الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/11/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة الإلزام:

الطائفة الثانية من الروايات:

قلنا فيما سبق بأن الروايات التي يمكن أن الاستدلال بها على قاعدة الإلزام على أصناف والصنف الأول ما ورد في باب الطلاق، وهو على طائفتين أو ثلاث طوائف.

الطائفة الأولى: ما فيه مادة الإلزام، أو نقول هي ما فيها معنى صريح في الإلزام كالروايات التي ذكرناها سابقاً.

الطائفة الثانية: فيها مادة الإلزام ولكن لا بمعنى الإلزام، ففي الطائفة الأولى (ألزمته) أو (ألزموهم) والثانية فيها مادة الإلزام وليس فيها هيئة الإلزام، هذ إما أن نعتبرها في ضمن الطائفة ونقول هي ما كان فيها مادة الإلزام، أو نعتبرها طائفة مستقلة عن تلك باعتبار أن فيها مادة الإلزام ولكن ليس فيها هيئة الإلزام.

على كل حال هذه الطائفة أيضاً تشتمل على روايات:

الرواية الأولى: ما رواها الشيخ الصدوق (ره) وعن أبيه عن الحسين بن أحمد المالكي في بعض كتب الشيخ الصدوق الحسين بن أحمد المالكي وفي بعضها الحسن بن أحمد المالكي، عن عبد الله بن طاووس قال: (قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن لي ابن أخ زوجته ابنتي وهو يشرب الشراب ويُكثر ذكر الطلاق، قال: فإن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فأبنها منه، فإنه عنى الفراق، قلت: أليس قد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إياكم والمطلقات ثلاثاً في مجلس فإنهن ذوات الأزواج، فقال: ذلك من إخوانكم لا من هؤلاء، إنه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم)

البحث هنا في هذه الرواية أيضاً يقع في جهتين: الجهة السندية وجهة الدلالة.

الجهة الأولى: من حيث السند، عندنا إشكال في الحسين بن أحمد المالكي وفي عبد الله بن طاووس، الحسين بن أحمد المالكي لم تثبت وثاقته، وكذلك عبد الله بن طاووس، طبعاً كما قلنا الحسين بن أحمد المالكي في نسخة ثانية أو في بعض كتب الشيخ الصدوق الحسن بن أحمد المالكي، وهو لعله الأقرب مع ملاحظة ما في رواية الكشي وأيضاً مراجعة بعض كتب الرجال أن الراوي هو الحسن لا الحسين بن أحمد المالكي.

والكشي أيضاً رواها من كتاب محمد بن الحسن بن بندار بخطه حدثني الحسن بن أحمد المالكي عن عبد الله بن طاووس، ابن بندار أكثر الكشي الرواية عنه فيستظهر أنه كان يعتمد عليه، ويعتمد على ما وجده بخطه، هذا في سند الكشي، وما بعد ابن بندار يتفقون الشيخ الصدوق عن أبيه والكشي عن محمد بن الحسن بن بندار، يتفقون في الحسن أو الحسين ابن أحمد المالكي، المهم لم يظهر له توثيق، وعده الشيخ من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام.

والشيخ البلاغي (ره) نقل عن الوحيد البهبهاني في تعليقته، قيل إنه الحسن بن مالك الأشعري القمي الثقة، موجود عندنا في هذا السند الحسن بن أحمد المالكي، قيل هذا هو الحسن بن أحمد بن مالك الأحوص الأشعري، فنسب إلى جده، فقيل إنه هو وهو ثقة، نسبة إلى جدهم مالك بن الأحوص الأشعري، إن تم هذا القول فهو ثقة، وإذا لم يتم فلم تثبت وثاقته.

ومن خلال التتبع لم نرى وجهاً واضحاً يبين أن الحسن بن أحمد المالكي هو نفسه الحسن بن مالك الأشعري القمي، يحتاج إلى تأمل وتتبع أكثر، وحتى الوحيد البهبهاني لم يقل هو الحسن بن مالك وإنما قال: قيل إنه الحسن بن مالك، فهذه دعوى لا شاهد واضح لها.

