الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/04/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

 

القول الأول في مراسيل الشيخ الصدوق (قده):

كان الكلام في مرسلات الشيخ الصدوق (قده) وقلنا بأن الأعلام اختلفوا في حجية مرسلاته على أقوال ثلاثة:

القول الأول أنها حجة، والقول الثاني أنها ليست بحجة مطلقاً، والقول الثالث: التفصيل بين ما كان بعنوان روي فليس بحجة وما كان بعنوان قال يكون حجة.

وتقدم الكلام في مستند القول الأول وهو الحجية مطلقاً، وهو عبارته التي ذكرتها في مقدمة الفقيه، وقال فيها (بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع) وقلنا بأن استفادة ذلك من عبارتين، العبارة الأولى عندما قال (بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي) فالشيخ الصدوق يحكم بصحة ما في كتاب الفقيه والصحة تعني أن يكون رواة هذه الروايات من الثقاة المعتبرين، فلهذا كانت حجة بينه وبين الله، والعبارة الثانية قوله: (وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع) وهذه العبارة استفيد منها أن الشيخ الصدوق ينقل عن نفس أصحاب الكتب الذين هم يروون عن الإمام عليه السلام، أو عن من يروي عن الإمام عليه السلام، ولكن هذه الكتب من جهة هي مشهورة ومن جهة عليها المعول وإليها المرجع، فلا حاجة في الواقع إلى البحث في طريق الشيخ الصدوق إلى هذه الكتب وإنما يذكر هذا الطريق تبركاً ولإخراجها من الإرسال إلى الإسناد، ولكن هذه الكتب وصلت إليه عن طريق الشهرة فلا تحتاج في الواقع إلى طريق، وهذا الوجه الثاني نُقل عن السيد البروجردي (ره).

هذا المعنى يتم في كتاب الفقيه، أما بالنسبة إلى مرسلاته الأخرى في غير كتاب الفقيه، كما في الرواية التي فعلاً نحن بصددها، فربما نقول أيضاً هذا الكلام يأتي في كتابه المقنع الذي نقلنا عنه هذه الرواية.

لأنه في كتابه المقنع قال في مقدمته: (قال محمد بن علي ثم إني صنفت كتابي هذا وسميته كتاب المقنع لقنوع من يقرأه بما فيه وحذفت الأسانيد منه لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يمل قارئه إذ كان ما أبينه فيه في الكتب الأصولية موجوداً مبيناً عن المشائخ العلماء الفقهاء الثقاة رحمهم الله) فهذه العبارة الأخيرة واضحة في أنه يفتي بلسان الروايات في كتاب المقنع وأنه مستند إلى الروايات الموجودة في الكتب الأصولية والمبينة عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقاة، فهنا ربما نقول أيضاً نفس الكلام لأنه يبعد أن يكون مراده من المشايخ العلماء الفقهاء الثقاة خصوص مشايخه، إذ لا يفيد مجرد ذلك في الاعتماد على الرواية والفتوى على طبقها، فعليه: إما أن يراد بهذه العبارة جميع الرواة الذين استند إلى رواياتهم، أو خصوص أصحاب الأصول كزرارة مثلاً، وأياً كان الاحتمال الأول أو الثاني فهو دال على المطلوب، أما الاحتمال الأول فواضح، لوصفهم بالفقهاء العلماء الثقاة يعني أن رواتها يتصفون بهذه الصفات، فتكون معتبرة، أو يكون المراد الاحتمال الثاني وهو أن هذا الوصف يكون لأصحاب الأصول هذا أيضاً يفيدنا في المقام لأن معنى كلامه أن هذه الأصول ثابتة الوصول إليه بنحو معتبر وهو ينقل عنها مباشرة وأصحابها من الثقاة الفقهاء، فعليه: يمكن أن يُدعى بأن المراسيل الموجودة في كتابه المقنع يُحكم عليها بنفس الحكم الموجود في كتاب الفقيه، هذا بالنسبة إلى القول الأول.

