الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/10/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

التنبيه الثامن: المسألة الثالثة:

الكلام كان في المسألة الثالثة في تعارض الضررين، وهي المهمة في هذا التنبيه، بل ربما يكون تنبيه خاص بها، مثلاً المحقق النائيني (قده) جعل التنبيه السابع قال: (لا ينبغي الإشكال في أنه كما يكون هذه السلطنة حاكمة على العمومات المثبتة للأحكام التكليفية فكذلك حاكمة على العمومات المثبتة للأحكام الوضعية، سواء كان الحكم الوضعي من قبيل لزوم العقد أو من قبيل قاعدة السلطنة، إنما الإشكال في أن قاعدة السلطنة مطلقاً محكومة بقاعدة لا ضرر، أو فيما إذا لم يلزم من عدم سلطنة المالك ضرر عليه، وأما إذا لزم فلا تكون محكومة بها بل تكون قاعدة السلطنة هي المرجع، أو أن المسألة مبتنية على الفرع السابق ....)

المهم أن هذه المسألة من المسائل المهمة التي محل الابتلاء كثيراً، وبضعهم كما لاحظنا الآن المحقق النائيني وسننقل كلمات غيره أيضاً جعل المدار فيها هو في الحكومة بين لا ضرر وحديث السلطنة، هل أن لا ضرر حاكمة على حديث السلطنة أو الناس مسلطون على أموالهم مطلقاً أو في بعض الصور؟ كما إذا لم يكن هناك ضرر على المالك، وأما إذا كان هناك ضرر على المالك فلا.

فالبحث عندهم صار في هذه الجهة، طبعاً على ما ذكرنا سابقاً بأنه أساساً في الأمثلة بأنه لو فعل شخص شيئاً في ملكه وتسبب في ذلك بضرر جاره، أو أن الفعل يتسبب بتضرر جاره، فهل له أن يقوم بهذا العمل أو ليس له ذلك؟

والبحث أيضاً أوقعوه في جهتين، الأولى أنه من ناحية التكليف هل يجوز له أو لا؟ والجهة الثانية الجهة الوضعية يعني على تقدير الجواز هل يكون ضامناً أو لا؟ يعني مثلاً إذا حفر في داره بئراً أو بالوعة وتسبب في ضرر جاره، فهل يضمن على فرض أنه يجوز له أو لا يضمن؟

إذاً البحث يكون تارة في الجهة التكليفية وتارة يكون في الجهة الوضعية.

وقبل البحث في ذلك نلاحظ أن الأعلام المتقدمين تعرضوا إلى فروع هذه المسألة بدون أن تعنون بأنه داخلة في تعارض الضررين أو لا؟ فمثلاً نلاحظ صاحب المسالك في التعليق على كلام الشرائع في كتاب إحياء الموات في شرائط التملك بالإحياء، قال صاحب الشرائع: (وكل ذلك إنما يثبت له حريم إذا ابتكر في الموات، أما ما يُعمل في الأملاك المعمورة فلا) ففرق إذاً بين العين والأمور ما سعة مقدار حريمها، يقول هذا إذا ابتكر في الموات، يعني أن أحييت أرضاً ميتةً في مكان بعيد، الآن ما هو حريم هذا المكان الذي أحييته، وإذا أحييت فيه عيناً ما هو حريم العين؟

