الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/11/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة الإلزام:

مناقشة الرواية الثالثة:

كان الكلام في الرواية الثالثة وهي رواية عبد الأعلى آل أعين، وهي هكذا، قال: (سألته عن الرجل يطلق امرأته ثلاثاً قال: إن كان مستخفاً بالطلاق ألزمته ذلك) كما في رواية التهذيب، وفي رواية الاستبصار (ألزمته بذلك) الفارق وجود الباء.

وقلنا من ناحية السند الرواية معتبرة، وأما من ناحية الدلالة فالذي يظهر منها أن المراد من قوله عليه السلام (إن كان مستخفاً بالطلاق) يعني العامة الذين يستخفون بالطلق بمعنى أنهم من حيث مذهبهم يرون هذا الطلاق وهو مخالف للشروط الصحيحة الذاتية، ومع المخالفة لها يعنبر فعله استخفاف بالطلاق، نفس فقههم ورأيهم يكون استخفافاً بالطلاق الذي شرعه الله تعالى، (إن كان مستخفاً بالطلاق ألزمته لك) فالإلزام هنا كأنه إشارة إلى ما ذُكر في قاعدة الإلزام وفي الرواية الأخرى وإن كانت الرواية الأخرى لم تكن معتبرة وهي (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) وهذا المعنى الذي ذكرناه قلنا بأنه غير واحد من الأعلام اختاره وذهب إليه ونقلنا عبارة الشيخ البلاغي (ره) واكن تعبيره هكذا: معنى مستخفاً بالطلاق (هو كونه يدين بخفة الطلاق على خلاف ما هو معتقد فيه من الشروط في ذاته) يعني على خلاف ما هو معتبر من الشروط في الطلاق في ذاته، (وفي وقوع الثلاث كما هو عند الجمهور، لا ما يستخف به في إكثاره له جامعاً للشروط) يعني من طلق كثيراً جامعاً للشروط لا يطلق عليه مستخفاً بالطلاق، فالمستخف بالطلاق هو من يراه خفيفاً من جهة الحكم الشرعي.

الحاصل: على هذا المعنى تكون هذه الرواية دليل على قاعدة الإلزام، ولكن تبقى أنها دليل في خصوص باب الطلاق، فلا نستفيد من ذلك الكبرى الكلية، إلا أن يقال مثلما ذكرنا في الرواية السابقة أن الأئمة عليهم السلام يتكلمون ويفتون الناس بأصول علم عندهم متوارث من النبي صلى الله عليه وآله، وأصول العلم كبريات والإمام عليه السلام طبق تلك الكبرى على المقام، فألزمته ذلك هنا طبق الإمام عليه السلام الكبرى الكلية والكبرى الكلية يستفاد منها قاعدة الإلزام وهذا المورد أحد تطبيقاتها ومصاديقها، فلا يكون هذا المورد مانعاً من الدلالة على العمومية، هذا إذا قلنا بهذه الجهة فيمكن أن نستفيد العموم، وهذا لعله بعدما ننتهي من استعراض الروايات كلٌ بحسبه إن شاء الله نعود للحديث في هذه الجهة.

هنا كلام لبعض الأعاظم (حفظه الله) لا بأس بذكره ونقله في الدلالة، وقد أطال في شرحه ونحاول أن نبين مع التوضيح.

قال: إنه يمكن أن يقال بأن مستخفاً بالطلاق المراد به من حيث العمل، يعني من لا يهتم عملاً بالطلاق ويطلق زوجته مراراً وتكراراً، وأما حيثية الديانة بخفة الطلاق التي ذكرها الشيخ البلاغي فلا تظهر من الرواية.

قبل إكمال بيان مراده، لعل هنا أساس الكلام في التكرار والاستهوان العملي في الطلاق الثلاث، فهناك بحث عند الفقهاء وهذا ربما نشير إليه في تطبيقات القاعدة إن شاء الله، وهو أنه إذا طلق ثلاثاً في مجلس واحد هل يبطل بالمرة أو يصح مرة؟ طبعاً عند العامة يقع الطلاق ويقع ثلاثاً، هل نحن الشيعة الإمامية نرى بأن هذه الصيغة أساساً باطلة إذا كان تام الشروط من الجهات الأخرى، أو صحيح، طبعاً عندنا لا يقع ثلاثاً هذا مفروغ منه عندنا، ولكن هل يقع الطلاق مرة واحدة أو لا يقع أصلاً؟

هنا طبعاً خلاف أنه لا يقع أصلاً أو يقع مرة واحدة، وأيضاً ربما يُفرَّق بين أن يقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وبين أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، وهذا الخلاف في التفريق بينهما أيضاً موجود عند العامة فعندهم إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق بعضهم ذهب إلى أنه لا تقع إلا مرة واحدة، بخلاف ما إذا قال أنت طالق ثلاثاً فتقع الطلقات الثلاث، هذا بحث إن شاء الله في تطبيقات القاعدة نتحدث عنه.