وأما بالنسبة إلى عبد الله بن طاووس الذي يروي عنه الحسن بن أحمد فالشيخ (ره) ذكره في أصحاب الإمام الرضا عليه السلام، والعلامة الحلي (ره) ذكره في القسم الأول من الخلاصة، والقسم الأول من الخلاصة أعده للموثقين، وقال العلامة في الخلاصة: (لم أظفر له على تعديل ظاهر ولا على جرح، بل على ما يترجح به أنه من الشيعة) هذه العبارة من الخلاصة تشير إلى علة جعله في ضمن القسم الأول، ولعلها أيضاً تشير إلى علة حكم العلامة بالوثاقة وإن لم يصرح بالوثاقة، ولكن تشير إلى أنه يراه ثقة، والعلة في ذلك: الذي يظهر هو أصالة العدالة، المنسوب إلى العلامة الحلي ربما يوثق أشخاص بناء على أصالة العدالة، والمراد منها هي أن الراوي الشيعي المؤمن إذا لم يرد في حقه توثيق صريح ولم يرد في حقه جرح هنا يبنى على أصالة العدالة في المؤمن ويحكم بعدالته ووثاقته.

هذه العبارة من العلامة لما قال: (لم أظفر له على تعديل ظاهر ولا على جرح، بل على ما يترجح به أنه من الشيعة) يظهر منها أنه بناء على أصالة العدالة يُحكم بعدالته، ولهذا جعله في ضمن القسم الأول.

أما ترجح أنه من الشيعة، فيظهر من هذا الرواية حتى لو هو الذي رواها، لأن هذه الرواية بحسب نقله، (قال الإمام عليه السلام: إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فأبنها منه) فواضح أنه من الشيعة، ولكن أصل القاعدة فيها بحث، وذكرناه في بعض البحوث السابقة.

وحاصله: أنه لم تثبت هذه القاعدة، بل حتى نسبة خذه القاعدة إلى العلّامة لم تظهر، يعني ما نُسب إلى العلامة أنه يوثق بناء ً على أصالة العدالة فيمكن أن يظهر من خلال هذا التعبير، ولكن في موارد أخرى نلاحظ أنه لم يستند إلى أصالة العدالة.

أما من حيث الكبرى فالقاعدة أيضاً غير تامة، يعني بمجرد أننا نعرف أنه شيعي إمامي فنحكم بأصالة العدالة، هذا لا مستند له واضح، ولا دليل عليه، فلم تتم هذه القاعدة، إذاً توثيقه بناء على قاعدة أصالة العدالة غير تام.

في المستدرك صاحب مستدرك الوسائل النوري (ره) قال في خاتمة المستدرك المجلد الثامن صفحة 163، قال في ترجمة عبد الله بن طاووس، عده في البلغة والوجيزة من الممدوحين، وفي الكشي ما روى فيه عبد الله بن طاووس وكان عمره 100 سنة وكان من أصحاب الرضا عليه السلام، وجدث في كتاب الحسن بن بندار القمي بخطه، حدثني الحسن بن أحمد المالكي قال: ... وساق السند وذكر ابن طاووس قال: هو حدد فيه حدثني عبد الله بن طاووس في سنة 238، وذكر هذه الرواية التي افتتحنا بها الكلام وأضاف فيها بعد قوله: لزمته أحكامهم، قال: قلت له إن يحيى بن خالد سمَّ أباك موسى بن جعفر صلوات الله عليهما، قال: نعم سمَّه في ثلاثين رطبة، قلت: فما كان يعلم أنها مسمومة، قال غاب عنه المحدث، قلت ومن المحدث، قال: ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثم مع الأئمة عليهم السلام، ثم قال: إنك ستعمر، فعاش 100 سنة، ثم قال المحدث النوري: (وظاهر العنوان وذيل الخبر صحته ووقوع ما أخبره عليه السلام به وهو دال على تشيعه وسلامته بل قابليته لتحمل أسرارهم)

