الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/08/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

الأدلة النقلية في حرمة إضرار النفس:

كان الكلام في حرمة إضرار النفس، وقلنا سابقاً بأن إضرار النفس على أنحاء ثلاثة: الأول: ما يوجب هلكة النفس وهذا لا إشكال في حرمته، الثاني: أن يسبب تلف عضو وهذا أيضاً محرم في الشريعة، الثالث: ما يسبب ضرراً ولكنه لا يصل إلى الأولين.

قلنا إن الشيخ الأنصاري (ره) استدل على حرمته بالأدلة العقلية والنقلية، وقلنا إن السيد الخوئي (ره) رد عليه أن العقل لا يمنع من ذلك والعقلاء يمشون على ذلك.

قلنا إنه العقلاء عندهم لا مبغوضية في الإضرار بنحو مطلق، وإنما عندهم موازنة بين الضرر والمنفعة، فإذا كان هناك ضرر ويترتب عليه منفعة أهم منه فهنا لا يمنعون من إخال الضرر على النفس بهذا المقدار، أما لو فرضنا أنه هناك ضرر ولا يصل إلى درجة أحد الأمرين المتقدمين ولا ترجى منفعة منه هنا لا يقبلون به ويذمون من يقوم به، كما أنه أيضاً لا يمكن أن نقول بنحو الإطلاق كما قاله الشيخ الأنصاري (ره) بل إذا أردنا أن نستند إلى العقلاء فعندهم موازنة وعلى طبقها لا يمنعون من الضرر.

وبالتالي نقول: إنه على كلا التقديرين لو فرضنا أنهم ذموا، هل هذه سيرة عقلائية أو بناء عقلائي أو كمرتكزات عقلائية مقبولة أو حجة في نفسها أو تحتاج الإمضاء كسيرة العقلاء؟ فلا نحرز وجود مثل هذه السيرة في زمن المعصوم وأنها أمضيت، هذا تقدم الكلام فيه.

الكلام الآن بالنسبة إلى ما يستفاد من الروايات:

هل نستفيد حرمة الضرر للنفس أو لا؟ هنا الروايات التي يمكن أن يستدل بها طائفتان:

الطائفة الأولى: هي رواية لا ضرر وما يرتبط بهذا المعنى، وفي رواية لا ضرر جملتان جملة لا ضرر وجملة ولا ضرار وفُسّرت بلا إضرار أو وردت في بعض الروايات بلا إضرار.

أما بالنسبة إلى لا ضرر فكما تقدم قلنا إن المستفاد منها نفي الحكم الضرري عند الشارع، فهذه الجملة لا ربط لها بحرمة إضرار النفس لأنها أجنبية عن هذا.

أما الجملة الثانية: وهي لا ضرار، ويعتمد على المراد منها، مثلاً السيد الخوئي (ره) يستفاد من كلماته أن مفاد لا ضرار هو ألا يكون الإنسان في صدد الإضرار بالغير، على هذا المعنى نستفيد حرمة الإضرار بالغير بالأولوية، إذا حرمنا أن يكون في صدد الإضرار بالغير فمن باب أولى أن نحرم الإضرار بالغير، فعلى هذا لا تدل على حرمة إضرار النفس، لأنه أساساً هي استفيد منها حرمة الإضرار بالغير من طريق الأولوية فلا نستفيد حرمة الإضرار بالنفس.

وقلنا سابقاً في معنى لا ضرار بعد ملاحظة الجملتين: أن المستفاد منها أساساً أن الشارع كأنه يقول هكذا: لم نجعل عليك أيها المكلف حكماً ضررياً وأيضاً لا تضرر غيرك، فلا ضرر تعني أن الشارع لم نجعل عليك ما يوجب الضرر، ومعنى لا ضرار أنه ليس لك أن تضر غيرك، وليس معناها أنه في صدد الإضرار يعني يحرم عليه أن يكون في صدد أو في مقام الإضرار بالغير فتكون حرمة الإضرار من باب أولى، بل معناها أنه ليس لك الإضرار بالغير، وهذه أجنبية عن الإضرار بالنفس، إلا أن تُدعى الأولوية بين الإضرار بالغير والإضرار بالنفس ولكنه هذه الأولوية محل تأمل ولا تستفاد منها.

فالنتيجة: أن رواية لا ضرر لا تدل على حرمة الإضرار بالنفس فلا يمكن الاستدلال بها.

الطائفة الأخرى: ما أوردها السيد الخوئي (ره) عن الكليني في الكافي لبيان علل بعض الأحكام عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل، من قوله عليه السلام: إن الله تعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه رغبة منه فيما حرّم عليهم ولا زهداً فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم ويصلحهم فأحله لهم وأباحه تفضلاً منه عليهم به لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم) فيستفاد من هذه الجملة الأخيرة أن العلة في التحريم هي الضرر، إلى أن قال عليه السلام (فأما الميتة فإنه لا يدمنها أحد إلا ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوته) هذه جملة الرواية، فيمكن أن يستدل بهذه الرواية بحرمة الإضرار بالنفس لكون ظاهرها على أن الإضرار هو علة التحريم، فالحرمة تدور مدار الضرر، لما نستفيد الإضرار أنه هو العلة فالحكم يدور مدار هذه العلة كما يقال أن العلة تعمم وتخصص، فإذا قال مثلاً: لا تأكل الرمان لأنه حامض فهنا المدار على الحموضة فبالنسبة إلى الرمان الحلو لا يكون منهياً عنه وبالنسبة إلى التفاح الحامض يكون منهياً عنه، لأن المدار صار على الحموضة.

