الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/07/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

الأقرب من الوجوه في معنى لا ضرر ولا ضرار:

كان الكلام فيما سبق في بيان وجه تعليل النبي صلى الله عليه وآله بلا ضرر ولا ضرار عندما أمر بقلع عذق سمرة ورميه، وذكرنا خمسة أوجه لبيان هذا التعليل والتطبيق، يعني هل ينطبق التعليل على المورد أو لا؟ وكلها كانت موضع مناقشة.

والآن نذكر ما هو الأقرب من بين تلك الأوجه الذي يمكن أن يصار إليه.

وهو ما أفاده العلامة السيد محمد تقي الحكيم (ره) في كتابه القواعد العامة في الفقه المقارن، هناك في الصفحة 70 تعرض للرأي المختار عنده، وقال: بأن التطبيق الوارد في قصة سمرة منسجم تماماً مع القاعدة، والقاعدة هي نفي التشريع الضرري، ولكن التطبيق ليس بجملة لا ضرر، وإنما التطبيق من جملة لا ضرار، وهذه الجهة يختلف فيها عن السيد الخوئي والمحقق النائيني (ره) وغيرهم من الأعلام ويتفق فيها مع ما أفاده السيد الصدر (ره) وتقدم الكلام ومع ما أفاده بعض أعلام العصر (حفظه الله).

وتقريب ذلك: أن جو المحاورة التي جرت بين الرسول صلى الله عليه وآله وبين سمرة من محاولة الاستئذان إذا أراد الدخول فلم يقبل ومحاولة البيع بما شاء من الثمن فلم يقبل ومحاولة التعويض بين هذا العذق في مكان آخر فلم يقبل، ومحاولة التعويض بين هذا العذق والعذق في الجنة فلم يقبل، فهذا الجو للمحاورة الذي دل على امتناع سمرة عن قبول هذه العروض كشف عن نفسية سمرة وأن هذا الرجل يأبى إلا إيقاع الأذى على الأنصاري ومضارته مستغلاً حقه في بقاء النخلة في داره.

واستعمال حقه في الدخول من غير استئذان هذا إنما هو وسيلة من وسائل الضرار، فلو مثلاً النبي صلى الله عليه وآله رفع حقه في الدخول وقال له: لا حق له في الدخول، لا يكتفي سمرة بذلك وسوف يدخل الضرر على الأنصاري من جهة أخرى باستغلال وجود الشجرة وحقه فيها، وسيقول سمرة أن هذا الأنصاري يسرق ثمرة الشجرة أو يقصر في سقيها وغير ذلك من الأسباب المولدة للضرار للأنصاري، ويستغل حقه ببقاء الشجرة.

فإذاً الضرر ليس ناشئاً من حق سمرة في الدخول وإنما الضرار كما يحصل من استغلال حقه في الدخول بغير استئذان وهذا منشأ شكوى الأنصاري، ولكن الإضرار أيضاً يحصل من حكم الشارع بحقه في إبقاء الشجرة نفسها في تلك الدار، لأننا لاحظنا أنه يستفيد من بقاء حقه في الدار من عدة جهات حتى لو مُنع من الدخول بغير استئذان سيستفيد من بقاءها ويضر الأنصاري من جهة اتهامه بسرقتها، فالضرار ينشأ من حكم الشارع في بقاء حقه في هذه الشجرة، لذلك الشارع نفى حكمه ببقاء ذلك الحق، يعني لا حكم من طرف الشارع بإبقاء هذا الحق وإبقاء الشجرة، وطبق على ذلك لا ضرار.

فلا ضرر تنفي الحكم الضرري عند الشارع، ولا ضرار أيضاً تنفي وجود حق يتسبب منه الضرار، وجود الحق وهو نفس إبقاء الشجرة، بما أن منشأ الضرار الذي يدخل على الأنصاري هو حكم الشارع بحق سمرة في إبقاء الشجرة هذا هو منفي، فالشارع ليس عنده حكم ببقاء الشجرة التي تستغل للضرار، وطبق عليها لا ضرار بعد أن صدق على سمرة بأنه رجل مضار.

إذاً التطبيق هو تطبيق للجملة الثانية وهي لا ضرار، ومنشأ التطبيق هو أن وجود حق لسمرة في دار الأنصاري سبب لدخول الضرار على الأنصاري لا فقط من جهة الدخول بلا استئذان بل جهات أخرى ووسائل أخرى للضرار، فالشارع نفى حكمه ببقاء ذلك الحق.

