الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/05/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

البحث في رواية (لا يُمنع فضلُ ماءٍ):

انتهينا من الكلام حول حديث الشفعة، وبقي الكلام في حديث لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وكما ذكرنا بأن السيد الخوئي (ره) والمحقق النائيني (ره) ذهبا إلى أن لا ضرر ولا ضرار في هذا الحديث أيضاً هي من باب الجمع بين الروايات وليست واردة في لسان المعصوم عليه السلام، وذكر السيد الخوئي (ره) لذلك وجهين، وقبل ذكر الوجهين نقرأ الرواية من جديد.

الرواية طبعاً من حيث السند تقدم الكلام فيها وضعفها غير واحد من الأعلام وذهبنا إلى القول باعتبارها.

(عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشيء، وقضى صلى الله عليه وآله بين أهل البادية أنه لا يُمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار)

هنا الكلام في هذه الجملة هل أن (وقال: لا ضرر ولا ضرار) هي تعليل إلى (وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء) يعني هي متصلة بها في لسان النبي صلى الله عليه وآله أو في لسان الإمام عليه السلام، أو أنه الراوي هو الذي جمع، هناك قضاء خاص ببين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء وهناك قضاء آخر لا ضرر ولا ضرار، والراوي جمع بينهما؟

شيخ الشريعة الأصفهاني (ره) كما تقدم كان يذهب إلى أن أصحاب الكتب هم الذين جمعوا، المهم أنه لم يرد على لسان النبي صلى الله عليه وآله ذلك، وهو من باب الجمع بين الروايتين، وهذا كما قلنا ذهب إليه المحقق النائيني والمحقق الأصفهاني والمحقق السيد الخوئي (ره).

والآن البحث في الجهات غير القرينة الخارجية التي ذكرها شيخ الشريعة وتقدم الكلام فيها، الكلام الآن في القرينة الداخلية فالسيد الخوئي والمحقق النائيني ذكرا في ذلك وجهين للدلالة على أن لا ضرر جملة أخرى.

الوجه الأول: يقول كما في المصباح: إن الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ماءه عن الغير، فإن منعه لفضل ماءه لا يعد ضرراً عرفاً وإنما هو عدم انتفاع وفرق بين الأمرين، تارة هناك ضرر يتوجه على الشخص فهذا مرفوع لا ضرر ولا ضرار، وتارة عدم نفع للشخص هنا لا يرتفع بلا ضرر ولا ضرار، يعني لا ربط للا ضرر لا ضرار به، ومثلنا سابقاً كمثال توضيحي أنه تارة شخص يدخل الضرر على صاحب الدكان مثلاً في سبب من الأسباب، وتارة يفتح دكاناً في مقابله في نفس المحلة الذي هو فيها، هنا بالضرورة سيقل نفعه يعني بحسب العادة أنه إذا كان يربح في اليوم ألف دينار مثلاً لكثرة الزبائن الآن ستتفرق هذه الزبائن قسم له وقسم للآخر الذي فتح جديداً، فيكون مثلاً ربحه اليومي خمسمائة دينار، هنا يعني لم يربح الألف يعني لم ينتفع ولا يقال أنه تضرر، وإن كان الناس تسامحاً يقولون تضرر، ولكن في الواقع والحقيقة هو لم يتضرر، هو لم يكن يربح كما كان يربح، هذا نسميه عدم الانتفاع.

لا ضرر لا تنطبق في الموارد التي يكون فيها عدم انتفاع، وإنما تنطبق على خصوص الموارد التي يكون فيها الضرر، وما نحن فيه لا يمنع فضل ماء، هنا عدم انتفاع وليس ضرراً، والسر في ذلك أنهم فسروا أن المقصود من الرواية بأنه إذا كان الشخص عنده بئر مثلاً في الصحراء وبجانب هذا البئر يوجد عشب للأنعام فهنا إذا الشخص يمنع غيره من فضل ماءه هو بمقدار أن يشرب أن يسقي أغنامه ويفضل في البئر كثير، إذا منع الآخرين من الشرب من فضل ماءه سيمتنع أيضاً الآخرون عن الكلاء، لأنه من الطبيعي أن الأغنام إذا أكلت تحتاج للماء، فإذا علموا أن هذا الشخص يمنع من شرب فضل ماء بئره بالضرورة أنهم سوف لن يرعوا في ذلك المكان، هنا لم يحصل لهم نفي، يعني هو منعهم عن شرب الماء فهنا لم ينتفعوا لا أنهم تضرروا.