فالمحدث النوري من خلال هذا الخبر يقول: ذيل الخبر صحيح على أن هذا الرجل عاش 100 سنة كما هو أخبر عن الإمام فوقع كما أخبر الإمام، فيدل أولاً على تشيعه وسلامة دينة بل وقابليته لتحمل أسرارهم، بحيث سأل الإمام عليه السلام عن شهادة الإمام الكاظم عليه السلام بالسم فأخبره الإمام ثم أخبره بخبر المحدث، وهذا كأنه يستفيد منه النوري بأنه قابل لتحمل أسرارهم، فيدل على منزلة معينة.

إن قلنا بهذا الكلام فبها، وإلا فهذا المقدار لا يمكن الاطمئنان إليه لثبوت وثاقته بهذا النحو فقط، والرواية مروية عنه، على كل تقدير الرواية من حيث السند ضعيفة لا أقل بالحسن أو الحسين بن أحمد المالكي الذي لم تثبت وثاقته.

أما من حيث الدلالة: فالرواية ذيلها هكذا وهو محل الشاهد، (فقال: ذلك من إخوانكم لا من هؤلاء إنه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم) فهنا (لزمته) لو نظرنا إليها لقلنا أنها أجنبية عن قاعدة الإلزام، لأننا نريد في قاعدة الإلزام أن نلزم الطرف المقابل بما فيه مصلحتنا إذا كان يدين بحكم وهذا الحكم ليس في صالحه فعلاً وفي صالحنا فنلزمه به، مضمون ألزموهم، هذه الرواية تقول لزمته أحكامهم، وهي هنا يمكن أن تُحمل ما يعبر عنه بقاعدة الإقرار أن يقر على الحكم الذي هم يعترفون ويعملون به، وسيأتي التعرض للفرق بين قاعدة الإلزام وبين قاعدة الإقرار، فهنا من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم، ربما تشير إلى تلك القاعدة، ولا ربط له بالإلزام، ولكن هذا المعنى (لزمته أحكامهم) وإن كان صحيحاً في حد نفسه، ولكن الرواية من خلالها نستفيد أنه إلزام، فالإمام عليه السلام قال: إن كان من إخوانك فلا شيء عليه وإن كان من هؤلاء فأبنها منه فإنه عنى الفراق، ثم سأله أليس قد روي عن أبي عبد الله عليه السلام إياكم والمطلقات ثلاثاً في المجلس فإنهن ذوات الأزواج فهذه في مجلس واحد يعني من ذوات الأزواج، فقال: ذلك من إخوانكم، فلو صار طلاق ثلاث من إخوانكم فهذا لا تجري عليه أحكام الإلزام فتبقى ذات زوج، لا من هؤلاء فإنه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم، فيمكن من خلال ذلك يستفاد أنه أيضاً فيها إلزام، إن لم نقل نفس (لزمته أحكامهم) لا يمنع من الدلالة على نفس الإلزام فيطلق على من يراد أن نلزمه بحكمه.

فإذا استفدنا هذا المعنى منع يمكن أن نستفيد الإطلاق أو التعميم يعني لا يختص بباب الطلاق، فإنها وإن وردت في باب الطلاق ولكن واضح أن الإمام عليه السلام طبق كبرى على هذا الموضع، وهذا الذيل من دان بدين قوم لزمته أحكامهم فهذه قاعدة كلية وتنطبق على كل الموارد، ولكن الإشكال أنها لم تثبت سنداً فإنها لو ثبتت سنداً فمن هذه الناحية يمكن القول بعمومها.