هذا القول الأول وقع موقع الإشكال: فمثلاً السيد الخوئي (ره) في كتابه المعجم ناقش تقريباً كلتا الدعويين ولكن في مكانين مختلفين، في المقدمة الجزء الأول صفحة 78 يجيب عن الجهة الأولى، قال: (إن دلالة هذا الكلام على أن جميع ما رواه الشيخ الصدوق في كتابه من لا يحضره الفقيه صحيح عنده وهو يراه حجة فيما بينه وبين الله تعالى واضح) يقول: هذه العبارة تدل بوضوح على أن الروايات الموجودة في كتاب الفقيه صحيحة عند الشيخ الصدوق ولكن الإشكال هنا أن تصحيح أحد الأعلام المتقدمين لروايته لا ينفع من يشترط في حجية الرواية الوثاقة أو يشترط أن يكون الراوي حسناً، هو غاية ما يدل عليه أن هذه الروايات في نظر الشيخ الصدوق صحيحة، ولكن هل هي صحيحة باعتبار أن رواتها ثقاة حتى يثبت لنا أو لا؟ من يشترط الوثاقة في الراوي لا يكتفي بمجرد تصحيح أحد الأعلام المتقدمين ما لم ينص على وثاقة الرواة أنفسهم، ومن جهة أخرى يقول: (قد علمنا من تصريح الصدوق نفسه أنه يتبع في التضعيف والتصحيح شيخه ابن الوليد ولا ينظر هو إلى حال الراوي نفسه وأنه ثقة أو غير ثقة،) إذاً تصحيح الشيخ الصدوق هو في الواقع حدسي وليس عن حس، يعني لما يصحح الرواية قلد في ذلك ابن الوليد في حكمه في التضعيف والتصحيح، لأن الشيخ الصدق صرح في بعض الموارد بأنه يتبع في التصحيح والتضعيف ما يقوله شيخه محمد بن الحسن بن الوليد، ما صحح ابن الوليد يصححه وما ضعفه يضعفه، فعليه: بالنسبة لنا يكون كلام الشيخ الصدوق حدسياً وليس إخباره لنا عن حسٍ حتى يؤخذ بتوثيقه.

يقول أيضاً: (أضف إلى ذلك أنه يظهر من كلامه المتقدم أن كل رواية كانت في كتاب شيخه ابن الوليد أو كتاب غيره من المشايخ العظام والعلماء الأعلام يعترها الصدوق رواية صحيحة وحجة فيما بينه وبين الله تعالى، وعلى هذا الأساس ذكر في كتابة طائفة من المرسلات، فهل يمكننا الحكم بصحتها باعتبار أن الصدوق يعتبرها صحيحة؟ النتيجة يقول: إن إخبار الشيخ الصدوق عن صحة رواية وحجيتها إخبار عن رأيه ونظره وهذا لا يكون حجة في حق غيره) فنتيجة الكلام أن الحكم بصحة الروايات من طرف الشيخ الصدوق هو اجتهاد منه وإخبار حدسي بالنسبة لنا، فنحن لا نقلده في اجتهاده، هذا بالنسبة إلى الجانب الأول.

