفِرَاءِ وَ السَّمُّورِ وَ الْفَنَكِ وَ الثَّعَالِبِ وَ جَمِيعِ الْجُلُودِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ».[7] [8] [9]
الأمر الثاني: جریان الاستصحاب في الأعدام الأزلیة و سیأتي إن شاء الله بیان حجّیته في مباحث الاستصحاب.
الأمر الثالث: جریان استصحاب العدم الأزلي في العناوین الذاتیة.
بیان ذلك: إنّ العموم الذي أشرنا إلیه في الأمر الأوّل قد خصّص بالكلب و الخنزیر، بالمخصّص المنفصل، و الحیوان المشتبه یمكن أن یندرج تحت المخصّص كما أنّه یمكن أن یبقی تحت العموم. و قد تقدّم في مباحث العامّ و الخاصّ أنّه لایجوز التمسك بالعامّ في الفرد المشتبه، لأنّه مردّد بین الحجّتین و لایجوز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقیة لأصل الدلیل، لأنّ العامّ بعد تخصیصه بالمخصّص المنفصل ضاقت دائرته.
و لاینحلّ هذه المشكلة إلّا بجریان استصحاب العدم الأزلي بأن نقول: إنّ انتساب اللّحم المشكوك إلى الكلب لم یكن في الأزل، فنستصحب عدمه الأزلي، فیحكم بكونه تحت العموم و نتیجة ذلك حلّیة اللّحم المردّد بین كونه لحم الشاة أو لحم الكلب.
مقتضی الأصل العملي في هذه الصورة
لو قلنا بعدم تمامیة العموم أو بعدم جریان الاستصحاب فما هو مقتضى الأصل العملي في المقام؟ لابدّ من ملاحظة أنظار الأعلام في حقیقة التذكیة و التفصیل على أساس ذلك.
فنقول: إن قلنا بأنّ التذكیة أمر وجودي بسیط مسبّب عن الذبح أو قلنا: إنّها مركّبة من الأفعال الخارجیة (فري الأوداج الأربعة) و من قابلیة المحلّ، فأصالة عدم التذكیة جاریة.
و أمّا إن قلنا بأنّ التذكیة هي الأفعال الخارجیة مع شرائطها كما هو مختار المحقّق النائیني فلا مجال لجریان أصالة عدم التذكیة، للقطع بتحقّق التذكیة على هذا القول فلابدّ حینئذٍ من الرجوع إلى أصالة الحلّ.
و الوجه في تفسیر التذكیة بالأفعال الخارجیة هو ما استظهره المحقّق النائیني من قوله تعالى: ﴿إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ﴾[10] ([11] ) حیث إنّه إنّه تعالى أسند التذكیة إلى المكلّف و هو ظاهر في المباشرة دون التسبیب.[12]
و اعترض علیه المحقّق الخوئي فقال: الاستظهار المذكور في غیر محلّه، إذ یصحّ إسناد الفعل التسبیبي إلى المكلّف من غیر مسامحة و عنایة.[13]
الصورة الثانیة
و هي ما إذا علمنا باقتضاء الحیوان المشكوك لقبول التذكیة و لكن نشكّ في وجود المانع عنه كاحتمال الجلل في هذه الشاة أو كونها موطوءة أو ارتضاعها من لبن الخنزیرة.
و التحقیق هو عدم جریان أصالة عدم التذكیة، لأنّ جریان استصحاب عدم طروّ المانع یوجب ارتفاع الشك المذكور.
الصورة الثالثة
و هي ما إذا علمنا باقتضائه لقبول التذكیة مع عدم المانع عنه و شككنا في تحقّق الذبح أو الإخلال ببعض شرائطه، مثل كون الذابح مسلماً، أو كون الذبح بالحدید أو وقوعه إلى القبلة.
و التحقیق في هذه الصورة هو جریان أصالة عدم التذكیة و نتیجته هو عدم جواز الأكل من لحمه و عدم جواز الصلاة في جلده.