الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/11/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة الإلزام:

لا يخفى ما في القواعد الفقهية من الأهمية عند الفقيه، ولكن امتازت بعض القواعد عن غيرها في الاهتمام بها من قبل الأعلام فبحثوها بصورة مفصلة في الفقه أو الأصول، وقاعدة الإلزام التي نحن في صدد بحثها من القواعد المشهورة في الفقه الإمامي في الأعصار المتأخرة، وإن لم يكن عند المتقدمين ذكر لها بهذا العنوان، ولكن في الأعصار المتأخرة مشهورة عندهم ومعول عليها في مواضع من الفقه كما سنرى فيما سيأتي إن شاء الله، وقد أفردت في بعض الرسائل من قِبل الأعلام، والبحث فيها يقع في جهات:

الجهة الأولى: تعريف القاعدة.

الجهة الثانية: مدرك القاعدة.

الجهة الثالثة مفاد القاعدة وحدودها.

الجهة الرابعة: موارد تطبيقها في الفقه.

هذه الجهات الأربع الرئيسية التي يقع عليها البحث وربما تدخل بعض الجهات الأخرى ونتطرق لها في الضمن.

أما الجهة الأولى: وهي تعريف القاعدة: فتطلق قاعدة الإلزام ويراد بها ترتيب الآثار الوضعية على الأشخاص من غير الشيعة الإمامية، بما يعتقدونه ويدينونه هم، متى ما كان ذلك في غير صالحهم وفي صالح الشيعة وكان مخالفاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، سواء كان ذلك في الماليات أو في الحقوق أو الاعتباريات الأخر كإلزامهم بأحكام الشفعة، وبعض فروع البيع والميراث والطلاق.

فمثلاً: إذا رأى المخالف أنه ضامن فيما اشتراه إذا تلف عنده وإن كان في أيام خياره فللمؤمن أن يلزمه بالثمن.

توضيح هذه الجهة بالمثال: أن المثال الذي ذكرناه بالأخير، عندنا قاعدة إذا تلف المبيع في أيام الخيار فهو من مال من لا خيار له، فمثلاً: الخيار في الحيوان ثلاثة أيام، فاشتراه المشتري وفي الأيام الثلاثة للخيار تلف الحيوان، هنا هذا التلف ليس من مال المشتري وإنما من مال البائع، الذي لا خيار له حسب الفرض هو البائع وأما المشتري فله الخيار فالتلف في أيام الخيار يكون من مال البائع، لو فرضنا أن المخالفين بحسب رأيهم يقولون التلف من مال المشتري ليس من مال البائع، يعني ليست عندهم هذه القاعدة وهي تلف المبيع ممن لا خيار له، وكان البائع مؤمن والمشتري من المخالفين، فهنا قاعدة الإلزام ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فهو ألزم نفسه بأنه لا خيار وهذا من صالح البائع المؤمن فيطبق القاعدة عليهم، وهكذا في موارد أخرى.

إذاً المراد من قاعدة الإلزام: أنه إذا كان هناك حكم في صالح المؤمن وليس في صالح غير المؤمن ويلتزم به المخالف من ناحية فقههم فللمؤمن أن يلزمه به ويطبق عليه، وسيأتي معنا موارد كموارد الطلاق ووارد الإرث في التعصيب فعند العامة بأنه إذا خلف الرجل بنتاً واحدة فلها النصف فقط والباقي يرجع إلى العصبة، إخوانه إذا كانوا موجودين يأخذون الباقي، أما نحن فالمال كله للبنت غايته أنه نصف بالفرض والنصف الآخر بالرد، فلو فُرض أن هناك أخوين أحدهما مؤمن والآخر مخالف والمخالف عنده بنت واحدة فقط وقد توفي، فعلى فقههم ومبناهم أن البنت تأخذ النصف والنصف الآخر ينتقل للأخ، فالأخ المؤمن يطبق القاعدة ويأخذ نصف الميراث بناء على قاعدة الإلزام، هذا كتعريف وتوضيح إجمالي للقاعدة.

