46/06/09
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه السابع؛ المطلب الثاني: ما تمتاز به الأمارة عن الأصل العملي
المطلب الثاني: ما تمتاز به الأمارة عن الأصل العملي
إنّ المحقّق النائیني أفاد وجوهاً ثلاثة للفرق بین الأمارات و الأصول موضوعاً و أفاد وجهاً للامتیاز بینهما حكماً.
الفرق بين الأمارات و الأصول موضوعا بوجوه ثلاثة
الوجه الأوّل
قال المحقق النائيني: «الأول عدم أخذ الشك في موضوع الأمارة و أخذه في موضوع الأصل، فإنّ التعبّد بالأصول العملیة إنّما یكون في مقام الحیرة و الشك في الحكم الواقعي، فقد أخذ الشك في موضوع أدلّة الأصول مطلقاً محرزة كانت أو غیر محرزة؛ بخلاف الأمارات فإنّ أدلّة اعتبارها مطلقة لمیؤخذ الشك قیداً فیها كقوله: "الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي".([1] [2] )
نعم الشك في باب الأمارات إنّما یكون مورداً للتعبّد بها، لأنّه لایعقل التعبّد بالأمارة و جعلها طریقاً محرزةً للواقع مع انكشاف الواقع و العلم به فلابدّ و أن یكون التعبّد بالأمارة في مورد الجهل بالواقع و عدم انكشافه لدی من قامت عنده الأمارة، و لكن كون الشك مورداً غیر أخذ الشك موضوعاً كما لایخفی».([3] [4] )
إیراد المحقّق الخوئي علی الوجه الأوّل
قال المحقق الخوئي: «إنّ الأدلّة الدالّة على حجّیة الأمارات و إن كانت مطلقةً بحسب اللفظ إلا أنّها مقیّدة بالجهل بالواقع بحسب اللب و ذلك لما ذكرناه غیر مرّة من أنّ الإهمال بحسب مقام الثبوت غیر معقول، فلامحالة تكون حجّیة الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم و الجاهل أو مقیّدة بالعالم أو مختصّة بالجاهل.
و لا مجال للالتزام بالأوّل و الثاني، فإنّه لایعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع و كیف یعقل أن یجب على العالم بوجوب شيء أن یعمل بالأمارة الدالّة على عدم الوجوب مثلاً، فبقي الوجه الأخیر و هو كون العمل بالأمارة مختصّاً بالجاهل و هو المطلوب
فدلیل الحجّیة في مقام الإثبات و إن لمیكن مقیّداً بالجهل إلا أنّ الحجّیة مقیّدة به بحسب اللبّ ومقام الثبوت مضافاً إلى أنّه في مقام الإثبات أیضاً مقیّد به في لسان بعض الأدلّة، كقوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون﴾([5] ) فقد استدل به على حجّیة الخبر تارةً([6] ) و على حجّیة فتوی المفتي أخری و كلاهما من الأمارات و قید بعدم العلم بالواقع.
فلا فرق بین الأمارات و الأصول من هذه الجهة، فما ذكروه من أنّ الجهل بالواقع مورد للعمل بالأمارة و موضوع للعمل بالأصل ممّا لا أساس له»([7] [8] ).
الوجه الثاني
قال المحقق النائيني: «الأمارة إنّما تكون كاشفة عن الواقع مع قطع النظر عن التعبّد بها بخلاف الأصول العملیة، غایته أنّ كشفها لیس تامّاً كالعلم بل كشفاً ناقصاً یجامعه احتمال الخلاف، فكلّ أمارة ظنّیة تشارك العلم من حیث الإحراز و الكشف عمّا تحكي عنه، و الفرق بینهما إنّما یكون بالنقص و الكمال، فإنّ كاشفیة العلم و إحرازه تامّ لایجتمع معه احتمال الخلاف، و أمّا كاشفیة الأمارة و إحرازها فهو ناقص یجتمع معه احتمال الخلاف، فالأمارات الظنیّة تقتضي الكشف و الإحراز بذاتها مع قطع النظر عن التعبّد بها و إنّما التعبّد یوجب تتمیم كشفها و تكمیل إحرازها بإلغاء احتمال الخلاف و أمّا أصل الكشف و الإحراز الناقص فلیس ذلك بالتعبّد، و لایمكن إعطاء صفة الكاشفیة و الإحراز لما لایكون فیه جهة كشف و إحراز، فالكشف الناقص في الأمارة كالكشف التامّ في العلم، لایمكن أن تناله ید الجعل، و إنّما الذي یمكن أن تناله ید الجعل هو تتمیم الكشف بإلغاء احتمال الخلاف و عدم الاعتناء به»([9] [10] ).
یلاحظ علیه
إنّ معنی حجّیة الأمارات لاتنحصر في ذلك، فإنّ أدلّة اعتبار الأمارات مختلفة كما أنّ الأمارات الظنّیة أیضاً متعددة فلابدّ من ملاحظة كلّ نوع من أنواع الأمارات الظنّیة ثم ملاحظة أدلّة حجّیتها حتّی یتّضح الحال فیه.
