الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/11/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة الإلزام:

ذكرنا فيما سبق الروايتين المرويتين عن علي بن أبي حمزة، واستظهرنا وقربنا أنهما رواية واحدة ولكن إحداهما مقتطعة من الأخرى على حسب ما يظهر، وناقشنا في هاتين الروايتين سنداً ودلالة، وبينا من أنها من ناحية السند ضعيفة بعلي بن أبي حمزة لأن غاية ما يمكن أن يقال: أن تؤخذ بروايته أيام حسن حاله وقبل توقفه لا لأجل التوقف ولكن كما يظهر أنه ظهر عليه الكذب فيما بعد الوقف انتصاراً لوقفه، فما بعد وقفه لا يمكن الأخذ برواياته، فيؤخذ برواياته على أقل تقدير قبل الوقف، ويُعرف ذلك عادة من طريق من يروي عنه، لأن الطائفة كغيرهم من الناس إذا انحرف عنهم أحد وبذلوا جهدهم لإصلاحه ولم يرجع ينفرون منه، وهذه طبيعة البشر، لذلك نقول: الروايات التي رواها عنه المعروفون من أنهم من الإمامية الثابتين على الإمامة يمكن أن نقبل روايات علي بن أبي حمزة فيها.

ولا أقل من أن يُحتاط فيها، بمعنى أنه لو وردت رواية في حكم شرعي ويحتاج فيه إلى الاحتياط فحتى لو لم نقبل برواياته فلا أقل من أن نحتاط على طبقها، ولا نجري البراءة منها، بل ينبغي في مثل هذه الموارد الاحتياط.

أما ما نحن فيه، فهذه الرواية رواها الواقفة، الواقفي عن الواقفي عن علي بن أبي حمزة، فلا يمكن أن نتعرف عليها بأنها وردت في زمان ما قبل الوقف، ربما وردت فيما بعد الوقف، فلهذا الرواية لا يمكن الركون إليها، وبينا من حيث الدلالة لا يستفاد منها العموم لوجود كلمة (من ذلك) بل غاية ما يستفاد منها أنها قاعدة في خصوص باب الطلاق الذي هو محل السؤال والكلام والإشارة ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم.

من هذا الذي ذكرناه تظهر الخدشة فيها ذكره السيد البجنوردي (قده) في كتابه القواعد الفقهية، فإنه قال: (أما سند الرواية المشتملة على هذه الجملة فلا ينبغي البحث عنه لكمال الوثوق بصدورها عنهم عليهم السلام وتكررها في جملة من الموارد كمورد أخذ المال منهم بالتعصيب وأيضاً في مورد تزويج الزوجة المطلقة على غير السنة وغير ذلك مما تقدم، فالإنصاف أنه إذا ادعى أحد القطع بصدور هذا الكلام عنهم عليهم السلام ليس مجازفاً فيما يدعيه) هذا نص عبارته (قده).

وهذا سهو لا ينبغي صدوره من مثل هذا العلم، فإن أولاً ما ورد في التعصيب لفظ آخر كما سيأتي إن شاء الله، ولم ترد هذه الجملة في غير مورد الطلاق، وعن راوٍ واحد إما ضعيف أو مشكوك في ضعفه، بل لو ثبتت وثاقته لكانت روايته كرواية غيره من الثقاة لا تفيد القطع، فقوله لا ينبغي البحث عنه لكمال الوثوق بصدوره وتكررها في جملة من الموارد هذا لا ينبغي صدوره، لأنه لم ترد إلا في مورد الطلاق.

وقال أيضاً: (وأما ظاهر هذه الجملة ومعناها فهو عبارة عن أن المخالفين كل ما يرون أنفسهم ملزمين فيه من ناحية أحكامهم الدينية ويعتقدون أنه عليهم، سواء كان ذلك الشيء من الماليات أو من الحقوق أو من الاعتباريات الأخر كحصول الطلاق مثلاً أو غيره وإن لم يكن ذلك ثابتاً في أحكامهم الدينية فألزموهم بذلك)، هذا الذي أفاده من هذا التعميم من هذه الجملة من هذه الرواية نقول: لا شاهد عليه، لأن الرواية لا يمكن الأخذ بعمومها على حسب ما فصلناه، نعم: لو كانت الرواية مستقلة كالرواية الثانية لا يوجد فيها كلمة (من ذلك) وليس السؤال عن شيء هنا يمكن التعميم، ولكن قلنا هذه الجملة كما نستظهر أنها من الرواية الأولى التي فيها كلمة (من ذلك) وهي إشارة إلى باب الطلاق لأن السؤال عن المطلقات على غير السنة، فأيضا ًهذا التعميم بهذا العرض العريض غير ثابت من هذه الرواية على حسب ما ذكرنا.