الجهة الثانية في مدرك القاعدة: استدل للقاعدة بدليلين:

الدليل الأول: الإجماع، وقد نقل الإجماع السيد البجنوردي (ره) في كتابه القواعد الفقهية، وغيره أيضاً نقل الإجماع، ولكن السيد تقي القمي (ره) ادعى التسالم عليها، فقال في كتابه مباني المنهاج في المجلد العاشر في 369، في ضمن مسألة ترتبط بالطلاق، قال: (مضافاً إلى أن قاعدة الإلزام معروفة عندهم بل لا يبعد أن تكون متسالماً عليها)، وقريب من هذا المضمون ما ذكره السيد المقدس السبزواري في كتابه مهذب الأحكام في المجلد السادس والعشرين في الصفحة 37، قال: (وهي من القواعد المسلمة بين الفقهاء) فإذاً نلاحظ أن هناك دعوى إجماع على القاعدة وصحة القاعدة بل أكثر منه دعوى التسالم بين الفقهاء على القاعدة، ولكن هذه القاعدة غير محررة بعنوان قاعدة عند الفقهاء المتقدمين، يعني في زمن الشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو السيد المرتضى أو حتى عند المحقق الحلي وابن إدريس، ربما يُتطرق لفروعها التي طبق عليها قاعدت الإلزام مؤخراً، ولكن كتحرير مستقل لم يوجد.

فدعوى الإجماع أو دعوى التسالم لعلها استفيدت من موارد تطبيق القاعدة في الفقه، ودعوى الإجماع في تلك الموارد، فمثلاً على سبيل المثال، قال صاحب الحدائق (ره) في طلاق المخالف في المجلد الخامس والعشرين في الصفحة 243 هناك قال: (فاعلم أنه قد صرَّح الأصحاب بأنه لو كان المطلق مخالفاً يعتقد الطلاق ثلاثاً لزمته)، يطلق في مجلس واحد زوجته بالثلاث فلو اعتقد المخالف بأنه يقع طلاقاً صحيحاً ويقع ثلاثاً لزمته، إلى أن قال (وما ذكروه رحمة الله عليهم، ودلت عليه الأخبار المذكورة من إلزامهم بذلك، واحلكم عليهم به مما لا إشكال فيه، ثم قال: مضافاً إلى الإجماع المدعى عليه كما نقله صاحب المسالك) فالمحدث البحراني (ره) ينقل الإجماع في هذه المسألة وهي مسألة تطبيقية لقاعدة الإلزام، لأنه قال ما ذكروه ودلت عليه الأخبار بذلك من إلزامهم بذلك وهذا إشارة إلى القاعدة، والحكم عليهم مما لا إشكال فيه، ثم قال: مضافاً إلى الإجماع المدعى عليه كما نقله صاحب المسالك.

عندما نرجع إلى عبارة المسالك، الجزء التاسع الصفحة 96 قال: بعد أن نقل رواية علي بن أبي حمزة التي ستأتي، قال: (ولا فرق في الحكم على المخالف بوقوع ما يعتقده من الطلاق بين الثلاث وغيرها مما لا يجتمع شرائطه ويقع عندهم، كتعليقه على الشرط ووقوعه بغير إشهاد ومع الحيض وباليمين وبالكناية مع النية، هذه كلها أمثلة لوقوع الطلاق عندهم وغير وقوعه عندنا، وغير ذلك من الأحكام التي يلتزمها، وظاهر الأصحاب الاتفاق على الحكم) فإذاً هذا الإجماع الذي ذكره المحدث البحراني لما قال مضافاً إلى الإجماع المدعى عليه كما نقله صاحب المسالك فلاحظنا ما في المسالك.

