الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/06/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

الاحتمال الثالث في معنى لا ضرر ولا ضرار:

كان الكلام في محتملات لا ضرر ولا ضرار، وتقدم الكلام في الاحتمال الأول وهو ما أفاده السيد المراغي صاحب العناوين وشيخ الشريعة الأصفهاني (قدهما) من أن (لا) هنا بمعنى الناهية، يعني هنا تفيد النهي.

وأيضاً تقدم الكلام فيما ذكره الفاضل التوني وهو أن المقصود من لا ضرر خصوص الضرر غير المتدارك هو المنفي.

والكلام الآن فعلاً في الاحتمال الثالث:

وهو ما اختاره الشيخ الأنصاري (قده) ونسبه إلى فهم العلماء، كما سننقل عبارته فيما بعد، وتبعه في ذلك غير واحد من الأعلام والمحققين المتأخرين، منهم المحقق النائيني (قده) والمحقق السيد الخوئي (ره).

وحاصل هذا الاحتمال: أن (لا) هنا نافية وتنفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر، وهذا يختلف عن الأول بشكل واضح، لأن تلك يستفاد منها النهي ويختلف عن الثاني لأن الثاني نفي لخصوص الضرر غير المتدارك، وهنا نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر.

قال الشيخ (قده) في كتابه الرسائل: (إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة)، وإرادة الحقيقة يظهر منه أنه ل ايمكن أن يراد نفي الضرر في حد نفسه طبيعة الضرر، لأن هذا مخالف للوجدان، الضرر موجود في الواقع وفي الخارج، إذاً لا ضرر لا يراد منها نفي حقيقة الضرر، إذا لم يرد هذا المعنى الحقيقي يكون عدم تشريع الضرر، أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر، بمعنى أن الشارع لم يشرع حكماً يلزم منه ضرر على أحد تكليفياً كان أو وضعياً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينفى بالخبر، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك، أيضاً يلزم منه ضرر على الشريك، وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلا بثمن كثير فينتفي وجوب الوضوء، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري، نفس سلطنة سمرة في الرواية وهو مالك للنخلة، سلطنته على الدخول إلى عذقه بدون استئذان من الأنصاري يلزم منه الضرر على الأنصاري، وكذلك حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه، إلى أن قال والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأول.

فإذاً في ذيل عبارته استشهد بعدة أمور:

أولا: بملاحظة نفس الفقرة.

ثانياً: بنظائر هذه الفقرة.

ثالثاً: موارد ذكرها في الروايات.

رابعاً: فهم العلماء.

هو المعنى الأول الذي هو نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر، هذا ما ذكره في الفرائد في الرسائل.

وللشيخ رسالة في لا ضرر قال فيها: (الثالث: أن يراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد وأنه ليس في الإسلام مجعول ضرري، وبعبارة أخرى: حكمٌ يلزم من العمل به الضرر على العباد) يعني الشارع لم يجعل حكماً يلزم من العمل به الضرر على العباد، مثلاً: يقال: إن حكم الشرع بلزوم البيع مع الغبن ضرر على المغبون فهو منفي في الشريعة، وكذلك وجوب الوضوء مع إضرار المكلف حكم ضرري منفي في الشريعة، هذا ما أفاده الشيخ في كتابه الرسائل لمن أراد أن يراجع الطبعة الجديدة الجلد الثاني صفحة 460، والرسائل الفقهية رسالة في لا ضرر الصفحة 114، هذا ما أفاده الشيخ، طبعاً بحسب نقل الشيخ من قوله فهم العلماء أن هذا الرأي مسبوق به الشيخ، وأنه هو الذي يفهمه العلماء السابقون على الشيخ.

ولكن الشيخ كأنه حرره ورتبه فينسب إلى الشيخ، يعني عندما يتعرض الأصوليون المتأخرون لحديث لا ضرر يذكرون الاحتمالات من جملتها ما أفاده الشيخ، أو هكذا يقولون، المهم هو مسبوق.

طبعاً هذا كله بعد رفع اليد عن المعنى الحقيقي، يعني لا ضرر نفي لحقيقة الضرر، هذا لا يمكن المصير إليه لمخالفته للوجدان، بعد ذلك الشيخ قال: إنه ينفى الحكم الذي ينشأ منه الضرر، هذا المعنى الذي اختاره الشيخ يمكن أن يبين بأنحاء ثلاثة:

النحو الأول: أن تُقدر كلمة حكم، فنقول: لا حكم ضررياً، المقصود لا حكم ضررياً، أو لا حكم ينشأ منه الضرر، فنقدر كلمة حكم، فيكون هنا الاستعمال مجازياً من حيث الحد والتقدير، لأن فيه تقدير يكون هذا الاستعمال مجازياً، نظير قوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها) هنا بالطبع أنه لا يسأل الجدران والبنيان، وإنما يسأل أهل القرية، فهناك قُدّر ما يناسب المضاف إليه وهو القرية، وهنا أيضاً يقدر لا ضرر يعني لا حكم ضرري، وعادة التقدير عندما يُقدر كلمة محذوفة تكون من باب دلالة الاقتضاء، يعني الكلام لا يتم عقلاً أو شرعاً فنحتاج إلى تقدير كما هو الحال في الآية المباركة (واسأل القرية) هنا لا يتم المعنى إذا كان السؤال لنفس القرية فلهذا نقول أنه هناك مضاف محذوف وهو كلمة أهل، واسأل أهل القرية.

