الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/11/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

التنبيه الثامن: ذكر الأعلام للمسألة الثالثة:

كان الكلام فيما ذكره المشهور من الفقهاء وخصوصاً من المتقدمين والمتأخرين بالنسبة إلى حديث السلطنة، يعني أنهم قدموا حديث السلطنة في مثل هذا المورد، كما يظهر من كلماتهم في كتاب الإحياء، وذكرنا نقولات كثير منهم.

أيضاً تعرضوا لهذه المسألة في باب الغصب، وهناك عندنا كلمات لا بأس بذكر بعضها، فمن جملتها ما في كتاب الشرائع، يقول: (ولو أرسل في ملكه ماءً فأغرق مال اغيره أو أجج فيه ناراً فأحرق، لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختياراً مع علمه أو غلبة ظنه أن ذلك موجب للتعدي إلى الإضرار).

فهنا نلاحظ أن المحقق ذهب، هنا عندنا مسألتان تارة مثل ما عبر المحقق يرسل الماء في ملكه فيصل الماء لملك غيره فيغرقه، وهذا ربما عبر عنه صاحب الجواهر (ره) أنه يتولد من عمله عمل فهنا تولد من عمله عمل آخر، أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره، أو أجج فيه ناراً فأحرق، هنا مع أنه تولد من عمله عمل آخر وذلك العمل الاخر تسبب في إضرار الغير مع ذلك صاحب الشرائع (ره) قال: لم يضمن، ولكن بشرطين، الأول ما لم يتجاوز قدر حاجته اختياراً، يعني هو أرسل الماء بقدر حاجته وهو مختار ثم مع علمه أو غلبة ظنه أن ذلك موجب للتعدي إلى الإضرار، هنا يظهر من التعبير مع علمه أو غلبة ظنه، يعني كأنه شرط لعدم الضمان أن لا يعلم أو لا يغلب على ظنه أن هذا المقدار موجب للتعدي إلى الإضرار فتعدى، يعني شرط الضمان أن يتجاوز قدر حاجته أو أن يعلم أو يغلب على ظنه أن ذلك موجب للتعدي إلى الإضرار، المهم إذا تحقق الشرطان فحتى لو تولد من عمله عمل آخر أوجب الضرر فهذا لا ضمان عليه.

مثل ذلك العلامة الحلي في كتاب القواعد، والشهيد الأول في الدروس في ذكر أسباب الضمان قال: (أو تجاوز قدر الحاجة من الماء أو النار أو علم التعدي إلى مال الغير) إذاً في الضمان إذا تجاوز قدر الحاجة وأما إذا لم يتجاوز قدر الحاجة فهو غير ضامن، أو إذا علم التعدي إلى مال الغير.

هنا نلاحظ أنهم لم يتعرضوا إلى حديث السلطنة ولكن المحقق الثاني في جامع المقاصد قال: (لما كان الناس مسلطين على أموالهم) فنلاحظ هنا وإن لم يعبر عنه بالرواية ولكن ذكره، (لما كان الناس مسلطين على أموالهم كان للمالك الانتفاع بملكه كيف شاء، فإن دعت الحاجة إلى إرسال ماء أو إضرام نار في ملكه جاز فعليه، وإن غلب على الظن التعدي إلى الإضرار بالغير) هنا نلاحظ توسعة في عبارة المحقق الثاني، (نعم مع غلبة الظن بالتعدي إن تجاوز قدر الحاجة ضمن) فهنا بالنسبة إلى الضمان يشترط الشرطين، غلبة الظن بالتعدي والتجاوز قدر الحاجة، (لأنه سبب في التلف لصدق تعريفه عليه، إذا المباشر ضعيف فحينئذ إنما يتحقق الضمان بالشرطين لا بأحدهما).