الجانب الثاني ولعله يشير فيه إلى ما نُقل عن السيد البروجردي (ره) ذكره في الصفحة 77، يقول: (وبما ذكرناه يظهر بطلان أمر آخر قد توهمه غير واحد ممن لم يتأملوا في عبارة الصدوق، بيان ذلك: أن جملة من طرق الصدوق ضعيفة على ما تقف عليها) لما نلاحظ الطرق التي أوردها الشيخ الصدوق في المشيخة نلاحظ أن جملة من الطرق ضعيفة ولهذا إذا تلاحظون لما يذكر السيد الخوئي في المعجم في موارد عندما يذكر الراوي يقول وطريق الصدوق إليه ضعيف أو صحيح مثلاً وهكذا، فالمهم هناك عدة طرق للشيخ الصدوق هي طرق ضعيفة، (على ما تقف عليها وعلى جهة ضعفها فيما يأتي إن شاء الله، ولكنه مع ذلك توهم بعضهم أن ضعف الطريق لا يضر بصحة الحديث)، بعدما أخبر الصدوق بأن روايات كتابه مستخرجة من كتب معروفة معول عليها، الجملة الثاني التي أوردناها من كلمات الشيخ الصدوق في مقدمة الفقيه، قال: من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع، فهذا الذي عبر السيد الخوئي بالتوهم توهم بعضهم أنه صحيح أن طريق الصدوق في المشيخة صحيح أو الشيخ الطوسي صحيح، هذا الطريق ضعيف ولكنه لا يضر بصحة الرواية فتكون معتبرة، لأن هذه الرواية استخرجت من كتاب معتبر معروف عليه المعول، فالكتاب إذا كان كذلك لم يضره ضعف الطريق الذي ذكره الصدوق في المشيخة تبركاً أو لغيره، وهذا إن ثبتت هذه الجهة تفيدنا ليس فقط في روايات الشيخ الصدوق بل حتى بالنسبة إلى قسم لا أقل من روايات الشيخ الطوسي كذلك، عندما الشيخ الطوسي يلتزم بأنه يبدأ السند بالراوي الذي ينقل الرواية عن كتابه فأحياناً يكون طريق الشيخ الطوسي إلى صاحب الكتاب ضعيف كما هو مثلاً المعروف في الطريق إلى أحمد بن محمد بن يحيى العطار، لم يرد فيه توثيق ولكنه شيخ إجازة وهو يروي كتب والده محمد بن يحيى العطار، إذا قلنا بهذه المقالة وأن كتاب محمد بن يحيى العطار وصل إلى الشيخ الطوسي عن طريق الشهرة فالطريق إليه لا يضره إن كان ضعيفاً، يعني نعلم أن هذا الكتاب كتاب مشهور عند الأصحاب ووصل إلى الشيخ الطوسي بنفسه سواء عن الطريق الضعيف أو القوي هذا لا يضره شيء، كما في كتاب العروة فهو وصل إلينا وما هو الطريق لا يضره فهو معروف بين الأعلام أنه للسيد اليزدي (ره) وهذا المقدار كافي، وهنا نفس الكلام، فالدعوى ليست منحصرة فيما أفاده الشيخ الصدوق.

وهذه الدعوى هكذا: أن روايات الصدوق في الفقيه مستخرجة من كتب معتبرة معروفة معول عليها، فالكتاب إذا كان معولاً عليه ومعروفاً لم يضره ضعف الطريق إليه، هذه الدعوى ناقشها أيضاً السيد الخوئي (ره) واعتبره توهماً وقال: (وقد ظهر بطلان هذا التوهم وإن الكتب المعروفة المعتبرة التي أخرج الصدوق رواياته كتابه منها ليست هي كتب من بدأ بهم السند في الفقيه، وقد ذكر جملة منهم في المشيخة، وإنما هي كتب غيرهم من الأعلام المشهورين التي منها رسالة والده إليه طاب ثراهما،)

وتوضيح مرامه: يقول: إن الشيخ الصدوق وإن صرح بأن الروايات التي استخرجها في كتاب الفقيه هي مأخوذة من كتب معروفة مشهورة وعليها المعول ولكن ما هي هذه الكتب؟ المتوهم كان يتوهم أن مقصود الشيخ الصدوق منها هي كتب الأصول التي مثل أصل زرارة أو محمد بن مسلم أو ابن دراج، هكذا تُوهم، السيد الخوئي (ره) دعواه أن المقصود ليست هذه الكتب هي كتب من بدأ بهم السند في الفقيه وذكر في المشيخة جملة مهم وذكر طرقه إليهم كما فعل الشيخ، إنما المقصود هي كتب غيرهم من الأعلام المشهورين، مثلاً رسالة والده علي بن الحسين والد الشيخ الصدوق، أو مثلاً كتاب شيخه محمد بن الحسن بن الوليد، فالروايات الموجودة في الفقيه مستخرجة من هذه الكتب، وأما أنها صحيحة أو غير صحيحة فهو أمر آخر أجنبي عن ذلك.

فيتحصل أن دعوى السيد الخوئي الأخيرة أن مراد الشيخ الصدوق أنه استخرج هذه الروايات من كتب معتبرة ومشهورة ولكنها كتب الأعلام المشهورين كوالده وكشيخه ابن الوليد وأمثال هؤلاء، وليس في صدد أن يقول: بأن هذه الروايات صحيحة أو غير صحيحة، في الجملة الثانية طبعاً، هذا حاصل ما ذكره السيد الخوئي (ره) حول كتاب من لا يحضره الفقيه في الجهتين، ولكن كما قلنا في الجهة تحت عنوان روايات وأحاديث كتاب من لا يحضره الفقيه والجهة الثانية ذكرها قبل ذلك في عنوان آخر.