هنا قبل أن نكمل لا باس بالإشارة إلى تنبيه والاستفادة منه:

يقول الشيخ الوحيد (حفظه الله): بالنسبة على إجماعات الشهيد الثاني هذه الإجماعات ينبغي أن تكون محل اهتمام، فالإجماعات لا بد أن نلاحظ ممن صدرت، فبعض الفقهاء من علمائنا المتقدمين أو المتأخرين يكون لنقلهم دعوى الإجماع اعتبار خاص، لكونه معروفاً بالدقة والتتبع وعدم إرسال الكلمات هكذا، والشهيد الثاني من هؤلاء، على ما أذكره من حضور بحثه (حفظه الله) أنه كان ينبه على أن إجماعات الشهيد الثاني لها وزنها وثقلها واعتبارها، هذه المسألة من نقل فيها الإجماع الشهيد الثاني.

أيضاً قال صاحب الجواهر في بحث الصيغة من الطلاق تعلقاً على قول الماتن المحقق، (لو كان المطلق مخالفاً يعتقد الثلاث لزمته) قال صاحب الجواهر تعليقاً عليها، (لأن ذلك دينه مضافاً إلى الإجماع بقسميه عليه) في المجلد 32 الصفحة 87.

فإذاً الملاحظ أن هناك دعاوى إجماع على بعض موارد تطبيق القاعدة، فلعل من نقل الإجماع على القاعدة تصيده من خلال الإجماعات والتطبيقات الموجودة في موارد تطبيقها، وإلا فكما قلنا كعنوان للقاعدة لا يوجد وهي غير محررة عند المتقدمين.

فالنتيجة: أن الإجماع ثابت في الجملة بلا إشكال، وإن لم يكن على أصل عنوان القاعدة ولكن على بعض موارد تطبيقها وعباراتهم توحي بذلك، وأن التمسك كان بما يدل على قاعدة الإلزام.

ولكن يرد على هذا الإجماع:

أولاً: أنه إجماع منقول، يعني نقله الشهيد الثاني أو صاحب الجواهر في بعض الموارد أ إذا قلنا على أصل القاعدة فنقله السيد البجنوردي (ره) أو السيد القمي (ره) أو السيد السبزواري (ره) والإجماع المنقول هناك بحث فيه هل يقبل أو لا يقبل؟ هناك بحث في الأصول، ولكن بشكل عام ما يراه المتأخرون عدم قبوله، نعم يمكن في بعض الموارد الخاصة لا يمكن التخلي عنه ولا يمكن للفقيه أن يفتي بغض النظر عنه.

الإشكال الثاني: وهو المهم، أنه إجماع مدركي أو محتمل المدرك، باعتبار أن هناك مدرك لقاعدة الإلزام، روايات موجودة سيأتي الحديث فيها وحولها، وهي المدرك والمستند لقاعدة الإلزام، فالفقهاء الذين أجمعوا عليها فمن خلال هذه الروايات، فلا يكون دليل الإجماع دليلاً مستقلاً حتى يكون كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) أو كاشفاً عن دليل آخر، وغنما هذه الروايات الموجودة بين أيدينا، فالنتيجة يكون الكلام في الروايات فنحن والروايات وما يستفاد منها، فهذا الإجماع لا نأخذه كدليل معتبر مستقل، بل هو مدركي أو محتمل المدرك.

ولعله لذلك: إما لكون مدركياً أو لعدم تحريره عن المتقدمين، قال الشيخ المحقق حسين الحلي (ره): (وتنحصر أدلة القاعدة بالأخبار الشريفة الواردة عن الأئمة عليه السلام) كما ذكره في بحوث فقهية في الصفحة 269، كما ذكره في الدروس للسيد عز الدين بحر العلوم (ره) تحريراً لبحوث المحقق الشيخ حسين الحلي.