ثم إن هاهنا يمكن أن يقال: بأن هذه الجملة (ألزموهم) بملاحظة ما ورد عنهم عليهم السلام من أنهم ما يقولونه من أحكام على وفق أصول علم يرثونها كابر عن كابر، فالحكم بزواج التزويج في هذه الرواية ليس إلا من جهة تطبيق تلك الكبرى على موردها من الصغرى وهي أي الكبرى قاعدة الإلزام، يعني السؤال وإن كان عن المطلقات على غير السنة ولكن بحسب الروايات الأخرى أنهم عليهم السلام يتكلمون ويفتون على مقتضى أصول علم يتوارثونها كابر عن كابر فنستفيد من الإمام لما قال ألزموهم من ذلك يعني طبق الكبرى على المورد وهي قاعدة الإلزام ومن ذلك نستفيد التعميم، لأن الإمام أعطانا كبرى وطبقها، وهذا القول إشارة إلى ما ورد عنهم عليهم السلام الذي رواه الصفار في بصائر الدرجات الباب الرابع عشر الحديث الأول (عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: يا جابر إنا لو كنّا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما يكنزها هؤلاء ذهبهم وفضتهم) فيشير هذا القائل على هذه الرواية، وإلى مثل رواية أخرى بنفس المضمون مثلاً ما يرويه النجاشي في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي عن أبيه قال: ( كنت مع الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر عليه السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر عليه السلام له مكرماً فاختلفا في شيء) _ والحكم بن عتيبة من قضاة وعلماء العامة_ (فقال أبو جعفر عليه السلام: يا بني قم فأخرج كتاب علي عليه السلام فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر عليه السلام: هذا خط علي عليه السلام وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة بن كهيل وأبو المقدام) _ ويظهر أنهما معهم في المجلس_ (حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل عليه السلام)

فالمهم هذا القول يستند إلى مثل هذه الروايات المروية عن أهل البيت عليهم السلام والتي مفادها أنهم يكنزون العلم كما يكنز الآخرون ذهبهم وفضهم وأنها أصول علم ومن هذا الباب، فيقول: بأن هذه الرواية الإمام عليه السلام طبق الكبرى الموجودة عندهم من أصول العلم على المورد فنستفيد إذاً كبرى لقاعدة الإلزام.

أجاب عن هذا بعض أعاظم العصر (حفظه الله) بقوله: بأن قوله عليه السلام (ألزموهم غير راجع إلى العامة بل الضمير راجع إلى أزواج المطلقات، إذ قوله هذا مسبوق بالسؤال عن المطلقة على غير السنة، والاستدلال متوقف على أن يكون الضمير راجعاً إلى العامة حتى تُتنزع الكبرى الكلية، (ألزموهم) هنا ضمير على العامة ككل أو على أزواج المطلقات؟ الاستدلال بالمتقدم بأنها كبرى وطبقها الإمام على الصغرى يتوقف على أن يكون الضمير راجعاً إلى العامة بينما الضمير راجع إلى أزواج المطلقات، فلا يستفاد منها كبرى كلية.

ثم أضاف وقوله عليه السلام (ألزموهم) استخدمه الإمام عليه السلام لأمر تأريخي فإن أول من أنفذ طلاق الثلاث هو عمر، وإنما أنفذ ذلك من جهة استخفاف الناس بالطلاق فألزمهم بما ألزموا به أنفسهم، كما في الغدير والنص والاجتهاد، فذكر الإمام عليه السلام هذه الجملة مقدمة للترخيص بما أن لها سبقاً تعريفياً وليس ذكره من باب الكبريات، هذا ما أفاده بعض أعاظم المعاصرين (حفظه الله) في الجواب عن الاستدلال المذكور.

وحاصل كلامه: أن الضمير الموجود في (ألزموهم) راجع إلى خصوص أزواج المطلقات لهذا لا يستفاد منها كبرى كلية، مضافاً إلى أن الإمام عليه السلام إنما استخدم هذه المكلمة لأمر تأريخي وهو أن الثاني لما رأى استهانة الناس بالطلاق الثلاث ألزمهم بما ألزموا به أنفسهم، يعني شرّع هذا الحكم وهو نفوذ الطلاق الثلاث تأديباً لهم، فعليه: لا يستفاد من كلام الإمام عليه السلام الكبرى الكلية وإنما مقدمة للترخيص بما أن لها سبقاً تأريخياً.