هنا حرمت هذه الأمور لكونها ضررية، فمتى ما وجد الإضرار على النفس يحرم، حتى في غير هذه الموارد المذكورة في الرواية كالميتة ولحم الخنزير.

ولكن السيد الخوئي (ره) هنا يقول: التأمل في هذه الرواية يدل على عدم دلالتها على حرمة الإضرار بالنفس، لأن الرواية قالت إن الإدمان على أكل الميتة يسبب ضعف البدن، فترتب الضرر هو على الإدمان، فيلزم أن نقول بعدم حرمة الميتة مع عدم الإدمان، لأن العلة المنصوصة توسع وتضيق كما مثلنا بالرمان الحامض، والتعبير بأنه حرمت الخمر لأنه مسكر فهنا يوسع إلى كل المسكرات غير الخمر.

وهذا الشاهد الأول لا يمكن الالتزام به، فنفس قولك العلة موسعة ومضيقة كما في إسكار الخمر، هنا أضاف السيد الخوئي (ره) وقال: هذا من حيث القاعدة بغض النظر عن حرمة الخمر قليلة وكثيره، فالقاعدة هي أن توسع وتضيق ولكن دلت الأدلة على أنه إذا كان شيء مسكر كثيره فقليله حرام، هذا الكلام بنفسه يأتي في الميتة، بمعنى أنه لو خلينا وهذه الرواية التي حسب الفرض استفدنا منها التعليل يستفاد منها أن الإدمان على الميتة حرام لأنه مضر، أنت تقول: بأنه إذاً لا يحرم إذا لم يدمن نقول نعم على مقتضى القاعدة هو هذا، ولكن الأدلة الأخرى دلت على حرمة الميتة قليلها وكثيرها، فنفس الكلام يأتي هنا أيضاً.

الشاهد الثاني: لو كان الضرر علة للتحريم لكانت الحرمة دائرة مدار الضرر على حسب ما ذكرناه، يلزم من هذا أن القليل من الميتة غير حرام لأنه لا يترتب عليه ضرر، وعلة التحريم هو الإضرار وهذا المورد لا ضرر فيه، وهذا خلاف الضرورة من الدين ولا يمكن الالتزام به من قبل الفقهاء.

نقول: الكلام في هذا نفس الكلام في المتقدم، بمعنى أنه أيضاً فهمنا من هذه الرواية أن علة تحريم الميتة هي الإضرار ولكن استفدنا من الأدلة الأخرى أن الميتة حرام قليلها وكثيرها، فلا يصلح أن يكون شاهداُ.

الشاهد الثالث: يقول بأنا نقطع بعدم كون الميتة بجميع أقسامها مضرة بالبدن، يقول: إن الحيوان إلى غير القبلة تارة يُتعمد ذلك وتارة مع المسوغ ككونه غير قادر على التوجيه للقبلة، كلاهما ذبح إلى غير جهة القبلة الأول يحرم أكله والثاني يجوز أكله، من هذا نعرف أن الميتة ليست مضرة على إطلاقها فلو كانت مضرة على إطلاقها لكانت مضرة حتى مع عدم التمكن من التوجيه للقبلة، فلا يمكن أن يكون مع التعمد مضر ومع عدم التعمد غير مضر، أو مثلاً في حال التمكن من الاستقبال نقول مضر وفي حال العجز نقول غير مضر، هذا لا يتعقل.

هذا الثالث يمكن المناقشة فيه أيضاً، من أنه من أين لنا هذا القطع؟ من أنه جميع أقسام الميتة مضرة، الله تعالى هو الأعلم بالحال فعندما يحرم فنحن نعلم بوجود مفسدة وإن لم نعرفها لأن الأحكام تدور مدار مصالح ومفاسد، ولا مانع من أن يكون هذا المقدار أن يكون أجرى الذبح هنا كما أجراه هناك ولكن هنا للقبلة وهنا على خلاف القبلة، ربما يكون في الواقع هذا الحيوان الذي ذبح على خلاف القبلة فيه ضرر ومنشؤه عدم التوجه للقبلة فلا نقطع بعدم الضرر، خصوصاً إذا قلنا بأن الضرر عام ولم نقتصر على خصوص الضرر البدني، هل المصالح والمفاسد الواقعية يقتصر فيها على خصوص الأمور البدنية فقط أم هناك مصالح ومفاسد معنوية عند الشارع فإذا وسعنا الدائرة فهذا القطع لا مورد له، يعني عهدته على مدعيه.

فإذاً القطع الذي أفاده السيد الخوئي (ره) في هذا الشاهد الثالث أيضاً لا يمكن المساعدة عليه.

أما الشاهد الرابع فسيأتي إن شاء الله تعالى.