الدليل الثاني: وهو العمدة، الروايات:

وقد عُبر عنها بأنها متظافرة وهو كذلك كما سيأتي، وهي على طوائف:

الطائفة الأولى: ما ورد في باب الطلاق، وهو على نحوين: النحو الأول: ما فيه مادة الإلزام، والنحو الثاني: ما ليس فيه مادة الإلزام، ونتعمد أن نصنف هذا التصنيف لنعرف فيما بعد من أين أُخذت القاعدة ولماذا سُميت بقاعدة الإلزام.

ومن المناسب أن نتعرض أولاً إلى الروايات التي اشتقت منها قاعدة الإلزام، أعني ما وردت بلسان ألزموهم أو ما كان من مادته، ثم نتعرض إلى غيرها من الروايات التي يمكن استفادة القاعدة منها، وهذا القسم الذي فيه مادة الإلزام، ورد بصورتين: الأول: ما ظاهره العموم من ناحية المورد والمدلول إذ لم تختص بباب وكان لفظها مطلقاً وما وردت في باب بعينه مع لفظ يُشعر بالاختصاص وإن لم يدل على الاختصاص، وسوف نقدم الثانية، لتتضح حقيقة الأولى، فالثانية ما وردت في باب بعينه، روايات:

الأولى: ما رواه الشيخ في التهذيب، قال: (وعنه عن عبد الله بن جبلة، قال: حدثني غير واحد من أصحاب بن أبي حمزة عن علي بن أبي حمزة، أنه سأل أبا الحسن عليه السلام عن المطلقة على غير السنة، أيتزوجها الرجل؟ فقال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوجوهن فلا بأس بذلك) فهنا نلاحظ أنه التعبير ألزموهم، هذا الذي كنا نريده في الصنف الأول، ولكن هذه كما ذكرنا وأشرنا إلى أنها وردت في باب بعينه والسؤال عن المطلقة على غير السنة، تتمة ما أورده الشيخ، (قال الحسن [ابن سماعة] وسمعت جعفر ابن سماعة وسُئل عن امرأة طُلقت على غير السنة ألي أن أتزوجها؟ فقال: نعم، فقلت له: أليس تعلم أن علي بن حنظلة روى إياكم والمطلقات ثلاثاً على غير السنة، فإنهن ذوات أزواج، فقال: يا بني، رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس، قلت: وأي شيء روى علي بن أبي حمزة، قال: روى عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوجوهن فإنه لا بأس بذلك)

إذاً هذه الرواية التي نقلها الشيخ في التهذيب تتضمن روايتين، إحداهما دالة على محل البحث والأخرى معارضة لها، وما دلت على القاعدة ذات طريقين، لأنه في بادئ الأمر نقل عن عبد الله بن جبلة، قال حثني غير واحد عن علي بن أبي حمزة وساق الحديث الذي يدل على جواز الزواج من المطلقات على غير السنة، ثم الحسن قال: سمعت جعفر بن سماعة وسُئل عن امرأة طُلقت على غير السنة، ألي أن أتزوجها قال: نعم، فنقل ابن سماعة نفس الكلام لكن هذا رأيه، بعد ذلك الحسن نقل إلى جعفر بن سماعة حديث معارض، فقلت له: أليس تعلم أن علي بن حنظلة روى إياكم والمطلقات ثلاثاً، هذا حديث معارض لما نحن فيه، فأجاب جعفر بأن رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس فنقل له الرواية التي رواها عبد الله بن جبلة.

إذاً هذه الرواية في التهذيب بكاملها تنقل روايتين رواية دالة على ما نحن فيه، ورواية معارضة، والرواية الدالة على ما نحن فيه ذات طريقين، الطريق الأول الذي نقلناه عن عبد الله بن جبلة عن غير واحد مرسلة، والطريق الثاني عن جعفر بن سماعة غير مرسلة بل عن علي بن أبي حمزة.

والبحث في هذه الرواية يقع في جهتين: في جهة السند أولاً وفي جهة الدلالة ثانياً، وهذا ما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.