الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/10/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

التنبيه السابع: مناقشة ما أفاده بعض أعاظم المعاصرين:

كان الكلام فيما أفاده بعض الأعلام (حفظه الله) وتقدمت المناقشة في بعض كلماته وبقي البعض.

فمن جملة ما قال ويشترك بذلك مع السيد الخوئي (ره): في أنه عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل جعل للعدم، السيد الخوئي (ره) ذكره بضرس قاطع ولكن ما أفاده بعض الأعلام على نحو أنه يمكن أن يقال أو يمكن أن يُختار يعني ليس بضرس قاطع.

نقول في هذه النقطة: عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: أن هذا الأمر يبتني على معرفة الملاك، وتوضيح ذلك: أن الأحكام عندنا نحن الإمامية تبتني على وجود ملاكات واقعية، يعني الأحكام تابعة للملاكات هذه الملاكات أمور غيبية، الملاك إذا كان مصلحة ملزمة فالشارع يضع على طبقه الوجوب، وإذا كان في العمل مفسدة واقعية ملزمة فيجعل الشارع الحرمة، وإذا كانت توجد فيه مصلحة ومفسدة ولكن المصلحة أغلب أو المفسدة لم تكن بتلك الدرجة، ربما يكون واجباً وربما يكون مستحباً، وإذا كانت المفسدة موجودة ولم تكن بدرجة الإلزام تكون بالكراهة، وإذا لم يكن في الفعل مصلحة أو مفسدة فيكون هناك إباحة أو ربما تكون المصلحة في الترخيص فيكون إباحة، لذلك قلنا أنه يوجد إباحة اللااقتضائية ويوجد إباحة اقتضائية، اللااقتضائية تعني أنه لا يوجد في هذا العمل مصلحة ولا مفسدة على درجة سواء، هذه إباحة ولا يوجد موجب لأحد الأحكام الأربعة الأخرى، وإذا كانت هناك مصلحة في نفس الترخيص فهنا يُجعل الإباحة وتسمى الاقتضائية، يعني هناك مقتضٍ لجعل الإباحة، فالأحكام عندنا تدور مدار المصالح والمفاسد الواقعية أي الملاكات، نعم ربما يقع الخلاف في أن المصلحة هي في الجعل أو في المجعول؟ الأكثر على أن المصلحة في العمل المجعول، وهناك من قال إنها في الجعل ولكنه خلاف الأكثر وهو بغض النظر عن وجود مصلحة في نفس العمل، وبحثه في محله وأنه هل هذا على إطلاقه المصلحة في الجعل أو في بعض الموارد؟ بعض الموارد نعم تكون المصلحة في الجعل ولكن ليس ذلك في كل الموارد، ولا نريد أن بحث في تحقيق هذه الجهة فعلاً، ولكن ما نريد أن نجعله تمهيداً للإشكال أن الأحكام تابعة للملاكات.

فعليه: عندما تقول: عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل جعل للعدم، هذا يتوقف على معرفة الملاك ووجود مقتضي في هذا الحكم بحيث يكون هناك مقتضي لجعل العدم، كما أن هناك مقتضي لجعل الوجوب والحرمة أيضاً لجعل العدم، فدعوى أن عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل هو جعل للعدم هذه دعوى لا تخلو من مجازفة، لأنها تتوقف على معرفة الملاك وهي أمور غيبية لا تُعرف إلا من طريق الشارع، فنحن نعرف بوجود الملاك عند الأمر بدون أن نعرف ما هو الملاك إن لم يبينه الشارع، وكذلك عند النهي، فيكون معرفة الملاك من طرف الشارع حتى لو لم نعرف هوية الملاك، أما من غير وجود الأمر فلا يوجد عندنا ما يدل على الملاك فكيف تقول: عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل جعل للعدم بضرس قاطع أنه جعل للعدم مع أننا لا نعرف الملاك؟

ولهذا السيد الخوئي (ره) في بعض الموارد أشكل بهذا الإشكال أو قريب منه، مثلاً: في بحث الضد هناك بعضهم استدل بالملاك، يعني إن لم يوجد أمر، إذا أمر الشارع بإزالة النجاسة مثلاً وقلنا أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده والصلاة ضد الإزالة فيكون هناك نهي عن الصلاة، إذا لم نقل بالاقتضاء فهنا البعض ولعله صاحب الكفاية (ره) قال إن لم يوجد نهي لم يوجد أمر فلا تصح الصلاة، يعني إذا أُمر بالإزالة في هذا الوقت إن لم يوجد نهي عن الصلاة لا يوجد أمر بالصلاة، لأنه يستحيل بالإزالة وبضدها والمكلف غير مستطيع وغير قادر على ذلك، هذا تكليف بما لا يطاق، فقال: إن لم يوجد نهي فلم يوجد أمر بالصلاة وإذا لم يوجد أمر بالصلاة أيضاً لا تصح الصلاة.