يأتي سؤال، لماذا أمر النبي صلى الله عليه وآله الأنصاري بقلع الشجرة؟ يجيب عن ذلك بأن أمره بقلع الشجرة إنما هو نظير مجيء الأمر بعد توهم الحظر، لما نتوهم الحظر يأتي الأمر، هنا الأمر الذي جاء بعد الحظر لا يستفاد منه ما يستفاد من الأمر الابتدائي فلا يراد منه هنا جعل حكم جديد عندما قال اقلعه، وإنما هو إيذان برفع حقه في إبقاء الشجرة، بمعنى أن الشارع يقول: رفع عنك حقه في إبقاء الشجرة في بيتك مادام هذا الحق مولداً لتعنت سمرة في إلقاء الضرر عليك، إذاً لا حظر عليك في قلعها.

والأمر بالقلع إنما هو بما أن سمرة ليس له حق في دارك إذاً يجوز لك أن ترفع هذه الشجرة من الأساس، هذا حاصل ما أفاده السيد محمد تقي الحكيم (ره) وهو متطابق مع قصة سمرة والتطبيق أيضاً يكون منسجماً معه وهو بعيد عن الإشكال.

فيمكن أن نختار هذا الرأي، وأما الأوجه الخمسة التي تقدم الكلام فيها فهي لا تخلو من المناقشة.

ثم على فرض أننا لم نعلم بجهة التطبيق هل هذا يدل في الاستدلال؟ ذكرنا فيما سبق بأن الشيخ الأنصاري (ره) قال: لا يضر بالاستدلال، يعني عدم معرفتنا لجهة التطبيق لا يضر بالاستدلال، يمكن الاستدلال بها حتى لو لم نعرف جهة التطبيق، وأورد عليه غير واحد من الأعلام أنه إذا لم نعرف جهة التطبيق تكون العبارة مجملة لا نعرف ما المراد منها بالضبط، فإذا كانت كذلك لا يصح الاستدلال بها.

هنا نريد التعليق على هذه الجهة، على فرض عدم تمامية جميع الأوجه بما فيها الوجه الأخير هل يمكن تأييد ما أفاده الشيخ الأنصاري (ره)؟ نقول: نعم، إن جهة التطبيق هي المجهولة وهذا أمر موجود في الروايات، في الروايات يوجد تعليل لبعض الأحكام أحياناً، نحن عندما لا نعرف جهة التعليل هذا لا يضر بأصل المعلل، وذكرنا سابقاً في بعض الموارد ما ذكر في بعض الروايات بهذا المضمون، أنه يكره إتيان الزوجة في الأول من كل شهر ما عدا شهر رمضان فإنه (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) هنا نستفيد أنه مستحب، الرواية بينت أمر أول وهو كراهة مجامعة الزوجة في أول كل شهر، وبينت ثانياً أن مجامعة الزوجة في أول ليلة في شهر رمضان مستحب وليس نفياً للكراهة فقط، عُلل هذا الحكم الثاني بالآية المباركة، لما نطابق بين التعليل والمعلل نحن لا نعرف جهة التطبيق لأننا لو خلينا وهذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) لا نستفيد منها إلا الحلية فقط، يعني على ما ذُكر في بعض أسباب النزول أنه كان إتيان الزوجة محرماً أو في بعض الحالات الآن (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) الحظر ارتفع، هذا الذي نستفيده، كيف كانت علة للاستحباب في شهر رمضان؟ لا نعرف جهة التعليل.

خلاصة ما نريد قوله: إنه لو تتبعنا في الروايات نجد أن هناك تعليلات بحسب ظاهرها لا تنسجم مع المعللات ومع ذلك لا يؤثر في المعلل، ففي المثال الذي ذكرناه نستفيد استحباب المعلل إذا كانت الرواية تامة، حتى لو لم نعلم جهة التطبيق، وهذا لا يؤثر في أصل الاستدلال.

فنقول: يمكن أولاً أن نختار ما أفاده السيد محمد تقي الحكيم بحسب البيان الذي ذكرناه.

ثانياً: بعد التنزل وعدم تماميته نقول: لا يضر الجهل في جهة التطبيق بأصل الاستدلال بالرواية ولا يجعلها مجملة.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة التي اعتبرها البعض تنبيهاً والبعض بحثها في أصل البحث، فإن جهة التطبيق تامة ومنسجمة.

الكلام الآن في التنبيهات: التنبيه الأول:

هو ما أورده الشيخ الأنصاري (ره) فلقد أورد إشكال على لا ضرر ولا ضرار، حاصله: أننا لو استفدنا من لا ضرر قاعدة عامة للزم تخصيص الأكثر المستهجن.