عليه: لا ضرر لا تنطبق، الرواية تقول لا يمنع فضل الماء ليمنع بذلك فضل كلاء، هنا لم يتضرر حتى يقال لا ضرر ولا ضرار، وإنما لم ينتفعوا فإذاً لا ضرر لا تنطبق على المورد، فكيف تكون علة له وكبرى له؟ لا يصح ذلك، أنه إذا لم تكن علة ولم تكن كبرى وتطبق عليه، إذاً هي ليست واردة أساساً في لسان النبي صلى الله عليه وآله وإنما جاءت على لسان الراوي، هذا هو الوجه الأول.

الوجه الثاني: يقول: إن النهي في مورد الرواية تنزيهي قطعاً، هذا النهي (لا يمنع فضل ماء) تنزيهي وليس نهياً تحريمياً، لعدم حرمة منع فضل الماء عن الغير بالضرورة، عندنا حكم بالضرورة أنه لا يحرم منع فضل الماء، هذا البئر لي وفيه فاضل وأمنعه عن الغير هذا ليس فعلاً محرماً وإنما هو مكروه يعني نهي تنزيهي، فعليه أيضاً لا يندرج تحت كبرى لا ضرر، لأن كبرى لا ضرر يستفاد منها حرمة هذا الضرر، فكيف تطبق الحرمة على مورد الكراهة، بحيث تطبق كبرى على صغرى، لا يمكن أن تكون كبرى له.

بهذين الوجهين قال السيد الخوئي (ره) بأن لا ضرر زائدة، يعني ليست متصلة وإنما هي قضاء مستقل كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره).

هذا الوجه الثاني توجد إشارة في كلام شيخ الشريعة لذلك، لأنه قال في بعض عباراته لما كان في بادئ الأمر يقول: الذي يخطر في ذهني من مدة بأن (لا) هنا ناهية، كان يواجهه بعض الإشكالات ومنها هذه، وقال: لا مجال لإرادة ما عدا الحكم الوضعي في حديث الشفعة، النهي نهي تحريمي تكليفي وحديث الشفعة إذا ثبت فهو حق وضعي فلا مجال له، ومحل شاهدنا هنا، ولا مجال للتحريم في النهي عن منع فضل الماء بناءً على ما اشتهر عند الفريقين من حمل النهي على التنزيهي فالمشهور عند الشيعة والسنة أن النهي هنا نهي تنزيهي وليس تحريمياً، هذه الإشارة التي ذكرناها، من أراد المراجعة، مصباح الأصول مجلد الثاني صفحة 605 وقاعدة لا ضرر لشيخ الشريعة الصفحة 19.

هنا أورد المحقق السيد الروحاني (ره) في المنتقى على الوجه الأول بهذا التقريب: يقول: إن منع الماء يكون سبباً لمنع الانتفاع بالماء كما أوضحنا، إذا عرف الناس أن هذا الشخص يمنع فضل ماءه فيمنع الأنعام من الشرب طبيعة الناس تخاف على أنعامها فستمتنع عن الرعي في ذلك العشب والكلاء، فمنع الماء يكون سبباً لمنع الانتفاع بالكلاء، فيكون بالنتيجة سبباً للضرر، لأن عدم النفع وإن لم يُعد ضرراً بقول مطلق كما ذُكر في الوجه أن عدم النفع لا يعد ضرراً لكن هذا لا يعد ضرراً بنحو مطلق يعني بحيث نقول عدم النفع ضرر؟ لا، لكنه في مورد قيام المقتضي للانتفاع بكون المنع عنه ضررياً عرفاً، يعني يعد عرفاً ضرر، المقتضي للانتفاع موجود وتأتي وتمنع هذا المقتضي، المنع مع وجود المقتضي يعد ضرراً عرفاً، فيكون مورد الرواية من هذا القبيل.

المنع عن فضل الماء موجب للضرر بهذا النحو، فيصح تطبيق نفي الضرر عليه، المقتضي للنفع موجود عند العشب موجود والماء موجود ويمتنع عن العشب لأنه منع من فضل الماء، فإذاً منع من الانتفاع مع وجود المقتضي له، في حالة وجود المقتضي له يعد عرفاً ضرراً وهذا المقدار كافي، إذا عد عرفاً ضررياً هذا المقدار يكفي.