بعض الأعلام قال: تصح الصلاة بقصد الملاك، الصلاة فيها ملاك وفيها محبوبية بحد ذاتها، فعليه عندما يقصد هذه المحبوبية ويقصد الصلاة بهذا الملاك تصح الصلاة.

السيد الخوئي (ره) أورد على هذا: بأنه مع تسليم عدم وجود الأمر كيف اكتشفتم الملاك، فالملاك نحرزه من وجود الأمر، ومع عدم وجوده لا نستطيع أن نعرف الملاك، هذا الإشكال الذي أورده في بحث الضد يمكن أن يوجه له هنا، بحسب التقريب الذي ذكرناه، عدم جعل الحكم هنا فقط لم يجعل الحكم بالضمان لو صح هذا الكلام، أو لم يُجعل الحكم في جواز الطلاق بيد الزوجة أو الحاكم الشرعي عند عدم الإنفاق، عدم جعل الحكم، فلا يوجد حكم حتى استكشف الملاك، كيف قلت عدم جعل الحكم هو علم بجعل العدم، يعني علم بجعل حكم.

حاصل الكلام: إن الأحكام تابعة للملاكات ثبوتاً ويدل على الملاك إثباتاً وجود الحكم الشرعي، ومع عدم وجود الأمر أو النهي إثباتاً لا نستكشف الملاك، فهنا عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل يتوقف على معرفة الملاك ثبوتاً أو وجود جعل يدل عليه بالإثبات.

ثانياً: إن الدعوى هكذا: عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل جعلٌ للعدم، هنا قُيد في المورد القابل للجعل، أيضاً يأتي الكلام: كيف عرفتم بأن هذا المورد قابل للجعل؟ هذا أيضاً يتوقف على معرفة الملاك، وهو أمر غيبي، بما نحن نتصور بأذهاننا أن هذا المورد قابل للجعل، يعني نتصور مثلاً بأنه إذا شخص أمسك بحرٍ لم يكن أجيراً ففر طيره أو غزاله أو عبده، هنا تقول: هذا المورد قابل لجعل الضمان، من أين عرفتَ هذا؟ ما عندنا مستند عليه، فنفس الكلام الذي تقدم في الإشكال الأول يأتي في القسم الثاني في الدعوى.

ثالثاً: نقول: بأن هذه الدعوى أساساً عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل جعل للعدم، عدم جعل الحكم لا يدل على الجعل لا بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام، من أين هذه الملازمة، عدم الجعل هو أمر عدمي هو جعل لعدم وهو أمر وجودي وهما متناقضان، كيف يكون النقيض دالاً على نقيضه، عدم جعل الحكم جعل للحكم بالعدم متناقضان، لا دلالة فيه.

إذاً: هذه الدعوى لا يمكن الأخذ بها جملة وتفصيلاً.

النقطة الثانية: في كلامهم أن السيد الخوئي (ره) وكذلك أيضاً بعض الأعلام تمسك بما ورد من أن الشارع لم يترك شيئاً بلا حكم، يعني هذه النتيجة التي ذهب أليها عدم جعل الحكم في المورد القابل للجعل جعل للعدم، بلحاظ أن الشارع لم يترك شيئاً إلا وجعل فيه حكماً، مضمون الرواية (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا ونهيتكم عنه) عن الرسول صلى الله عليه وآله، أو (ما من واقعة إلا ولها حكم) فعليه: يمكن أن نشكل لبيان الاستدلال قياساً، بأن الله تعالى لم يترك واقعة إلا وجعل لها حكماً وهذه واقعة فلها حكم فإذا كان لها حكم إذاً عدم جعل الحكم هو جعل للعدم.

نقول: صحيح بأن الله تعالى لم يترك حادثة إلا وله حكم، لكن هل هذا يدل على ما ذهب إليه أو لا؟ نقول: لا يدل عليه، يدل على أنه لا توجد واقعة إلا ولها حكم ولكن ما هو حكمها؟ عندما لم يجعل الحكم ما هو الحكم؟ هل هو جعل العدم أو غيره؟ لا نعلم، يعني نحن نعلم بأن الوقائع لها أحكام ولكن ما هو نوع ذلك الحكم؟ هل هو جعل العدم أو هل هو استباب أو وجوب أو كراهة أو إباحة أو حرمة؟ لا نعلم بذلك، وما يفيدكم هو جعل العدم، من أين؟ بمجرد أن الله تعالى لم يترك أمراً إلا وله حكم، من أين عرفتم أن الحكم هو جعل العدم؟ الكبرى مسلمة ولكن المشكلة في التطبيق على الصغرى.