الرواية الثانية: نفس المضمون ولكن رواها الشيخ الصدوق (ره) مرسلة، ولعل هذه الرواية رواها مرة مرسلة ومرة نفسها أو غيرها غير مرسلة، الذي رواه الشيخ الصدوق في الفقيه، (وقال عليه السلام: من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم) روى فقط هذه الجملة التي رويت في تلك الرواية في ذيل روايات أخرى أو في ضمنها، فهي مرسلة، والشيخ الطوسي (ره) في ميراث المجوس في كتاب الاستبصار بعد أن ذكر الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال (وقد روي أنه قال عليه السلام: إن كل قوم دانوا بدين يلزمهم حكمه) ولعله يشير إلى ما رواه الشيخ الصدوق عندما قال وقال.

على كلٍ رواية الشيخ الصدوق مرسلة، ولكن باعتبار أنها مرسلة بعنوان (قال) فيأتي فيها البحث الرجالي الذي ذُكر في الرجال وتعرضنا له أيضاً في بعض البحوث السابقة ولا نعيد ولكن ملخصاً.

هناك من الأعلام الكبار ومن جملتهم السيد الخوئي (ره) في دوراته السابقة كما في الدراسات يقولون: بأن الشيخ الصدوق (ره) إذا عبّر (قال) ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله أو إلى الإمام المعصوم فهذه الرواية معتبرة، لأن الشيخ الصدوق إنما قال (قال) بنحو الجزم لأن عنده طريقاً صحيحاً إلى الرواية ولو لم يكن عنده طريق صحيح لها لم يعبر (قال) بلا يعبر (روي) ولهذا فرقوا بين قول الشيخ الصدوق (قال) وبين قوله (روي) فالتي بعنوان روي تكون مرسلة والتي بعنوان قال فهي حجة ويستندون إليها، هذا حاصل الكلام.

وآخرون من الأعلام ومنهم السيد الخوئي (ره) في دوراته الأخيرة رجع عن هذا الرأي وكما في المصباح وفي معجم الرجال، وأن الشيخ الصدوق عندما يقول (قال) لا يدل على أنه عنده طريق صحيح غايته أنه يطمأن بثبوت هذا الخبر ربما لوجود طريق صحيح عنده وربما لوجود قرائن وهذه القرائن ربما لو وصلت إلينا لا تفيدنا الوثوق، فقول الشيخ الصدوق (قال) وإن كان جازماً به ولكن جزمه أعم من أن يكون هناك طريق صحيح موثق حتى عندنا بل ربما يكون اعتماده على قرائن أفادته الوثوق فربما لو وصلت إلينا لا تفيدنا الوثوق، فلا فرق بين قوله (قال) وبين قوله (روي) لا فرق بينهما من هذه الناحية فهي رواية مرسلة.

ونضيف إلى ذلك أن الشيخ الصدوق ربما يعبر في مورد أو في كتاب من كتبه بعنوان قال، وفي كتاب آخر نفس الرواية يعبر فيها بروي، إذاً لا ضابطة واضحة بحيث نقول: إذا قال الشيخ الصدوق (قال الإمام عليه السلام ) يعني عنده طريق صحيح، وإذا قال (روي) يعني لم يثبت عنده طريق صحيح، هذه القاعدة لا تتم، يعني مخدوشة حتى عندما نلاحظ كلمات الشيخ الصدوق بغض النظر عن الإشكال الذي ذكرناه عن السيد الخوئي (ره) وهو متين، نقول: نفس الشيخ الصدوق لم يلتزم بهذه القاعدة، لأنه في بعض الموارد عبر بقال وفي كتاب آخر عبر بروي والرواية واحدة، فهذا دليل على أنه لم يلتزم بهذه القاعدة.

فإذاً هذه الرواية تبقى أنها مرسلة ولا يمكن الاستناد إليها، والشيخ الصدوق أيضاً عنده هذه الرواية بسند كما في الوسائل (وقال عليه السلام: من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامه) ذيل صاحب الوسائل، محمد بن علي بن الحسين في عيون الأخبار ومعاني الأخبار والعلل عن محمد بن علي ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن جعفر بن محمد الأشعري عن أبيه عن الرضا عليه السلام، مثله، فإذاً هنا الشيخ الصدوق عنده سن إلى هذه الرواية، وفي هذا السند أيضاً كلام طويل سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.