وأيضاً أجاب عن الوجه الثاني: بأنه لا مانع من الالتزام بالتحريم كما نُسب إلى جمعٍ من المحققين وليس فيه مخالفة لضرورة فقهية، السيد الخوئي يقول: النهي في مورد الرواية تنزيهي قطعاً لعدم حرمة منع فضل الماء عن الغير بالضرورة، السيد الروحاني يقول: ذهب غير واحد من المحققين إلى الالتزام بالتحريم، فإذا التزمنا بالتحريم انتهي الإشكال، لأن الإشكال أنه هذا نهي تنزيهي فكيف نطبق لا ضرر عليه، الجواب أن هذا النهي تحريمي ونلتزم بحريمته، وليس ذلك مخالفاً للضرورة الفقهية لذهاب جمع من المحققين إليه.

بل نضيف أنه ربما يستفاد من عبارة الشيخ الطوسي (ره) في الخلاف أن هذا الرأي ليس رأياً شاذاً ربما يكون رأياً مشهوراً أصلاً، لما نرجع إلى عارة الشيخ الطوسي ربما نستفيد منه أنه مشهور، والشهرة على التحريم لا أنه التحريم خلاف الضرورة أساساً، هذه يمكن إضافتها لكلام السيد الروحاني في المقام.

ولكن نقول: ما أفاده السيد الروحاني (قده) في الجواب الأول يصح على تقير دون تقدير، يعني يمكن قبوله على تقدير ولا يمكن قبوله على تقدير آخر.

بيان ذلك: أنهم اختلفوا في معنى الرواية رواية لا يمنع فضل ماء، ما هو المقصود منها؟ ذكروا للرواية عدة معاني، ولكن بعض المعاني واضحة أنها خلاف الظهور لا حاجة إلى ذكرها، نقتصر على ذكر معنيين.

المعنى الأول: الذي هو عبّر عنه السيد الروحاني (ره) بأنه أوجه ما قيل في معنى الرواية وهو الذي على أساسه أورد الإشكال هو هكذا: يقول في المجلد الخامس صفحة 392، يقول: إن الرواية واردة في مورد يكون للشخص ماء، فظاهر كلامها أنه ملكه، ويكون في جنبه كلاء للرعي، فإذا رعت أغنام الغير في الكلاء عطشت فاحتاجت إلى الماء، فإذا منع المالك ماءه عنها كان ذلك سبباً لعدم رعيها في الكلاء لأنها تموت عطشاً فترعى لا تشرب، فالراعي بالضرورة أنه يمتنع عن رعيها في ذلك المكان، فيضطر مالك الغنم إلى ترك هذا المرعى إلى مرعىً آخر، هذا هو المعنى، وهذا المعنى هو الذي عبر عنه السيد الروحاني (ره) بأنه أوجه ما قيل في معنى الرواية.

على هذا المعنى الذي استوجهه وقال عنه أوجه ما قيل في هذه الرواية لا يرد إشكاله، فإشكاله يقول: بأنه مع وجود المقتضي يعد عدم الانتفاع ضرراً عرفاً، نقول: لا يعد منعه الماء ضرراً لعدم قيام المقتضي للانتفاع من الماء، بمجرد أن يكون حوله كلاء، هناك مقتضي للرعي في هذا المكان وهو وجود الكلاء، لكن لم يقم مقتضي للانتفاع من الماء، بمجرد وجود الكلاء حوله، فبما أن الماء ملكه حسب الفرض وحسب هذا المعنى، ومنع عن التصرف في ملكه، فمجرد منعه عن التصرف في ملكه لا يوجب الضرر، نعم بإمكان الغير أن يختار محلاً آخر، اضطر إلى أن يختار محلاً آخر حتى لا تقع غنمه في الضرر، وقبل ذلك يعرف بأن هذا الرجل لا يجيز الشرب من ماء بئره، الآخر سيمتنع عن الرعي، هذا المقدار لا نقول أن هناك مقتضي للانتفاع والمنع عن هذا المقتضي موجب لضرر عرفاً، نعم: على التقدير لو استظهرنا وقلنا معنىً آخر وهو الذي يمكن أن نقول هو ظاهر الوراية، لأن مورد الرواية ليس ما إذا كان البئر ملكه، وإنما نستطيع أن نقول بما أن الرواية واردة قضاء بين أهل البادية وعادة هناك أهل البادية إذا كان هناك ماء موجودة بئر موجودة أو نبع موجود عندهم هناك ينيخون ركابهم ويجلسون أمامه لرعي أغنامهم وما شاكل، فالرواية لعلها تتحدث ليس عن ملكه وإنما عن سبق الشخص إلى الماء، يعني لو سبق شخصٌ إلى الماء واستولى على الماء من دون أن يكون ملكه فإن هذا الماء مباح للجميع كما يظهر من روايات أخرى، أحياناً في البراري وفي الصحراء توجد منابع طبيعية، ورأينا بعضها.

