الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/06/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

توضيح ما أفاده المحقق النائيني (قده):

كان الكلام فيما أفاده المحقق النائيني (قده)، وقلنا بأنه يرى نفي الضرر ونفي الحكم الضرري من جهة أن الحكم سبب والضرر مسبَّب، فهو نفي للسبب بلسان نفي المسبَّب، وبما أن سبب الضرر هو الحكم فنفي الحكم أي السبب بلسان نفي المسبب أي الضرر.

واعتبر ذلك الاستعمال حقيقياً باعتبار أنه من قبيل الأسباب والمسببات التوليدية كما مضى شرحه، وقلنا: بأن الأعاظم من المعاصرين (حفظه الله) أورد على المحقق النائيني (قده) بعدة إيرادات.

وتقدم الكلام في الإيراد الأول، وحاصله: أن المقام ليس من قبيل الأسباب والمسببات التوليدية، ومجرد كون إرادة العبد مقهورة لإرادة المولى لا يجعلها من قبيل الأسباب والمسببات التوليدية موضوعاً ولا يلحق بها حكماً.

وتوضيح ذلك ملخصاً: بأن الأسباب والمسببات التوليدية هي التي لا يكون بين السبب والمسبَّب أي إرادة لفاعل مختار، فمثلاً: الإلقاء في النار أو إشعال النار موجب للاحتراق، بعد الإلقاء أو الإشعال يتحقق الاحتراق ولا توجد هناك إرادة فاعل مختار بع تحقق الإلقاء.

هذا النوع نسميه بالمسببات التوليدية، المسبَّب يتولد عن السبب مباشرة بلا تدخل أي إرادة أخرى لمختار.

الإشكال يقول: بأن ما نحن فيه بين الحكم الذي هو سبب للضرر وبين الضرر توجد إرادة لفاعل مختار، يعني لما جعل الله سبحانه وتعالى الحكم بوجوب الوضوء هنا جعل الحكم وبمجرد جعل الحكم لا ينشأ الضرر، بل ينشئ الضرر بعد أن يختار المكلف الوضوء ويتوضأ بإرادته هناك يحصل الضرر، فإذاً تخلل هناك فاصل بين السبب والمسبَّب إرادة الفاعل المختار، فعليه: لا يكون هذا من قبيل الأسباب والمسببات التوليدية موضوعاً، فالموضوع يختلف، وأضاف أنه لا يلحق بها حكماً، يعني لا نحمل ما نحن فيه على المسببات التوليدية حكماً وإن كان خارجاً عنها موضوعاً، هذا حاصل ما أفيد مع توضيحٍ منّا.

ولكن قلنا والآن نقول ببيان آخر: إن المحقق النائيني (قده) وإن كانت عبارته يظهر منها أنما نحن من قبيل المسببات والأسباب التوليدية موضوعاً، ولكن يمكن أن نقول: بأنها ملحقة بها حكماً ولا يمكن أن ننفي الإلحاق الحكمي، وذلك: لأن إرادة المكلف مقهورة لإرادة المولى، عندما أراد الله تعالى عندما أراد الوضوء من المكلف أوجبه عليه، هنا المكلف المطيع لله تعالى تكون إرادته مقهورة لإرادة مولاه، فإذا كانت كذلك فوجود عندما أراد الله تعالى عندما أراد الوضوء من المكلف أوجبه عليه، هنا المكلف المطيع لله تعالى تكون إرادته مقهورة لإرادة مولاه، فإذا كانت كذلك فوجود إرادة هذا الفاعل المختار كعدم الوجود أمام إرادة المولى، فعليه: حتى لو كانت عنده إرادة واختيار في فعله وتركه، ولكن بما أنه مطيع وأن الله تعالى ألزمه بالفعل تكون إرادته مقهورة لإرادة مولاه، يعني كأنها غير موجودة.

فعليه: يُلحق ما نحن فيه بالأسباب والمسببات التوليدية حكماً، ولهذا في مثل آية (يذبح أبناءهم) نلاحظ هنا أن فرعون لم يقم بعملية الذبح وإنما هو أمر جنده أن يذبّحوا أبناء بني إسرائيل، إرادة الجنود مقهورة لإرادته بما أنه متسلط ومتجبر وقاهر، إذاً هم مباشرون للفعل وبإرادتهم، ولكن إرادتهم مقهورة لإرادة سيدهم ولما كانت كذلك نُسب الذبح إليه، قال (يذبِّح أبناءهم).

فلو أراد سلطان أن يكتب رسالة لآخر يأمر الكاتب أن يكتب، هو يكتب الرسائل للملوك والعمال، فيقال: كتب السلطان إلى فلان، مع أن السلطان لم يقم بالكتابة بل أمر بها فقط، وهكذا، إذاً عندنا أمور تُنسب إلى الآمر وهذه النسبة أيضاً تكون حقيقية وهذا ما أراده المحقق النائيني، أن تكون النسبة حقيقية فهي ليست من المجاز كما ذكرناه من الأمثلة، فلو قلنا بأنه من المجاز نقول بأنه يلحق به حكماً.