هنا من هذا القبيل لا ضرر فالضرر حقيقة موجود وصدر الضرر ولكن حقيقة المقصود هو لا حكم ضرري يعني نقدر كلمة حكم، هذا النحو الأول من البيان.

طبعاً هذا المعنى يمكن أن يُستبعد إن لم نقل إنه بعيد في نفسه، وذلك: لأن التقدير لا بد أن يكون مناسباً للمذكور للمضاف إليه، إن كان مثل القرية هنا لا بد أن يكون هذا التقدير مناسباً للمضاف إليه، واسأل أهل القرية، فلا بد إذاً في تقدير كلمة محذوفة أن يكون المحذوف مناسباً للمذكور، بحيث يصح المعنى ويتم كما قلنا في كلمة أهل بالنسبة إلى القرية، هنا ليس كذلك لأنه هنا إذا جمدنا على التقدير فالمفروض نقول: لا حكم ضرر، فهناك كلمة القرية لم نتصرف فيها وإنما ذكرنا محذوف مضاف إليه مناسب، هنا إذا نريد أن نقدر فقط محذوف يكون مناسباً ونبقي المذكور على ما هو عليه المناسب أن نقول: لا حكم ضرر، وهذا لا محصل له، فلهذا من قدر يضطر أن يقول: لا حكم ضررياً، ضررياً تصرفت إذاً في كلمة ضرر، ليس فقط تصرفت في الحذف وإنما تصرفت في ضرر، فلا ضرر أصبحت ضررياً، وأضفنا كلمة حكم حذفناها، لا حكم ضررياً.

فإذاً هذا المعنى بعيد، يعني عندما نريد أن نقدر كلمة حكم فكما قلنا هذا التقدير عادة يكون بدلالة الاقتضاء لأن الكلام لا يتم إما عقلاً لا يتم وإما شرعاً لا يتم، فنحتاج إلى تقدير، هنا لا حكم ضرر لا معنى له، إذاً هذا النحو من الأول ينبغي أن يستبعد من البيان.

النحو الثاني: أن يكون المراد من الضرر سبب الضرر، الذي هو الحكم، فهنا يكون إطلاق الضرر مسامحة وتجوز في نفس إطلاق الضرر، حيث أنه أطلق الضرر وأريد منه سبب الضرر، الآن هذا الحكم لزم منه الضرر وتسبب في الضرر، كان سبباً للضرر، الحكم بلزوم المعاملة كان سبباً للضرر، فأطلق الضرر لا ضرر ونفي لكن المقصود نفي سببه وهو الحكم من باب استعمال المسبَّب وإرادة السبب، وهذا أمر مشاع في الاستعمالات العربية، مثلاً يقال لمن ألقى الثوب في النار: أحرق الثوب، مع أن الإحراق مسبَّب عن الإلقاء، يعني السبب هو الإلقاء في النار ثم تحقق الاحتراق بالنار، فهنا تحقق الاحتراق بالنار، أطلق المسبب وهو الإحراق وأريد منه السبب وهو الإلقاء، أيضاً مثلاً إطلاق القتل على من رمى الرصاصة نحو الغير، فيقول مثلاً: قتله زيد، زيد ألقى الرصاصة هنا إلقاء، القتل بعد ذلك مسبَّب عن الإلقاء، فهذا المسبَّب وهو القتل ذُكر وأُريد منه السبب، عندما نقول قتله زيد يعني الذي ألقى الرصاصة هو زيد، فأطلق المسبَّب وأريد السبب.

إذاً هذا مستعمل، إطلاق المسبب وإرادة السبب مستعمل، كما أن العكس كذلك مستعمل، إطلاق السبب وإرادة المسبب، كلاهما مستعملان في اللغة العربية، فهذا النحو الثاني، وهو يختلف عن الأول، فالنحو الأول مجاز ولكن في الحذف والتقدير، يعني بتقدير كلمة حكم، أما هنا المجازية في نفس الضرر، أطلق الضرر وأريد سببه، فهنا يكون مجازاً من هذه الجهة.