فنلاحظ أن الأعلام المتقدمين تعرضوا لهذه المسألة في باب الغصب وهكذا يظهر منهم، فالذي يظهر منهم أنهم استندوا في الجواز على أن الناس مسلطون على أموالهم كما صرّح المحقق الثاني وغيره كما ذكرنا سابقاً.

بعد أن ننتهي من كلماتهم وأن الذي يظهر منها أنهم استندوا إلى حديث السلطنة، أنه يجوز له التصرف في ملكه وإن تسبب منه الضرر في الجار هنا يجوز لقاعدة السلطنة، وقدموا ذلك على حديث لا ضرر عند التعارض.

الكلام فعلاً في حديث السلطنة، حديث السلطنة لم يرد في كتبنا الروائية، مثلاً عندما نرجع للكافي أو التهذيب أو الاستبصار أو الفقيه لا نجد فيها هذا الحديث بل ولا في غيرها من الكتب الحديثية السابقة، نعم وجد مؤخراً عند صاحب البحار وصاحب العوالي وأيضاً مرسل، فهو كحديث من جهة لم يرد وهو مرسل، نعم أورده الشيخ في كتابه الخلاف مرسلاً، والفقهاء في كتبهم الفتوائية الفقهية تعرضوا له كثيراً، عندما نبحث نلاحظ أن هناك الكثير ممن استند إلى حديث السلطنة، ولكن يبقى أن هذا الحديث حديث مرسل.

وادعى البعض بأنه متواتراً ولكنه ليس بصحيح، لأن هنا نكتة في التواتر وهي: أنه يفترض في الحديث المتواتر أن يكون متواتراً في جميع الطبقات، فلو كان في طبقة من الطبقات حديث آحاد أيضاً لا يعد تواتراً، وهذا المعنى لا ينطبق على حديث السلطنة، صحيح أن الفقهاء ذكروه كثيراً ولكن مرجع ما ذكره الفقهاء إلى كتاب الخلاف للشيخ، ومن قبل الشيخ لا يُعلم له مصدر، ثم ذكره من بعده من الفقهاء، إذاً كحديث لا يمكن الاعتماد عليه لأنه مرسل، حتى لو قيل بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور أيضاً يمكن أن نتوقف هنا لو عملوا به، وذلك لأن عمل المشهور في الواقع يعتبر توثيقاً عملياً للرواية، فإذا كان الخبر ضعف عندنا فهذا نحو من توثيق الخبر توثيقاً عملياً، فإذا كانت هذه الرواية مرسلة فلا نحرز وثاقة هذه الرواية، لأن الراوي غير معلوم، فهذه نكتة ينبغي التأمل فيها، فهل يمكن التعدية مطلقاً أو نقول في موارد دون موارد، نستطيع أن نقول إنه في غير المرسلة يمكن التمسك بهذه القاعدة على القول بها أما في المرسل فلا يمكن، وعلى فرض أن قاعدة انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور حتى في المرسلات لأن العبرة ليست في الرواة وإنما في نفس المروي فربما كان عندهم قرائن توثق الرواية، ولكن نقول: إن صغرى قاعدة انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تامة، حتى لو سلمنا الكبرى وسلمنا جريانها في المرسلات، لأنه ذكره الشيخ الطوسي فقط ولم يذكره المتقدمون ولم نعلم استنادهم إلى هذه الرواية، فعليه لا يصح العمل بها من جانب الرواية.

نعم هذه القاعدة مسلمة عندهم، فمن جملة القواعد عندهم قاعدة السلطنة، فيذكرونها كقاعدة فينبغي مراجعة مصدرها ومدركها، فبما أن الخبر ضعيف فنقول هذه القاعدة عقلائية، يعني العقلاء بما هم عقلاء يقولون الناس مسلطون على أموالهم، فلا نعتبرها رواية وإنما هي قاعدة ومدركها سيرة العقلاء لضعف مدركها الشرعي.