فإذاً الإشكال ربما يتوجه على جعل ما نحن فيه من باب الأسباب والمسببات التوليدية موضوعاً ولكن لا يتوجه الإشكال عندما نقول: بأنه ملحق بالأسباب والمسببات التوليدية حكماً، والشواهد على ذلك كثيرة في الإلحاق، يعني أنه ينسب القتل في المسببات التوليدية إلى من رمى بالرصاص ومن ألقى الثوب في النار بنسب له الإحراق، أيضاً في مثل الأمر بالقتل أو الذبح إذا كانت للآمر سلطة قوية هنا أيضا ينسب إليه، لكن نقول يلحق به حكماً ولا نقول بضرس قاطع أنه بنحو الحقيقة وإنما نقول بنحو المجاز.

ثم في ذيل الإشكال يقول: مضافاً إلى أن ذلك إنما يـتأتى في إرادة العبد المطيع دون العاصي، ومن المعلوم أن الأحكام لا تختص بالمطيعين دون العصاة، لعل المراد: أن العبد المطيع تكون إرادته مقهورة لإرادة مولاه أما العبد العاصي لم تكن إرادته مقهورة لمولاه، إذاً هنا لا ضرر عندما ننفي الحكم الضرري أي السبب بلسان نفي المسبب هذا بالسبة للعبد المطيع أما العاصي فلا.

هذه العبارة إن كان مراده ما ذكرناه فنقول هذا لعله يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، يعني العاصي هو عاصي عنده إرادة أخرى فلا تكون إرادته مقهورة، لا أن الحكم مختص بالمطيعين.

وبعبارة أخرى: أن الحكم في مقام الجعل لا يختص بالمطيعين، وهذا هو المسلَّم عندهم، بل حتى إنه لا يختص بالعالم ولا بالجاهل فالحكم عامٌ للجميع، وأما في مقام الامتثال: ليس عندنا اختصاص بالمطيعين أو بالعاصين، ففي هذا المقام المطيع إرادته مقهورة للمولى أما العاصي له إرادة في قبال إرادة مولاه فيم يجعل إرادته مقهورة لمولاه، وأما المطيع فهو من يجعل إرادته مقهورة لمولاه لما ورد من الأوامر والنواهي وما ورد من العقاب والثواب، وهذا باعتبار أنه في مقام الامتثال يكون خاصاً بالمطيع بهذه الحيثية لا أن الحكم صار خاصاً حتى يرد عليه الإشكال.

الوجه الثاني من الإشكال لبعض الأعاظم (حفظه الله):

يقول: الضرر المترتب على العمل لا يترتب عليه دائماً مباشرة بل العمل قد يكون مجرد معدٍّ للضرر، مثلاً: كما لو كان العمل كالوضوء مما يوجب استعداد المزاج لمرضٍ ما، وحينئذ لا يمكن اتصاف وجوب الوضوء بأنه ضرري بلحاظ توليده للعمل المضر.

بيان هذا الإشكال: هل الضرر يترتب على الوضوء دائماً مباشرة؟ يقول: لا، ليس ترتب الضرر على العمل كترتب الضرر على الوضوء دائمي مباشرة، بل ربما هو يأتي بالوضوء ويتوضأ وهذا الوضوء لا يترتب عليه الضرر مباشرة، أحياناً بمجرد أن يتوضأ يتضرر، في يوم شاتٍ وبردٍ قارص والماءُ باردٌ جداً المولى يقول له يجب عليك الغسل، بمجرد أن يغتسل يتضرر في هذا الظرف، هذا نحو.

نحوٌ آخر: الآن لما توضأ بالماء البارد الآن لم يترتب عليه الضرر مباشرة بل ما أحدثه الوضوء هو الضعف في المزاج فصار مستعداً لأن يتضرر ويمرض، يعني بعبارة حديثة نقول: صارت مناعته ضعيفة فصار قابلاً للضرر، حينئذ لا يمكن أن نصف هذا الوضوء بأنه وضوء ضرري بلحاظ أنه يولد الضرر، إذاً ما أفاده المحقق النائيني (قده) يكون بعبارة منّا أخص من المدعى، هذا حاصل الإشكال مع توضيحه.

ولكن هذا الإشكال أيضاً غير وارد على المحقق النائيني (قده):

وذلك: لأنه لا يخلو الحال بين أمرين، إما أن يقال: بأن ضعف المزاج عن المرض الفلاني إن كان هذا الضعف يُعد عرفاً ضرراً فتشمله لا ضرر ويترتب على هذا الوضوء ضرر مباشرة، نفس الضعف وفقدان المناعة بحيث أقل مرض أو المرض الفلاني يحدث، وإن لم يعد ضرراً عرفاً فلا تشمله لا ضرر لأنه ليس بضرر فهو من السالبة بانتفاء الموضوع، فعلى التقديرين لا يرد الإشكال.