بيان ذلك: لا ضرر ولا ضرار على الفرض استفدنا بأنها قاعدة عامة، وأنها كما سيأتي حاكمة على أدلة الأحكام الأولية، فالأحكام الأولية التي فيها ضرر تحكم عليها لا ضرر، فنقول: بالنسبة إلى مورد الضرر فهي مرفوعة، هذه القاعدة العامة لا ضرر، نلاحظ أن الشارع في موارد كثيرة لم ينفِ الحكم مع كونه ضررياً، مثلاً في موارد الحدود فهي ضررية ومع ذلك فهي تجري، في موارد القصاص أيضاً هو ضرري على المقتص منه مع ذلك تجري، في موارد الديات أيضاً ضررية على المأخوذ منه الدية مع ذلك تجري ولا نطبق لا ضرار، وفي موارد التعزيرات أيضاً ضررية ومع ذلك تجري، أيضاً في تشريع أحكام أخرى مثل الخمس فهو ضرر ونقص من المأخوذ منه ومع ذلك يجري ولا يُرفع بلا ضرر، والزكاة أيضاً كذلك والجهاد كذلك والحج كذلك، أيضاً من هذا القبيل الاجتناب عن الملاقي للنجاسة المتنجس، يعني لو فرضنا هناك ماء مضاف كثير عندما يصاب بالنجاسة نقول: هذا لا يستفاد منه للشرب ويجب إتلافه، هذا أيضاً ضرري على الشخص، أو أحياناً يفيد النقص وقوع النجاسة، كل هذه الأمور التي ذكرناها أحكام ضررية دل عليها الدليل بالإجماع أو الدليل الصحيح الصريح، وكلها لا يجري فيها لا ضرر.

إذاً: يلزم من القول بأن لا ضرر قاعدة عامة مع وجود هذه التخصيصات الكثيرة يلزم منه التخصيص المستهجن، إخراج أكثر الأفراد أمر مستهجن ولا يصدر من الحكيم، هذا هو ما يرد عليها، إذاً يُفترض أن نقتصر في لا ضرر على خصوص الموارد التي عمل بها المشهور أو التي طبقتها الروايات أما في غير تلك الموارد يكون الأمر مجملاً.

بعبارة أخرى: نقول: بعد أن لاحظنا هذه التخصيصات الكثيرة فلا بد أن نقول بأنه لا يراد من لا ضرر ولا ضرار المعنى الذي استفدناه وهو عمومية القاعدة لأنه يستلزم التخصيص المستهجن، فدفعاً للتخصيص المستهجن نقول: لا يراد العموم، وإذا لم يرد العموم ما هو المراد؟ لا نعلم، لم يبين ما هو المراد، إذاً لا بد أن نقتصر في القاعدة في خصوص الموارد المتيقنة التي تمسك بها المشهور فيكون عمل المشهور جابر أو الموارد التي طبقتها الروايات فنأخذها بحسب الروايات، هذا حاصل الإشكال الذي أورده الشيخ الأنصاري (ره).

هذا الإشكال وقع موقع الأخذ والرد من نفس الشيخ الأنصاري (ره) حاول الإجابة عنه، وحاصل ما أفاده في رفع هذا الإشكال:

بأنه أولاً: في الضمن ذكر جواباً ضمنياً، أنه لا نسلم تخصيص الأكثر، ولكن هذا لم يكن هو محط الاعتناء، المهم في الجواب الذي أجابه الشيخ الأنصاري، يقول: تخصيص الأكثر إذا كان بعنوان واحد لا ضير فيه، أما إذا كان لعناوبن مختلفة أو لأشخاص مختلفين فنعم.

بيان ذلك: عندما يقال مثلاً: أكرم علماء البلد ثم يخصص بعناوبن إلا الفساق إلا النحويين إلا كذا وكذا، فيبقى تحت علماء البلد مقدار أقل مما خرج، هذا مستهجن لا إشكال فيه، وتارة يقول: أكرم علماء البلد وهم عشرة معروفون، ثم يقول إلا زيد وعمرو وبكر وفلان وفلان فيخرج سبعة ويبقى ثلاثة، هذا أيضاً مستهجن، وتارة يكون الإخراج لعنوان واحد، يقول: أكرم الناس ثم يخصص من ذلك الفساق فيقول إلا الفساق، هذا المخصص المخرج عنوان واحد وهو الفساق لما نطبقه على الواقع نلاحظ أكثر الناس فساق، إذاً أخرجنا الأكثر ولكن أخرجناه بعنوان واحد فبما أنه كذلك لا يعتبر مستهجناً عرفاً.

ما نحن فيه لا ضرر قاعدة عامة وخرج من تحتها عنوان واحد ولو كان هذا العنوان مجهول ولكن ينطبق على التي ذكرناها الحدود والقصاص والديات والضمان، ولكنها تحت عنوان واحد فهذا العنوان الواحد لا يوجب الاستهجان فيمكن التمسك بلا ضرر كقاعدة عامة ونرفع اليد عن لا ضرر في الموارد التي دل الدليل فيها على عدم نفي الحكم ولو كان ضررياً، هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري (ره) ووقع هذا الكلام في الإشكال وفي الجواب موقع الأنظار عند الأعلام كما سيأتي من كلامهم إن شاء الله تعالى.