هذه المنابع الطبيعية قسم منها يكون أساساً ماء مطر يتجمع في المكان ثم بقدرة الله سبحانه وتعالى ينبع شيئاً فشيئاً كما رأيناه في بعض الأماكن من الصحراء أنه وإن خرجنا عن البحث ولكن لا بأس بهذه الجهة، لاحظت في بعض الأماكن يوجد ماء في الوهلة الأولى عندما ترى تقول هذا مستنقع ماء، ويأتي البدو يأخذون من هذا الماء ويستعمل حتى للشرب ووجدته عذباً نظيفاً وصافياً، فصار كلام مع بعض القريبين من هذا المكان فكانوا يسموه حسية وحسية في اللغة العربية أيضاً موجودة كما راجعنا في بعض المعاجم وجمعها الحسي والأحساء، هذا تجمع في مكان أشبه ما يكون تلة صغيرة موجودة وهو يتحلق حوله بشكل قوس، إذا غُرف ينبع ويصل إلى درجة ويقف ثم يأتون يشربون ويغرفون ويرعون ويسحبون من الماء أيضاً ينبع إلى أن يصل إلى درجة ويقف، هذه المياه مباحة للجميع إذا جاء شخص سبق إلى مثل هذا الماء، هذا ليس ملكه بل هو من المباحات العامة فهنا في مثل هذا المورد النبي صلى الله عليه وآله يقول: لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، يمكن أن نقول بعبارة أخرى: أن السابق إلى هذا الماء ليس من حقه أن يمنع الآخرين، هو من حقه أن يشرب وأن يسقي أنعامه ويأخذ ما يحتاج إليه، وأما فاضل الماء فليس من حقه أن يمنع الغير منه، هو لا يملكه مقدار الحاجة يأخذه وأما ما زاد على ذلك ليس من حقه أن يمنع الآخرين، فعليه: هنا نقول: لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، هذا المنع يوجب الضرر وإذا أردت أن تقول بالمقتضي أنه هناك مع وجود المقتضي للانتفاع تمنعه المنع من الانتفاع مع وجود المقتضي يُعد ضرراً عرفاً، هذا مقبول، كلام السيد الروحاني (ره) على الوجه الثاني يكون مقبولاً.

أما على الوجه الأول الذي هو استوجهه لا يكون مقبولاً.

فنقول نحن: بأن لا يمنع فضل ماء، أن هذا بين أهل البادية، الرواية تصرح أنه قضى بين أهل البادية، هذا النحو من الماء الذي لا يملكه الشخص أساساً الرسول صلى الله عليه وآله يخاطبه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، أن خذ المقدار الذي تنتفع به وتحتاج إليه لك ولأنعامك لك والباقي للغير، لأن منعهم يكون ضرراً، التطبيق يكون صحيحاً والكبرى تنطبق.

ومن هذا يتضح الوجه في القول بالتحريم، يعني هو قال في الوجه الثاني: نلتزم بالتحريم كما ذهب إليه عدة من المحققين، على الوجه الثاني لا على الوجه الأول، الآن على الوجه الثاني نلتزم بالتحريم لا مانع منه في مثل هذا المورد، نقول: ليس من حقك حتى تمنع فيكون هذا ضرر ويكون محرماً، على هذا الوجه يرتفع كلا الإشكالين الذين أفادهما السيد الخوئي والمحقق النائيني (قدهما)، وللحديث بقية.