45/03/11
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: كتاب الخمس/ارباح المكاسب /مسألة61: الخمس بعد المئونة
الخمس بعد المؤونة
قال صاحب العروة:
المسألة 61 : المراد بالمؤونة مضافاً إلى ما يصرف في تحصيل الربح [هو] ما يحتاج إليه لنفسه و عياله في معاشه بحسب شأنه اللائق بحاله في العادة من المأكل و الملبس و المسكن و ما يحتاج إليه لصدقاته و زياراته و هداياه و جوائزه و أضيافه و الحقوق اللازمة له بنذر أو كفارة أو أداء دين- أو أرش جناية أو غرامة ما أتلفه عمداً أو خطأً و كذا ما يحتاج إليه من دابة أو جارية أو عبد أو أسباب أو ظرف أو فرش أو كتب بل و ما يحتاج إليه لتزويج أولاده أو ختانهم و نحو ذلك مثل ما يحتاج إليه في المرض و في موت أولاده أو عياله إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في معاشه و لو زاد على ما يليق بحاله مما يعدّ سفهاً و سرفاً بالنسبة إليه لا يحسب منها.
توضیح ذلك:
المطلب الأوّل: المعنى اللغوي للمؤونة
قبل البحث عن المؤونة نشیر إلی معناها اللغوي و المتفاهم العرفي منها:
المعنی الأول: التعب و الشدة
قال الجوهري في الصحاح: المَؤُونَةُ تُهْمَزُ و لا تُهْمَزُ ، وَ هِيَ فَعُولَةٌ. وقال الفراء: قالَ الفرَّاءُ: هي مَفْعَلةٌ مِن الأَيْنِ، و هو التَّعَبُ و الشدَّةُ[1] .[2]
و الظاهر أنّ هذا المعنی من لوازم المؤونة، لأنّ تهیئة المؤونة مُتعبٌ غالباً، فالتعب لیس صفة لنفس المؤونة بل هو صفة لإیجادها و القیام بها و في هذا المعنی إیماء إلی معنی الثقل أیضاً.
المعنی الثاني: الثقل
قال الجوهري في الصحاح: ويقال:[3] هي مَفْعُلَةٌ من الأَوْنِ و هو الخُرْجُ[4] و العِدْلُ ، لأنَّها ثِقْلٌ على الإنْسانِ.[5] [6]
في المصباح: الْمَؤُونَةُ: الثِّقْل.[7]
و الظاهر هو أنّ الثقل هنا أطلق علی نفس المؤونة، و الثقل تارةً یستعمل بعنوان الإسم لما یحمل و أخری بعنوان صفته في قبال الخفّة، و المستفاد من عبارة الجوهري إطلاقه من باب أنّه صفةٌ للمؤونة و المستفاد من مصباح الفیومي أنّه من باب الإسم للمؤونة.
و المراد هنا من الثقل ما یَحمله المرء علی عاتقه و یُهَیِّؤُه لمعیشته، کالخُرج الذي تحمله الدابّة.
المعنی الثالث: القوت
في لسان العرب: المَؤُونة: القُوتُ. [8]
و هذا المعنی أخصّ من معنی المؤونة، لأنّ القوت لا یشمل بعض مصادیق المؤونة، مثل الدار و المرکب.
المعنی الرابع: ما یقام علیه لحوائج الناس
في لسان العرب: مأَنَ القومَ و مانهم: قام عليهم ... [9]
و هذا المعنی قریبٌ من تفسیر المؤونة بما هو ثقل الحیاة.