الشهيد الثاني (ره) قال: (أشار بذلك إلى جميع ما ذُر من الحريم في البئر والعين والحائط وغيرها، فإن الحكم فيه مخصوص بما إذا كان الإحياء في الموات أو مجاوراً له من بعض الجوانب فيختص الحريم بالموات عاماً أو خاصاً، أما لو كانت الأرض محفوفة بالأملاك فلا حريم لها لأن الأملاك متعارضة، وليس جعل موضع حريماً لدار أو غيرها أولى من جعله حريماً لأخرى، وكل واحد من الملّاك له التصرف في ملكه كيف شاء، فله أن يحفر بئراً في ملكه وإن كان لجاره بئر قريبة منها، وإن نقص ماء الأولى، والفرق أن الحفر في الموات ابتداءً تملكٌ فلا يمكن منه إذا تضرر الغير بل يقدم السابق بالتملك، وفي الأملاك كل واحد يتصرف في ملكه فلا يُمنع منه، حتى لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها بئر الجار لم يُمنع منه، ولا ضمان عليه بسببه) فهنا نلاحظ أن الشهيد الثاني ذكر هذه المسألة بعينها وحكم فيها من حيث التكليف بجواز الحفر وإن تضرر الجار وحكم بالحكم الوضعي بعدم الضمان، (ولكنه يكون قد فعل مكروهاً، ومثله ما لو أعد داره المحفوفة بالمساكن حماماً، أو خاناً أو طاحونة، أو حانوته في صف العطارين حانوت حداد أو قصاب على خلاف العادة) كل هذه يقول يجوز لأنه مالك له التصرف في ملكه كيف شاء، (نعم له منع ما يضر بحائطه من البئر والشجر ولو ببروز أصلها إليه، والضرب المؤدي إلى ضرر الحائط ونحو ذلك) هذا ما أفاده الشهيد الثاني في المسالك.

المحقق السبزواري صاحب الكفاية في الفقه ذكر أيضاً هذه المسألة في ضمن تذنيب وجعلها هي المعروف من مذهب الأصحاب، قال: (المعروف من مذهب الأصحاب أن ما ذُكر في الحريم للبئر والعين والحائط والدار مخصوص بما إذا كان الإحياء في الموات، فيختص الحريم بالموات، وأما الأملاك فلا يعتبر الحريم فيها، لأن الأملاك متعارضة وكل واحد من الملاك مسلط على ماله، له التصرف فيه كيف شاء، قالوا: فله أن يحفر بئراً في ملكه وإن كان لجاره بئر قريب منها وإن نقص ماء الأولى، وأن ذلك مكروه، قالوا: حتى لو حفر في ملكه بالوعة وفسد به بئر الجار لم يُمنع منه ولا ضمان عليه، ومثله ما لو أعد داره المحفوف بالمساكن حماماً أو خاناً أو طاحونة أو حانوت حداد أو قصاب لأن له التصرف في ملكه كيف شاء) ثم يعلق المحقق السبزواري على ما نقله عن الأصحاب (ويشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضرراً فاحشاً نظراً إلى ما تضمن الأخبار المذكورة عن قريب من نفي الضرر والإضرار وهو الحديث المعمول بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم خصوصاً ما تضمن الأخبار المذكورة من نفي الإضرار الواقع في ملك المضار)

نلاحظ هنا المحقق السبزواري استدل كإشكال على ما هو المعروف عند الأصحاب بلا ضرر في مورد إذا كان التضرر تضرراً فاحشاً، هنا استشكل باعتبار حديث لا ضرر ولا ضرار، ثم أشار إلى كلام صاحب المسالك الذي نقلناه، يعني صاحب المسالك أيضاً بلا ضرر لكن في هذا القسم فقط ما يضر بحائطه من البئر أو الشجر ولو ببروز فروعها.

وهذا الكلام من المحقق السبزواري وقع موقع الإشكال عند صاحب الرياض، قال في باب إحياء الموات: (صرح بجميع ذلك في السرائر والدروس والمسالك ونسبه في الكفاية إلى الأصحاب كافة، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، ونحوه الحلي حيث نفي الخلاف فيه، ولكن قال في الكفاية: ويشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضرراً فاحشاً) ثم ساق نفس الإشكال ثم قال صاحب الرياض (وفيه نظر: فإن حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لرب الأموال) فصاحب الرياض استفاد أن حديث لا ضرر معارض بحديث السلطنة كما أشرنا في أول الكلام أن المحقق النائيني (ره) جعل مدار البحث في حكومة لا ضرر على السلطنة، هل تحكم عليها مطلقاً أو في حالة عدم التضرر على المالك نفسه؟ هذا ما نبه عليه صاحب الرياض (ره)، ثم قال (وهو أيضاً معمول به بين الفريقين، والتعارض بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه حيث يمكن أن يوجد ضرر ولا يتنافى مع السلطنة وربما أن يكون هناك سلطنة ولا ضرر، والترجيح للثاني بالأصل وعمل الأصحاب كما اعترف به السبزواري عندما قال: المعروف من مذهب الأصحاب، ولا سيما إذا استلزم منع المالك من التصرف ضرر عليه أشد من ضرر الجار، في هذه الصورة بالخصوص هنا لا يُمنع، هنا تقديم حديث السلطنة يكون آكد أو مساوياً أو أقل بحيث لم يتفاحش معه ضرره وينبغي القطع في هذه الصور بما عليه الأصحاب، وأما فيما عداها فالظاهر ذلك أيضاً كما ذُكر وإن كان الأحوط عدم الإضرار على الإطلاق...)