النحو الثالث: أن يكون المراد نفي نفس الضرر حقيقة، لا ضرر نُفي الضرر، ولا نقول أطلق وأريد سببه، بل نُفي الضرر حقيقة ولكن المقصود الأصلي هو الإخبار عن نفي سببه وهو الحكم الشرعي، هذا النحو الثالث يختلف عن النحو الثاني، ففي النحو الثاني قلنا: أطلق الضرر المسبب وأريد السبب، فهنا صار مجازاً في الكلمة نفسها، بحيث صار استعملنا المسبب محل السبب، هنا في النحو الثالث نريد الضرر حقيقة ولكن المقصود ليس هو الإخبار عن نفي الضرر الواقعي بل المقصود هو نفي الإخبار عن سببه فننفي الضرر حقيقة لأننا ننفي سببه حقيقة والسبب هو الحكم الشرعي، وهذا أيضاً أمر مستعمل في لغة العرب ففيها ينفون شيء ولكن ينفونه لأن السبب منفي، فهو ينفي المسبب حقيقة ولكن لأجل نفي السبب، هو يعلم يقول إنه اليوم مثلاً لا يأتي زيد للدار، ينفي مجيء زيد للدار لأنه يعرف نفي السبب أنه لا يوجد عنده الوسيلة فهو ينفي المسبب حقيقة ولكن الغرض منه نفي السبب فيمكن هذا الاستعمال أمر موجود يعني النفي حقيقة صب على الضرر كما هو، يعني لا ضرر النفي صب على الضرر حقيقة ولكن المقصود الأصلي ليس هو الإخبار عن نفي الضرر المقصود الأصلي هو الإخبار عن نفي الحكم الشرعي الذي هو سبب للضرر، فينفي الضرر فالنتيجة أنه نفى الحكم الشرعي.

هذا النحو الثالث من البيان.

حاصل المراد من هذه البيانات:

أن نقول هكذا: الحديث دال على نفي جعل الحكم الضرري، سواء أكان الضرر ناشئاً من نفس الحكم مثل الحكم بلزوم المعاملة الغبنية، وقع غبن من البائع على المشتري، الشارع إذا حكم بلزوم هذه المعاملة هنا لا يستطيع المشتري أن يرد وليس له الخيار، فيقع في الضرر، سبب الضرر هو حكم الشارع باللزوم، لما حكم بلزوم المعاملة صار هو سبب الضرر، يعني ليس سبب الضرر هو نفس الغبن لأنه إذا حكم الشارع بالجواز لم يتضرر المشتري، صحيح البائع أراد أن يغبنه ولكن الشارع يقول للمشتري لك الخيار رد المبيع وافسخ المعاملة. فإذاً سبب الضرر صار هو نفس الحكم باللزوم، هذا الحكم الوضعي وهو الحكم باللزوم صار منشئاً للضرر فالشارع يحكم بنفيه ويقول: لا يوجد حكم ضرري عندنا فهذا الحكم باللزوم منتفي، فيكون الضرر ناشئاً من نفس الحكم.

فنحن نقول سواء أكان الضرر ناشئاً من نفس الحكم أم كان ناشئاً من متعلق الحكم كالوضوء الموجب للضرر، الحكم وجوب الوضوء المتعلق نفس الوضوء، الضرر ناشئ من المتعلق من الوضوء ولم ينشئ من نفس الحكم وإنما نشئ من المتعلق من نفس الوضوء، هذا الوضوء يوجب الضرر، بما أنه أيضاً الضرر ناشئ من متعلق الحكم فبالنتيجة يرجع إلى الحكم هذا الحكم أيضاً منتفي، فالشارع فيما إذا كان الحكم منشئاً للضرر كالحكم باللزوم يرفعه فيرتفع اللزوم وفيما إذا كان الضرر ناشئاً من المتعلق متعلق الحكم أيضاً الشارع يرفع الحكم الضرري.

إذاً هذه الاحتمالات الثلاثة الموجودة في هذا الرأي يعني في مبنى الشيخ الأنصاري(ره) ومن تبعه، هناك إشكالات أوردت، يعني بعضهم مثلاً المحقق النائيني أورد على نفسه ودفعه، إشكالات ترد على هذه البيانات.

طبعاً الاحتمال الأول نفيناه لأنه لا يتناسب مع هذا التقدير، ولا يتناسب مع الجملة إلا أن ت=نتصرف في نفس الجملة وهذا خلاف الحذف والتقدير المطلوب، فيبقى عندنا البحث في النحو الثاني والنحو الثالث، فإن تمت الإشكالات عليه ينتفي أيضاً هذا الرأي وننتقل إلى الاحتمال الرابع، وإن لم تتم هذه الإشكالات يتم ونتعرض أيضاً للاحتمال الرابع الذي هو ما أفاده الشيخ الآخوند (قده)، نكتفي بهذا المقدار.