المعنی الخامس: ما یُهیّأ و یُعدّ و یُعمل للإنسان
الفرّاء: أَتاني و ما مأَنْتُ مأْنَةً؛ أَي: من غير أَن تهيَّأْتُ و لا أَعدَدْتُ و لا عَمِلْتُ فيه، و نحو ذلك قال أَبو منصور.[10]
المعنی السادس: ما ینفقه علی نفسه و عیاله
صاحب الجواهر : «و إيكال المؤونة و العيال إلى العرف أولى من التعرض لبيانهما و تفصيلهما، و إن قال في المسالك و الروضة و تبعه عليه غيره: المراد بالمئونة هنا ما ينفقه على نفسه و عياله ... (إلى قوله) و ما يشتريه لنفسه من دابة و أمة و ثوب و نحوها ...».[11]
صاحب فقه الصادق: ان المئونة من الالفاظ المبينة عند العرف و لا إجمال فيها، و هي عبارة عما ينفقه في معاشه بالفعل.[12]
المعنی السابع: ما یحتاج إلیه
قال المحقق الحکیم: لفظ المؤونة - كسائر الألفاظ المذكورة في الكتاب و السنة - يرجع في تحديد مفهومها إلى العرف. و الظاهر منها مطلق ما يحتاج اليه عرفاً في جلب المحبوب أو دفع المكروه.[13]
و قد فصّله المحقق الخوئي فقال: أمّا بالنسبة إلى ما يصرفه في معاش نفسه و عائلته فما ذكره (قدس سره) من التفصيل بين ما كان بحسب شأنه و ما يليق بحاله في العادة و بين غيره هو الصحيح، فإنّ كلمة المئونة الواردة في الأدلّة التي هي كما عرفت بمعنى: ما يحتاج إليه الإنسان إمّا لجلب المنفعة أو لدفع الضرر منصرفة كسائر الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة إلى المتعارف، بحيث يصدق عرفاً أنّه محتاج إليه بحسب شؤونه اللّائقة به لنفسه و لمن ينتمي إليه، و لأجله يختلف تشخيصه باختلاف الشؤون و الاعتبارات، فربّ مصرف يكون مناسباً لشأن أحد دون غيره بحيث يعدّ إسرافاً في حقّه، فيستثنى بالإضافة إلى الأوّل دون الآخر.
هذا كلّه في الأُمور الدنيويّة.
و أمّا بالإضافة إلى العبادات و الأُمور القربيّة من صدقة أو زيارة أو بناء مسجد أو حجّ مندوب أو عمرة و نحو ذلك من سائر الخيرات و المبرات، فظاهر عبارة المتن و صريح غيره جريان التفصيل المزبور فيه أيضاً، فيلاحظ مناسبة الشأن، فمن كان من شأنه هذه الأُمور تستثني و تعدّ من المؤن، و إلّا فلا.
و لكن الظاهر عدم صحّة التفصيل هنا، فإنّ شأن كلّ مسلم التصدِّي للمستحبّات الشرعيّة و القيام بالأفعال القربيّة، امتثالاً لأمره تعالى و ابتغاءً لمرضاته و طلباً لجنّته، و كلّ أحد يحتاج إلى ثوابه و يفتقر إلى رضوانه، فهو يناسب الجميع، و لا معنى للتفكيك بجعله مناسباً لشأن مسلم دون آخر، فلو صرف أحد جميع وارداته بعد إعاشة نفسه و عائلته في سبيل اللّٰه ذخراً لآخرته و لينتفع به بعد موته كان ذلك من الصرف في المئونة، لاحتياج الكلّ إلى الجنّة، و لا يعدّ ذلك من الإسراف أو التبذير بوجه بعد أمر الشارع المقدّس بذلك، و كيف يعدّ الصرف في الصدقة أو العمرة و لو في كلّ شهر أو زيارة الحسين (عليه السلام) كلّ ليلة جمعة أو في زياراته المخصوصة من التفريط و الخروج عن الشأن بعد حثّ الشريعة المقدّسة المسلمين عليها حثّا بليغاً؟! فالإنصاف أنّ كلّ ما يصرف في هذا السبيل فهو من المؤن قلّ أم كثر. و التفصيل المزبور خاصّ بالأُمور الدنيويّة حسبما عرفت. [14]
المعنی الثامن: النفقة الّتي تصرف و تبید
قال المحقق الميلاني: المؤونة - على ما يفهم من اللغة - ما ينفقه المرء في ما يرومه. و النفقة هي التي تصرف و تبيد. ثم إنها على قسمين: أحدهما: ما هو مقدمة للاسترباح من الغرامات التي تصرف لأجله، كأجرة المحلّ، و أجرة الصانع و الدلاّل، و غير ذلك. ثانيهما - ما كان الاسترباح مقدمة له من النفقات التي تصرف لأجل المعاش و غير ذلك.[15]
و قال في موضع: المئونة هي النفقة التي تتحقق في الخارج و تصرف في الحوائج و المآرب، أي ما هي تكون مؤنة بالفعل لا بالقوّة و الشأنية. و الدليل على ذلك هو أن المئونة و إن كانت لفظا جامدا، لكن تتضمن معنى الوصفية، و كل وصف ظاهر في الفعلية. [16]
تنبیهٌ: اختلاف الأعلام في تقیید المؤونة بالصرف أو عدمه
النظریة الأولی: إطلاق المؤونة من جهة صرفها
إنّ الأعلام اختلفوا في ذلک و اختار کثیر منهم عدم التقیید فأطلقوا عباراتهم من غیر تقیید المؤونة بصرفها و قد نقل المحقق السید عبد الهادي المیلاني عن الشهيدين الحكم بأن ما أَسرف فعليه، و ما قتّر فله، حيث يستفاد من ذلك أن المستثنى هو مقدار المئونة الاقتصادية و إن لم يصرفها.