الغرض من بيان هذه الجهة أنه عندما يقول بعض الأعاظم: من لا يهتم عملاً بالطلاق ويطلق زوجته مراراً كأنه ناظر أن يطلق زوجته مراراً بهذه الصيغة أنت طالق ثلاثاً، لا أنه يطلق زوجته بالطلاق الشرعي الجامع للشرائط وحتى لو تكرر منه فلا يعد مستهيناً ومستخفاً بالطلاق، فلو طلق طلاقاً شرعياً جامعاً للشرائط ثم راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها ثم طلقها تكرر منه الطلاق، ولكن هل هذا يقال عنه مستخفاً بالطلاق؟ لا يقال عنه مستخفاً بالطلاق.

فالذي يظهر _وإن لم يصرح به في حديثه بهذه الجهة_ أن من لا يهتم عملاً بالطلاق ويطلق زوجته مراراً وتكراراً المقصود هكذا بأن يقول لها أنت طالق ثلاثاً بهذا النحو، فهو لا يهتم من الجهة العملية، باعتبار أن هذه الرواية وردت في مورد وردت فيه روايات كثيرة وتلك الروايات مصرحة بأن البينونة لا تحصل بطلاق الثلاث مطلقاً سواء كان مستخفاً أن لم يكن، وهذه الرواية قوله (إن كان مستخفاً بالطلاق ألزمته ذلك) لا بد من حمله على التقية، ويوضح هذه الجهة أكثر، يقول: بأن الإمام عليه السلام عندما قال: (إن كان مستخفاً بالطلاق ألزمته ذلك) يشير إلى الوضع والإلزام الذي فعله عمر، وهذا أشرنا إليه فيما سبق، وحاصله أن عمر هو الذي ألزم بنفوذ الطلاق ثلاثاً كما في روايات العامة، وتعرض إلى هذه الجهة صاحب الغدير (ره) في الجزء السادس وتعرض أيضاً لها السيد شرف الدين (ره) في كتابه النص والاجتهاد، وبينوا من الذي أسس هذا الأساس وكان في ذلك الوقت الصحابة كأنهم تهاونوا في الأمر وفي الطلاق ثلاثاً فأمضاه عليهم وألزمهم به، ثم جرت سنة القوم على نفوذ الطلاق ثلاثاً، وهذه الجهة أيضاً بحثها علماؤهم ومصنفوهم واعتبروا أنه رأي المصلحة في ذلك، يعني شرّع هذا الحكم لوجود مصلحة، وبعضهم ذهب بعيداً أن هذا يرتبط بالزمان والمكان، بما أن الزمان المصلحة فيه تقتضي أن ينفذ الطلاق الثلاث أنفذه عليهم، وهذه طبعاً تبريرات واضحة ولا نريد الخوض في هذه الجهة، ولكن هي تبريرات لفعل السابقين عليهم هم يعبرونها من المساحات التي يمكن أن يتدخل فيها الحاكم فيرى من المصلحة فيفتي طبقاً على هذه المصلحة، وهذا بحث آخر ولهذا أيضاً قد ينجر الحديث إلى سنة الصحابي التي يعتبرونها حجة ويأخذون بها، ولكن فعلاً لا نخوض في ذلك، على كلٍ عمر أمضى هذه الأمور وعنده تعبير يقارب هذا التعبير وهو تعليل وهو بما أنهم تهاونوا في ذلك فنمضيه عليهم تأديباً لهم، فكأن الإمام عليه السلام يشير إلى هذا الوضع الموجود عند العامة والحكم الذي جاء به عمر.

ونحن مأمورون بأن نعرف معاريض كلامهم عليهم السلام فلهذا نقول هذه المسألة وردت في هذا السياق وروايات من هذا القبيل والتي تشير إلى التقية، فمثلاً رواية (الحسن بن محمد بن سماعة عن فلان عن أبي العباس البقباق قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: ارو عني أن من طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فقد بانت منه)، فهنا الإمام عليه السلام حكم بالبينونة، بينما على القول بالوقوع عندنا يقع واحداً ولا تكون بائنة.

وتوضيح ذلك بشكل أكثر: نقول: إنه في الرواية يوجد عندنا احتمالان:

الاحتمال الأول: هو الذي يبتني عليه قاعدة الإلزام وهو المعنى الذي ذكرناه ونقلناه عن الشيخ البلاغي وغيره، وقلنا إن يكون الاستخفاف من الحكم الفقهي وليس من حيث العمل، فنتيجته إذا كان المطلق مخالفاً فيُلزم بما يعتقده.