فإنّ الحجّیة الثابتة للخبر الواحد مثلاً قد تكون بمعنی تتمیم الكشف كما یستفاد ذلك من آیة النبأ و من بعض طوائف الروایات الآمرة بالرجوع إلى الثقات مثل ما ورد في التوقیع: «لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي التَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا»([11] [12] [13] [14] ) فإنّ وصف الوثاقة یشیر إلى وجه ذلك و هو الوثوق و الاطمینان الشخصي الذي هو العلم العادي، كما أنّ عدم العذر للتشكیك أیضاً دلیل على أنّ الخبر الواحد اعتبر علماً تعبّدیاً و كاشفاً تامّاً عن الواقع. و قد تكون حجّیة الخبر الواحد بمعنی جعل الحكم المماثل كما یستفاد ذلك من بعض الأخبار التي استدلّ بها على حجّیة الخبر الواحد مثل الأخبار العلاجیة التي منها مقبولة عمر بن حنظلة فإنّ الإمام الصادق قال فیها: «الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أَوْرَعُهُمَا وَ لَايَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ»([15] [16] [17] [18] ) و قد تكون بمعنی التنجیز كما یستفاد ذلك من السیرة العقلائیة و لا إشكال في الجمع بینها، فإنّ الحجّیة في خبر الواحد تفید هذه المعاني فإنّ المستفاد من بعض أدلّة حجّیة خبر الواحد هو أنّ مفاد الخبر یكون طریقاً تامّاً تعبّدیاً. و ببیان آخر یكون علماً تعبّدیاً أو وصولاً تعبّدیاً إلى الواقع و هذا هو المستفاد من الأدلّة التي تدلّ على الحجّیة بمعنی تتمیم الكشف و أیضاً المستفاد من بعض تلك الأدلّة هو أنّ الشارع قد اعتبر في عالم الاعتبارات الشرعیة حكماً ظاهریاً مماثلاً، و بعبارة أخری معنی حجّیة خبر الواحد جعل الحكم المماثل، و هذا الحكم المماثل الذي دلّ علیه خبر الواحد كان طریقاً ناقصاً إلى الحكم الواقعي.
و الجمع بین الحجّیة بمعنی تتمیم الكشف و الحجّیة بمعنی جعل الحكم المماثل هو أنّ الحكم المماثل المجعول شرعاً كان طریقاً ناقصاً و لكن الشارع اعتبره طریقاً تامّاً و علماً تعبّدیاً و وصولاً إلى الواقع.
ثم إنّ المستفاد من بعض أدلّة حجّیة خبر الواحد هو التنجیز و التعذیر فقط كما أنّ بناء العقلاء و سیرتهم یدلّ على أنّ خبر الواحد -مضافاً إلى تتمیم كشفه و جعل الحكم المماثل على طبق مؤدّاه- یكون منجّزاً للواقع أو معذّراً عنه.
و هذا البحث نظیر ما تقدّم([19] ) في حجّیة خبر الواحد من أنّ موضوع الحجّیة على ما یستفاد من بعض الأدلّة هو خبر الثقة و على ما یستفاد من بعضها الآخر هو الخبر الموثوق به و مقتضی الجمع بینهما هو القول بحجّیة خبر الثقة و الخبر الموثوق به و لا منافاة بینهما و لا إشكال في الجمع بین القولین بل مقتضی التحقیق هو الأخذ بجمیع الأدلّة و لا وجه للأخذ ببعض الأدلّة و القول بحجّیة خبر الثقة فقط كما ذهب إلیه المحقّق الخوئي أو الأخذ ببعضها الآخر و القول بحجّیة الخبر الموثوق به كما ذهب إلیه المشهور و منهم الشیخ العلامة الأنصاري، و لهذا المبنی آثار مهمّة علمیة و عملیة في الفقه، حیث أنّه لابدّ أن یعدّ ذلك من أهمّ المباحث الأصولیة.
نعم سنشیر([20] ) إلى معنی الحجّیة في الأصول المحرزة و غیر المحرزة إن شاء الله تعالى ضمن المباحث الآتیة.
الوجه الثالث
قال المحقق النائيني: «الأمارة إنّما یكون اعتبارها من حیث كشفها و حكایتها عمّا تؤدّي إلیه، بمعنی أنّ الشارع لاحظ جهة كشفها في مقام اعتبارها، فإن ألغی الشارع جهة كشفها و اعتبرها أصلاً عملیاً فلایترتّب علیها ما یترتّب على الأمارات، بل یكون حكمها حكم الأصول العملیة، كما لایبعد أن تكون قاعدة التجاوز و أصالة الصحّة بل الاستصحاب في وجه من هذا القبیل، فإنّ في هذه الأصول جهة الكاشفیة و الأماریة، و لكن الشارع اعتبرها أصولاً عملیة»([21] [22] ).
هذا ما أفاده المحقّق النائیني من الوجه الثالث و سیجيء الكلام حوله إن شاء الله تعالى.