وفي هذا أولاً: لماذا خُصَّ مرجع الضمير بخصوص الأزواج مع عدم ذكر الأزواج في الرواية، الرواية عن المطلقات على غير السنة، ولم تذكر الأزواج، فكما يحتمل الرجوع إلى الأزواج من حيث إنهم أزواج يحتمل الرجوع إليهم من حيث كونهم من العامة الذين يرون هذا الرأي، كما يحتمل الرجوع إلى العامة بنحو مطلق القائلين بهذا الرأي، فعندنا إذاً في مرجع الضمير احتمالات ثلاثة، الاحتمال الأول الذي ذكره حفظه الله وهو أن المرجع خصوص أزواج المطلقات من حيث أنهم أزواج وأنهم طلقوا والتزموا بهذا الأمر، الاحتمال الثاني: الرجوع إلى أزواج المطلقات من حيث إنهم يرون هذا الرأي فقهياً، يختلف هذا عن الاحتمال الأول، فالأول غير ناظر إلى هذه الحيثية التعليلية بل ناظر إلى أنهم أزواج ألتزموا بالطلاق ثلاث فيقول ألزموهم، إذا كان المرجع هو هذا لا يأتي كلام المستدل وهو كبرى كلية طُبقت، الاحتمال الثاني أن الضمير يرجع إلى الأزواج لكن لا من حيث أنهم أزواج قاموا بعملية التطليق فقط ولكن من حيث أنهم أزواج ويرون هذا الرأي فقهياً، يعني هذا الزوج لا لأنه زوج والتزم بالطلاق ثلاثاً من عند نفسه، وإنما طلق ثلاثاً لأنه يلتزم به فقهياً، والاحتمال الثالث: أن الضمير يرجع إلى العامة مطلقاً لا خصوص أزواج المطلقات، ألزموهم بما الزموا به أنفسهم أو حتى ألزموهم من ذلك يعني ألزموا العامة من باب الطلاق ولكن يرجع الضمير إلى العامة، على التقديرين الأخيرين يأتي الاستدلال الذي ذكرناه للقائل، وأما على الاحتمال الأول الذي ذكره بعض الأعاظم لا يأتي الاستدلال، فالإشكال هنا أن الضمير يحتمل فيه ثلاثة احتمالات فلاذا خصصت الاحتمال الأول بالذكر دون الاحتمالين الآخرين، لا أقل أنه مردد يحتاج إلى قرينة، والقرينة التي ذكرها من السبق التاريخي سيأتي التعليق عليه، هذا أولاً.

ثانياً: السؤال كان عن المطلقة على غير السنة، وقد تقدم عندنا وبيّنا أن هذا مصطلح في الروايات عن مطلقات العامة على غير السنة، بدل أن يقول السائل ما تقولون فيمن طلقها المخالف على مذهبهم، عبر بالمطلقة على غير السنة فهذا مصطلح في الروايات وهو يشمل كل طلاق بدعي ولا يختص بمن طُلقت ثلاثاً، فالمطلقة في الحيض أو المطلقة بدون شهود أو غيرها كل هذه الموارد تكون طلاق على غير السنة، فالسؤال كان عن هذا فيكون الكلام عن العامة لا عن خصوص أزواج المطلقات ثلاثاً، فعليه نقول: بأنه لا يوجد عندنا ما يدل على أن السؤال عن خصوص المطلقات ثلاثاً وأن يكون الضمير لخصوص الأزواج، بل المستفاد مما ذكرناه أنه يعين المعنى الثالث ويحتمل الثاني وعلى كلا التقديرين لا يرد الإشكال.

تقول: إن هناك سبق تاريخي وهو ما فعله الثاني، هذا صحيح أنه موجود وأنه أول من ابتدع هذا الطلاق، ولكن هذه ناظرة إلى خصوص الطلاق ثلاثاً، يعني من طلق ثلاثاً في مجلس واحد هو أمضاه تأديباً لهم، وهذه الرواية على حسب ما ذكرناه ليست ناظرة إلى خصوص المطلقة ثلاثاً، بل تشمل المطلقة ثلاثاً وغيرها مما يدخل في عنوان المطلقة على غير السنة، فهذا الجواب غير تام.

ولكن مع ذلك نقول: بأنه ما ذكرناه لا يفيد المستدل، لأنه حتى لو سلمنا بأن هذه اللفظة ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، من أصول العلم التي يتوارثها الأئمة عليهم السلام، إلا أن غاية ما يستفاد منها أنها قاعدة خاصة في باب الطلاق ولا يستفاد منها قاعدة عامة، بل قاعدة خاصة في باب الطلاق، فلا تفيد المستدل، فالمستدل يريد أن تكون كبرى لا تختص بباب الطلاق ولكن الإمام طبقها على الطلاق، نقول: ظاهر الرواية بحسب ما ذكرناه أنها خاصة بباب الطلاق، فحتى لو كانت من أصول العلم ولكنها كبرى في باب الطلاق، كما يحصل في غيرها كما في قاعدة الطهارة فهي كبرى في باب الطهارة، هنا نفس الكلام في باب الطلاق، وقلنا موارد الطلاق على غير السنة متعدد حتى لو فُرض أن السؤال عن خصوص المطلقة ثلاثاً يمكن أن نستفيد القاعدة الكلية التي ذكرها ولكن في خصوص باب الطلاق.

فيتلخص من ذلك: أن هاتين الروايتين اللتين بدأنا بهما الكلام مناقشتان سنداً ودلالةً ولا يستفاد منهما الكبرى المطلوبة.