الاحتمال الثاني: هو الذي جاء به بعض الأعاظم (حفظه الله) وهو أن يكون قوله عليه السلام (إن كان مستخفاً بالطلاق) معناه أن من يستخف بالطلاق عملاً حتى لو لم يكن رأيه الفقهي وقوع الطلاق ولكن لا يقع الطلاق بائناً ولكنه يستخف وسهل عليه أن يقول لزوجته أنت طالق، وعلى هذا الاحتمال لا تدل الرواية على قاعدة الإلزام، بل الإمام ألزم هذا القائل (من استخف بالطلاق) بالبينونة عقوبة له سواء كان شيعياً أو ليس شيعياً، فعلى هذا يكون المراد بالنسبة إلى الشيعة على نحو التقية لا على نحو الحقيقة.

إذاً هنا عندنا نقطة مهمة على احتمال أن يكون المراد هو الاستخفاف العملي، عملاً يقول لزوجته كثيراً أنت طالق ثلاثاً، هذا استخفاف عملي، وفي الاستخفاف العملي عقوبة وتأديباً يقول: ألزمته ذلك، هذا المعنى لا يرتبط بجهة الفقه وجهة الاعتقاد، فعليه: لا فرق بين الشيعي وبين غيره، يكون مشمولاً إلى هذه الجهة، فإذا كان مشمولاً نعلم بأن هذه الرواية صدرت تقية لأنه لا يكون عندنا هذا الطلاق طلاقاً بائناً، فعليه: تكون هذه الرواية صدرت تقية، فلا يستفاد منها الدلالة على الإلزام فضلاً عن قاعدة الإلزام، فإذا صدرت تقية فليس الإمام في مقام بيان حكمه الحقيقي، ولا يستفاد منها حتى إلزام هذا الشخص السني عندما يكون متهاوناً عملاً بهذا الطلاق فلا يكون شاملاً له لأنه أساساً صدرت تقية لا لبيان الحكم الشرعي، فإذا لا تدل على إلزامه فهي لا تدل على أصل قاعدة الإلزام بطريق أولى.

إذاً عندنا في الرواية احتمالان، الأول: هو الاستخفاف العقيدي أو الفقهي، والثاني: والاستخفاف العملي، على الأول تكون الرواية دالة على المطلوب ولا أقل في باب الطلاق، على الثاني لا تكون الرواية دالة على المطلوب من أساس.

أي الاحتمالين مقدم؟ يقول: إذا كنا نحن وظاهر الرواية فلا بد من حملها على الاحتمال الثاني، لأن مقتضى قاعدة التطابق بين اللفظ والواقع هو أن موضوع الإلزام وما يترتب عليه التالي عبارة عن نفس الاستخفاف، لا أن يكون كناية عما يتدين بالطلاق.

بمعنى أنه على المعنى الأول احتجنا أن نفسر كلمة (مستخفاً بالطلاق) على أنها كناية عن العامي لأنهم يستخفون بالطلاق فيكون استعمال مجازي، أما إذا قلنا (مستخفاً بالطلاق) يعني عملاً فهذا معنى حقيقي الذي عبر عنه قاعدة التطابق بين اللفظ والواقع، فإذاً إذا دار الأمر بينهما فالحمل على المعنى الحقيقي هو الأقرب إن لم يكن هو المتعين، فالحمل الثاني مجازي لا يُحمل عليه الكلام.

وكلمة (ألزمته ذلك) ظاهرة في نسبة الإلزام إلى نفسه، الإمام عليه السلام ينسب الإلزام لنفسه، أي بما أنه ولي الأمر يلزمه ذلك، ولم يقل حكمه الشرعي أنها بانت منه، وإنما يقول ألزمته ذلك، فإذاً ظاهر الرواية يناسب الاحتمال الثاني، وأما الاحتمال الأول فيحتاج إلى تأويل، طبعاً على هذا الاحتمال الثاني بأن صدور الرواية يكون تقية، حتى لا يقال: إذاً إذا استخف الشيعي بالطلاق بهذا النحو فتمضى عليه وتبين زوجته منه، وهذا لا نقول به، نقول: لا، إن الصادر من الإمام عليه السلام صادر تقية، وليس لبيان الحكم الوقعي، فعليه: الرواية لا تدل على المطلوب.

ويؤيد التقية، كون هذه الرواية وردت في سياق روايات في مضمون التقية، فالذي يظهر من وضع الإمام عليه السلام يعيش ظرفاً في حالة التقية وكأنه يريد أيضاً أن يظهر هذا المعنى منه، فلهذا رأينا رواية البقباق يقول: حدّث عني أن من طلق زوجته ثلاثاً فقد بانت منه، كأنه يريد أن يظهر منه هذا المعنى، أو رواية أخرى يُسأل الإمام عليه السلام عن الطلاق ثلاثاً فيقول: أما أبي فقد كان يراها واحدة وأنا اراها ثلاثاً، فيبين رأي فقهي له ورأي لأبيه عليه السلام، وهذا واضح أنه تقية.

فالحمل على التقية يكون هو الأقرب في الرواية بهذا المعنى الي ذكرناه، هذا تقريباً حاصل ما أفاده (حفظه الله) وبحثه مطولاً، ويأتي الكلام في التعليق عليه.