إذا قلنا بأن المدرك سيرة العقلاء، هنا ينبغي التأمل في نقطتين والتفريق بينهما، وربما تغيب عن كثير من الأذهان:

النقطة الأولى: أن نلاحظ ما قامت عليه السيرة.

النقطة الثانية: في حالة الشك في المراد من السيرة.

السيرة كما يُذكر بأنها دليل لبي فالبعض ربما يقول هذا دليل لبي يقتصر فيه على القدر متيقن، وهذا الكلام على إطلاقه غير صحيح، هنا لا بد أولاً أن نلاحظ ما قامت عليه السيرة، ربما يكون ما قامت عليه السيرة واسع فلا معنى للاقتصار على القدر المتيقن، بل نأخذ بعرضه العريض الذي قامت عليه السيرة، مثلاً السيرة قامت على الأخذ بخبر الثقة كما هو الدليل على حجية خبر الثقة، الثقة نفسه يوجد فيه قدر متيقن، يعني عندنا شخص في غاية الوثاقة وعندنا شخص آخر ثقة ولكنه أقل مقداراً من الأول، هل نقول: بما أن دليل حجية خبر الثقة هو السيرة وهي دليل لبي فيقتصر فيه على القدر المتيقن فنأخذ به في خصوص خبر الثقة الذي لا مجال أصلاً للتشكيك فيه بنحو مطلق، أو نقول: بأن السيرة قامت على الأخذ بخبر الثقة فنأخذ بمطلق الثقة لا بالثقة بنحو مطلق، من الواضح أنه يتمسك بالسيرة للأخذ بخبر الثقة مطلقاً، ولا يقولون هناك قدر متيقن نأخذ به، وذلك لأن سيرتهم أنهم لا يفرقون بين الثقة بقول مطلق وبين مطلق الثقة، وإنما كل من انطبق عليه عنوان الثقة يؤخذ بخبره، فبما أن السيرة واسعة نتمسك بها على سعتها، هذه نقطة مهمة في السيرة.

هذه السيرة لما عرفنا الكبرى عندما نطبقها على المقام، الناس مسلطون على أموالهم، سيرة العقلاء على ذلك، هل سيرتهم بنحو واسع أو بنحو ضيق؟ ما قامت عليه السيرة ما هو؟ بمعنى هل أن سيرة العقلاء على أن الناس مسلطون على أموالهم حتى لو أوجب الإضرار بالغير؟ أو إذا لم يوجب الإضرار بالغير؟ هنا يمكن أن ندعي بأن سيرة العقلاء بالنسبة إلى التصرف في أوالهم إذا لم يتسبب في الإضرار بالغير، وأما إذا تسبب في الإضرار بالغير فلا يتصرفون في أموالهم على ذلك.

إذاً هنا نستطيع القول بأن السيرة لم تقم أساساً على جميع أنحاء التصرفات ولو أضرت بالغير، فلا نتمسك بها في المقام، فقبل أن نجعلها معارضة للا ضرر نقول: أساساً هي لا تشمل مورد الضرر، فهي خارجة عن التعارض ولا نتمسك بها أساساً.

النقطة الثانية: لو فرضنا أننا شككنا فيما قامت عليه السيرة، هل سيرتهم على التصرف في الملك ولو أوجب تضرر الغير أو لا؟ أو مثلاً فرضنا أنهم نفس التضرر له أنحاء، تارة التضرر بدون أن يتضرر المالك وتارة مع تضرر المالك، فما قامت عليه السيرة ما هو؟ هنا فرضنا الشك، لما نفترض الشك هنا يأتي الكلام المعروف أن السيرة دليل لبي نقتصر فيه على القدر متيقن، فمتى نقول ذلك؟ نقول به في حال الشك وعدم معرفة ما قامت عليه سيرتهم بالضبط هنا نقول دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، صار الليل مجملاً دار أمره بين الأقل والأكثر بين المعنى الضيق والمعنى الواسع هنا نقول دليل لبي نقتصر فيه على القدر المتيقن.