بل نقول والله العالم: بأنه لعله المراد من أنه لا توجد واقعة إلا ولها حكم شرعي، أنه في الواقع الله تعالى لم يترك واقعة من الوقائع إلا وجعل فيها حكماً أحد الأحكام الخمسة، هذا أمر واقعي، لكن نحن لا نعرف هذه الأحكام إلا من طريق الشارع، وعلى مضمون الرواية التي ذكرناها هذا بلغه النبي صلى الله عليه وآله، ولكن هل بلغه للكل أو لخصوص المعصوم، يعني هل الرسول صلى الله عليه وآله بلغ جميع أحكام الشريعة في عصره لعامة الناس؟ نقول: لا، هناك أحكام ستأتي في المستقبل ولم يوجد لها ذكر في كلام النبي صلى الله عليه وآله ولكن بلغها لوصيه بحيث إن الوصي يعلم كل الأحكام التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وآله، نعم هذا صحيح، فمتى نصل إلى الذي ذكروه؟ نصل لو أحرزنا بأن الرسول صلى الله عليه وآله أو الأئمة عليه السلام بلغوا جميع الأحكام في جميع الوقائع واستطعنا حصر كل هذه الموارد واستقرئنا كل هذه الموارد مع كل هذه الأحكام وهذا المورد لم يُجعل فيه فإذاً هو حكم بالعدم، فتحتاج الدعوى إلى مثل هذه الأمور، لكن أنى لهم ذلك؟ غايته أن الله تعالى لم يترك واقعة إلا وجعل فيها حكماً ولكن هذه الأحكام مخزونة ومحفوظة بعضها وصل إلينا وعرفناه، وبعضها مخزون عند الأئمة عليه السلام، هذا المخزون بحسب التدريج بلغوه في زمانهم، وقسم آخر مخزون عند الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه وجعلنا الله من أنصاره وأعوانه، عندما يخرج سيبين هذه الأحكام، ولهذا ورد بأنه يأتي بدين جديد.

ويؤيد هذا الذي نقوله، ويبعد ما قالوه: بأنه على ما ذكرتم يمكن أن يُنقض عليكم بمثل موارد البراءة، فموارد البراءة نحن نشك الحكم هل جُعلت الحرمة أو لم يجعل أو هل جعل الوجوب أو لم يجعل؟ نقول: أنت تبني على البراءة، رفع عن أمتي ما لا يعلمون أو قبح العقاب بلا بيان، في الشبهات الوجوبية أو التحريمية، بحسب دعواكم هنا ينبغي أن تقولوا، بما أننا لم نعلم بالجعل فعدم الجعل هو جعل للعدم، لا يمكن القول به، عدم الجعل قطعاً أنه لم يجعل له حكم، من أين لكم هذا، قلا هذا يتوقف على معرفة جميع الجوانب وجميع الأحكام بحيث تستطيع أن تقل بأن هذه الأحكام هي التي بلغها النبي وأهل بيته علهم السلام وغيرها لم يبلغوا فتقول عدم الجعل هو حكم بالعدم، أو تقول: لا أعلم، يعني عدم علمي بالجعل هل هو جعل للعدم؟ نقول: لا، بدليل أنكم تتمسكون بالبراءة في مواردها، فمثلاً بالشبهات الحكمية هل تعلم بعدم الجعل، يعني عدم الجعل جعل للعدم؟ أو عدم معرفتك بالجعل هو جعل للعدم؟ إذا ادعيت هذه الدعوى فلا تحتاج للبراءة لأنك تعلم بعدم الجعل وعلمت بجعل العدم، فلا تحتاج للبراءة، فالتمسك بالبراءة معناه أنك تقول: عدم علمي بالجعل موضوع للبراءة، إذاً كيف هنا تقول عدم الجعل، هل تقصد عدم العلم بالجعل أو تقصد العلم بعدم الجعل؟ العلم بعدم الجعل هذا يتوقف على معرفة الأمور، أما عدم علمك بالجعل أيضاً ليس علماً بعدم الجعل، بدليل أنكم تتمسكون بالبراءة.

مضافاً إلى هذا: أن الأحكام كما قلنا إنه من جملتها الإباحة وهي اقتضائية ولا اقتضائية، فعدم الجعل هنا كيف يكون جعلاً للعدم؟ هل يعني أنه جعل للإباحة وهي تحتاج للاقتضاء؟ نفس الكلام يأتي.

إذاً هذه الدعوى التي أفادها السيد الخوئي (ره) وأيضاً بعض الأعلام من المعاصرين (حفظه الله) لا يمكن الأخذ بها والتسليم بها جملة وتفصيلاً.