النظریة الثانیة: تقیید المؤونة بصرفها في سنة الاسترباح
قد اختار کثیر من أعاظم العصر لزوم التقیید و أفتوا بوجوب الخمس لمن لا یصرفه.
إیراد المحقق المیلاني علی النظریة الأولی عن الشهیدین:
يشكل ذلك بأن ذلك يتوقف على تقدير، و على الأخذ بالإطلاق؛ أي تقدير لفظ المقدار و إطلاق المئونة من حيث كونها بالفعل و بالقوّة، و كلاهما خلاف الظاهر. بل لو سلّم الأول بتقريب أن ما يعدّ و يدّخر لأجل المعاش يسمى مؤنة، يكون المعنى مقدار المئونة التي تصرف و تنفق في الخارج و تبيد، لا ما يبقى و لا يصرف في مدار السنة.[17]
ملاحظتنا علی إیراد المحقق المیلاني:
لم نجد في اللغة و لا في استعمالات العرف ظهوراً في تقیید المؤونة الصرف حتّی تبید، فإنّ المؤونة الفعلیة قد لا تبید أصلاً مثل الدار و قد تبید و لکن إطلاق المؤونة الفعلیة علیه لا یتوقف علی إبادته و استهلاکه، بل إذا احتاج إلی صرف شیءٍ في زمان لاحق و لکن لابدّ الآن من تهیئته عند العرف، مثل جهاز البنت فهذا یعدّ من المؤونة الفعلیة و إن لم یصرف.
نتیجة البحث:
أن الأقوال في تفسير المؤونة متقاربة إلّا أنه يمكن أن نفسر المؤونة بـ (ما يُحتاج إليه في المعيشة) فيكون بعض المعاني لازماً له، لأن تهيئة ما يحتاج إليه فيه تعب و مشقة و لو قليلاً و هو ثقل على عاتق من يتكلّف تهيئتها.
و أمّا المؤونة بالمعنى الثالث –و هو القوت- فهو أخص مصداقاً و هو صحيح في بعض الاستعمالات و لكن لا يمكن أن يكون المعنى الحقيقي لصحة حمل المؤونة على غير المأكل و المشرب و عدم صحة سلبها عنه.
و المعنى الثامن قد أضيف فيه قيد (الصرف و الاستهلاك) و لم نجده في كلمات اللغويين و لا في استعمالات أهل اللغة و منها استعمال هذه اللفظة في الروايات و سائر استعمالاتها.
فتعيّن أن يكون المعنى الحقيقي الصحيح للفظة (مؤونة) هو: ما يحتاج إليه في معاشه الذي لازمه التعب و لو يسيراً و هو ثقل الحیاة و المعیشة و غالباً یثقل علی الناس لسعيهم لتهيئته و لو من جهة قبول المسؤولية.
تکملة في اشتقاق کلمة المؤونة:
في العين: الْمَؤُونَةُ: فعولة من مانَهم يَمُونُهم، أي: يتكلَّف مؤونتهم. و الْمَائِنَةُ: اسم ما يمون، أي: يتكلف من المؤونة.[18]
ذکر الجوهري ثلاثة وجوه لاشتقاقه: [1] المَؤُونَةُ تُهْمَزُ و لا تُهْمَزُ ، وَ هِيَ فَعُولَةٌ. [2] وقال الفراء: قالَ الفرَّاءُ: هي مَفْعَلةٌ مِن الأَيْنِ، و هو التَّعَبُ و الشدَّةُ. [3] و يقال[هو المازني كما في اللسان]: هي مَفْعُلَةٌ من الأَوْنِ و هو الخُرْجُ. قال الخليل: و لو كانَ مَفْعُلة لكانَ مَئِينةً مِثْلَ مَعِيشةٍ. و عنْدَ الأَخْفَش يَجوزُ أنْ تكونَ مَفْعُلة.[19]