إذا طبقنا هذه الجهة، هنا نشك هل أن سيرتهم على التصرف في الملك إذا لم توجب الضرر بالآخر أو أن سيرتهم على التصرف في الملك حتى ولو أوجب الضرر بالآخر؟ إذا شككنا نقتصر على القدر المتيقن، والقدر المتيقن هو ما إذا لم يوجب الضرر على الغير.

فعليه: أيضاً لا تصلح هذه القاعدة كدليل في المقام بحيث نقدمها على لا ضرر، هذا ما يرتبط بهذه الناحية ناحية المستند.

ثم على فرض تمامية المستند، أن قاعدة السلطنة تامة سواء من حيث سندها أو من حيث سيرة العقلاء، نبحث بحثاً دلالياً في الناس مسلطون على أموالهم، فما فهمه الأعلام المتقدمون وما صرح به بعضهم مثل المحقق الثاني، يقول: لما كان الناس مسلطين على أموالهم كان للمالك الانتفاع بملكه كيف شاء، بهذا المعنى الواسع، وهذا المعنى بهذا التفسير لهذا الحديث وقع موقع الإشكال عند غير واحد من الأعلام وتناول هذا المعنى الشيخ الأنصاري (ره) في المكاسب وفي أدلة المعاطاة، هل معناه هذا المعنى الواسع؟ يعني يلزم منه لوازم لا يمكن الالتزام بها، من ملك عبداً هل يجوز له أن يقطع يده أو يجدع أنفه؟ بحجة أن الناس مسلطون على أموالهم فله التصرف كيفما شاء، هنا عبارة المحقق قال له الانتفاع كيف شاء، ينقض عليه بأنه هناك أفعال انتفاع ولكنها محرمة، هذا الانتفاع المحرم لا ينطبق عليه، يعني لا يرد أن الناس مسلطون على أموالهم فلهم أن ينتفعوا بأموالهم بأي نحو شاءوا حتى ولو بنحو محرم، بل لا بد أن يكون بدائرة الحكم الشرعي، يعني لا بد في مرحلة سابقة نعرف الانتفاعات الشرعية من غير الشرعية ثم نقول لك الانتفاع.

وبعبارة أخرى: أن ما عليه كثير من المحققين أن المقصود والمستفاد من الناس مسلطون على أموالهم أنهم غير محجورين في أموالهم، يعني بما أن هذا المال ماله والملك ملكه فهو غير محجور، فلا يمكن لشخص آخر أن يمنعه من التصرف في أمواله ويقول له افعل هذا ولا تفعل هذا، غير محجور يعني يرتبط بالأمور المشروعة كالبيع والهبة والتصدق والإتلاف في بعض الموارد إذا لم يصدق عليه عنوان آخر، هذا معنى الاس مسلطون على أموالهم، يعني غير محجور عليهم فلا نستفيد منها في المقام، فنقول: يجوز له العمل وإن أوجب هذا العمل الإضرار بالجار، لا، فالحديث على فرض صدوره ليس معناه هذا المعنى، وإنما أنت غير محجور عليك إلا إذا خالفت حكماً شرعياً، فهذا المقدار لا يفيدنا في المقام.

النتيجة: أن حديث السلطنة مرسل وقاعدة السلطنة مستندها إما الإجماع أو السيرة العقلائية وهي أدلة لبية نرى ما قامت عليه السيرة وهو ليس بذلك العرض العريض بل لا يشمل المورد، وعلى تقدير الشك في الشمول فنقول بما أن المستند لبي فالدليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن سواء السيرة أو الإجماع، والقدر المتيقن ما لم يوجب الإضرار بالآخرين، وأخيراً قلنا بأن مدلول الرواية ليس لك أن تتصرف بجميع أنحاء التصرفات وإنما أنت غير محجور إذا لم يوجب التصرف مخالفة شرعية، فهذه القاعدة لا يمكن التمسك بها في مقابل حديث لا ضرر.