فنلاحظ هنا أن المدار جعل هنا على حديث السلطنة والمقارنة بينه وبين لا ضرر.

وهكذا صارت توالت البحوث عند الفقهاء قبل أن تعنون في الأصول بهذا العنوان، عند كلام صاحب الجواهر مثلاً تعرض إليها، فقال: (وبالجملة فالغرض إن المسألة لم يكن فيها إجماع محقق على جهة الإطلاق فيمكن أن يقال بمنع التصرف في ماله على وجه يترتب عليه الضرر في مال الغير مثلاً بتوليدية فعله، بحيث يكون له فعل وتصرف في مال الغير وإتلاف له يتولد من فعله فعل في مال الغير، وخصوصاً مع زيادته بفعله عما يحتاج إليه وغلبة ظنه بالسراية، وقاعدة التسلط على المال لا تقتضي ذلك ولا رفع الضمان الحاصل بتوليد فعليه، نعم لو كان تصرفه في ماله لا توليد فيه على الوجه المزبور وإن حصل الضرر مقارناً لذلك لم يُمنع منه)

إذا لاحظنا أيضاً السيد المراغي (قده) في كتاب العناوين في قاعدة نفي الضرر والضرار، تعرض في المقام الرابع قال: (في تعارض الضررين، بمعنى دوران الأمر بين فعل شيء موجب للضرر على الغير وتركه الموجب للضرر على نفس المباشر، ومنشئ الإشكال هنا تعارض قاعدة الضرر والضرار مع عموم ما دل على تسلط الناس على أملاكهم وأموالهم، ونظائر ذلك من عمومات الرخصة، مثلاً إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حياً، هذا أيضاً يندرج تحت قاعدة السلطنة، وينبغي في المقام ذكر جملة من كلمات أساطين الأصحاب ليكون عنواناً في الباب لتتضح المسألة مع عموم البلوى بها)

الذي نريد أن نؤكد عليه أن ما أفاده المحقق النائيني مسبوق من قبل ما تقدمه وهو أنه ينبغي أن يقع البحث في المقارنة بين لا ضرر وبين قاعدة السلطنة، هذا مبدئياً طبعاً، وإلا يكون هذا أحد الأوجه التي يمكن أن يستند إليها ما عليه الأصحاب من جواز فعل عمل يتسبب منه الضرر إلى جاره أحد الأوجه يكون قاعدة السلطنة، وإن كان المحقق النائيني ذكر ذلك، والسيد المراغي وسع الدائرة قال: منشئ الإشكال هنا تعارض قاعدة الضرر والضرار مع عموم ما دل على تسلط الناس على أملاكهم وأموالهم ونظائر ذلك من عمومات الرخصة) عندنا روايات وردت بهذا المضمون أن صاحب المال له أن يتصرف بماله كما يشاء في حياته، ثم نقل كلمات المحقق التي نقلناها وذكر كلام للعلامة وقال عن العلامة: (هذا في الموات ولا حريم في الأملاك لتعارضها ولكل واحد أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وإن تضرر صاحبه فلا ضمان فلو جعل ملكه بيت حداد ...) وأيضاً نقل كلامه في التحرير ونقل كلام الشهيد (ره) في الدروس وهو نفس كلمات الأصحاب، ونقل كلمات المحقق الثاني والشهيد الثاني وإلى آخره.

والمدار فعلاً هو أن نبحث في الوجه المسوّغ لهذا التصرف وهو قاعدة السلطنة الذي بحثه فيما بعد الأصوليون، هل أن حديث لا ضرر حاكم على قاعدة السلطنة؟ وحكومته عليه مطلقة أو خاصة؟ وهذا إن شاء الله تعالى يأتي الكلام فيه.