تقول: بأن الضرر ليس بالضرورة أن يترتب على الفعل مباشرة فحينئذ لا يُعد ذلك الفعل كالوضوء ضررياً.

نقول: نعم، إن عُدَّ هذا النحو من الأثر الحاصل المعبَّر عنه بضعف المزاج ضرراً فهذا الضرر حاصل من الفعل فلماذا تنفي كونه ضررياً؟ بغض النظر عن المرض الذي سيحصل من ضعف المزاج، فيشمله لا ضرر، وإن لم يعد هذا ضرراً عرفاً فلا نطبق لا ضرر كغيرها من الموارد التي لا تكون ضررية، إذاً هذا الإشكال أيضاً غير متوجه للمحقق النائيني (ره).

ثم نقول: ثانياً يتوجه على كلا الإشكالين: بأن هذين الإشكالين يردان لو وردا على النحو الأول من البيان الذي فيه مسبب وسبب وقام المسبب مقام السبب أو نفي السبب بلسان نفي المسبب، الذي نصَّ عليه المحقق النائيني (ره)، لكن على النحو الثاني من البيان في نفي الحكم لا يرد هذا الإشكال.

النحو الثاني كما قلنا ونعيده: بأن المنفي هو الضرر، لا ضرر، والمراد هو اللازم وهو نفي الحكم الضرري، وهذا مستعمل عرفاً ونستطيع القول بأنه على نحو الحقيقة أيضاً، يعني استعمال النفي في الضرر في نفي الضرر حقيقي، أحد المرادين نفي اللازم وهو الحكم الذي ينشأ منه الضرر.

بيان ذلك: نبينه بمثال آخر للتوضيح: نقل: لو فرضنا أن صاحب غنمٍ يذهب بها للمرعى وهناك ذئبٌ يأتي كل يومٍ يفترس شاةً ويذهب، مرة ومرتين وفي المرة الثالثة جعل هذا الراعي كميناً لهذا الذئب واصطاده، في اليوم الآخر عندما يريد أن يذهب بأغنامه للمرعى فإذا قال له صاحبه لماذا تذهب للمرعى وهناك ضرر على الغنم؟ فيقول صاحب الماشية: لا ضرر على الغنم، هنا نفى الضرر عن الغنم نفياً حقيقياً، ولكن مقصوده أن سبب الضرر وهو الذئب قد انتفى لأننا صدناه، فهو يخبر صاحبه يقول له: لا ضرر على الغنم، عنده مدلول مطابقي وهو معنى لا ضرر على الغنم، وعنده مدلول التزامي وهو مراد له أن سبب الضرر المتوجه للغنم قد انتفى، هذا استعمال متحقق، أن أنفي الضرر حقيقة وأريد أيضاً انتفاء اللازم، وأن السبب منتفي.

أقول للقوم اللذين معي: اليوم لا خطر عليكم من العدو، ويريد نفي الخطر حقيقةً ويريد أن يخبر بأن العدو ليست عنده القدرة على الهجوم لعلمه بذلك، فلهذا الآن ينفي الخطر عن القوم وينفي أيضاً القدرة عن العدو، فهو ينفي القدرة بلسان نفي الخطر، هنا نفس الكلام.

هنا نقول: من هذا الباب نفي السبب بلسان نفي المسبَّب، لا نريد أن نجعل سبباً ومسبباً نقول: نفي الضرر حقيقةً والمقصود نفي سبب الضرر، هذا النحو من الاستعمال استعمال معروف ومتعارف عليه ومشهور ويمكن استعماله ولا يرد عليه هذان الإشكالان اللذان تقدما.

فإذاً توصّلنا إلى الآن: بأن ما أفاده الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني والسيد الخوئي (رحمهم الله) وغيرهم من الأعلام، بأن لا ضرر تنفي الحكم بلسان نفي الضرر المراد لا حكم ضرري إلى الآن هو معنى صحيح وتامٌ، والدليل عليه: أولاً: هو في حد نفسه صحيح وتام، ثانياً: أن نفس صدور هذا النفي من قبل الشارع فنحن نقول: هو الشارع يتكلم بما هو شارع ومن شأنه أن يجعل الأحكام، فعندما يقول: لا ضرر وينفي الضرر حقيقة وبالتالي ينفي الحكم، فنفي الحكم لا بلسان نفي الموضوع كما سيأتي في كلام المحقق الآخوند (ره) بل بلسان نفي السبب، أو نقول: نفي للحكم مباشرة، يريد أن يقول: لا حكم ضررياً.

نفس كونه شارعاً ومن شأنه أن يجعل الأحكام الشرعية فعندما يتلفظ بالنفي في لا ضرر يريد أن ينفي الحكم ولا يريد أن ينفي شيئاً آخر، هذا تمام الكلام فيما أفاده الأعلام في هذه الجهة ويأتي البحث إن شاء الله تعالى فيما أفاده المحقق الآخوند (ره).