ولكن هذا الكلام من السيد الخوئي يبتني على بعض الأمور لا بد من إثباتها، مثلاً يظهر من كلامه الأول أنه نحن لا نعتمد على مجرد أن يحكم الشيخ الصدوق بصحة رواية أو عدم صحتها لأنه ليس من باب توثيق الرواة، يعني لو التزم الشيخ الصدوق بأنني إنما أصحح الرواية إذا كان رواتها ثقاة فكلامه هنا يكون بالدلالة الإلتزامية دال على المطلوب، فهو قال أنا هو صحيح عندي وأفتي به بيني وبين ربي وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة لازمه أن الروايات التي رواها كان راووها من الثقاة، لو التزم بذلك صحيح، ولكن الشيخ الصدوق لم يلتزم بذلك، غايته أنه قال: أنما أحكم بصحة الرواية وهو لازم أعم، تارة يكون الحكم بصحة الرواية من جهة الحكم بتوثيق الرواة وتارة يكون الحكم بتصحيح الرواية من جهة قرائن أخرى، وتارة يكون التصحيح من جهة تصحيح شيخه، وتارة أيضاً نضيف أن الحكم بالصحة من جهة مثلاً أنه يرى أصالة العدالة في الراوي، وهذه النقطة سنشير إليها في القول الثالث، من يعتمد على أصالة العدالة معناه أن كل مسلم أو لا أقل كل مؤمن محمول على العدالة يعني محكوم بالعدالة ما لم يرد في حقه تضعيف، إذا كانوا يقولون بأصالة العدالة ونحن لا نقول بها، فمعنى ذلك هو لأنه يرى أصالة العدالة في الراوي حكم بصحة هذه الرواية ولكن نحن بما أننا لا نرى صحة هذه القاعدة لا نحكم بالصحة، يبقى عندنا هذا الراوي مجهول.

فنحن نحتاج للحكم بوثاقة هذه الروايات إلى أن يثبت عندنا بأن الشيخ الصدوق لم يكن مستنداً في تصحيحاته إلى أصالة العدالة، فإذا استند لها لا يفيد، فلا بد أن نثبت بأن الشيخ الصدوق (ره) كان يعتمد على التوثيق والتضعيف، هذه النقطة السيد الخوئي (ره) كأنه بضرس قاطع قال: بأنه الشيخ الصدوق باجتهاده فقط وبحدسه واستند في ذلك إلى شيخه ابن الوليد ولهذا لا تفيد.

ولكن كلام السيد الخوئي (ره) على إطلاقه لا يمكن التسليم به، لأنه عندما نتابع الشيخ الصدوق نلاحظ أنه يضعف أحياناً الرواية أو لا يأخذ بها لوجود تضعيف في الراوي ومن جملة ذلك ما ذكرناه قبل دروس في مستثنيات ابن الوليد من كتاب نوادر الحكمة، قلنا أن كتاب نوادر الحكمة استثنى ابن الوليد مجموعة من الروايات ومجموعة من الرواة، فاستثنى ما رواه فلان عن فلان، وما رواه عن فلان ذكر مجموعة من الرواة الرواية الواردة عن طريق هؤلاء لا يقبلها، الشيخ الصدوق اعتمد على شيخه في هذه النقطة باعتبار أن الشيخ ابن الوليد خرّيت في هذا الفن ومن نقاد الأخبار والرجال، فهو اعتمد عليه في هذه الجهة ولكن التضعيف لتضعيف في الراوي، معنى ذلك أن الشيخ الصدوق عندما يضعف الرواية فهذا تضعيف في الراوي، وعندما يصحح الرواية يعني أن الراوي غير ضعيف في نظره، إذا كان يضعف الروايات لتضعيف الرواة وإذا كان يصحح الرواية نحمله على أنه لتصحيح الرواة لا لأنه فقط أن الرواية عنده ولو من خلال قرائن، وهذا إن شاء الله نذكر بعض الشواهد الأخرى في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.