الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية:

 

الجهة الثانية في ترك التقليد والاجتهاد في استحقاق العقاب:

كان الكلام بالنسبة إلى تارك الاجتهاد والتقليد، وقلنا إنه إذا انكشفت المخالفة فيعتمد انكشاف المخالفة تارة ينكشف مطابقة عمله لفتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل، وتارة يكون مطابقاً لفتوى من يجب الرجوع إليه حين الانكشاف، في هذه الصورة الأخيرة قلنا بالصحة، إذا انكشف أن عمله مطابق لفتوى من يجب الرجوع إليه الآن فعلاً حين الانكشاف فنحكم بالصحة، فإذا صلى صلاةً مع نقصان فعرض هذه الصلاة على فتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل وكانت فتواه البطلان مثلاً، ولما عرض صلاته على من يجب عليه الرجوع إليه فعلاً حين الانكشاف فرأى أن فتواه هي الصحة، هنا الحكم هو الصحة فعلاً لأنه فعلاً المجتهد الفعلي الذي يجب الرجوع إليه يقول لا يجب عليك الإعادة ولا القضاء، بحسب نظره أن الصلاة صحيحة، فهو يعتمد عليه الآن ووظيفته الفعلية الحكم بالصحة فيحكم بالصحة.

من هنا يأتي الكلام في الجهة الأخرى في المقام الثاني وهو أنه هل يستحق العقوبة أو لا يستحق العقوبة؟ يعني المقام الأول قلنا بأن العمل يكون صحيحاً على حسب الصور طبعاً، ولكن الآن في الصورة الرابعة، قلنا العمل صحيح من حيث الصحة، الآن يأتي الكلام في أنه لو فرضنا أن ما أتى به مخالف للواقع ولكن هو استند فعلاً إلى من يجب الرجوع إليه، فهل يستحق العقاب أو لا يستحق؟ العمل صحيح ولكن هل يستحق العقاب أو لا؟

هنا نفترض في المسألة صورتين:

الصورة الأولى: أنّ هذا العمل لم يفته، يعني لا زال الوقت باقياً.

الصورة الثانية: نفترض أنه فات وقت الأداء وبقي وقت القضاء.

أما على الصورة الأولى: وهي أن العمل لم يفته، يفترض أنه صلى في أول الوقت بالصلاة الاضطراري بالوضوء الجبيري مثلاً وبدون أن يرجع إلى المجتهد ليرى حكمه أنه يجوز البدار أو لا يجوز البدار؟ فبعد ذلك توفي المجتهد الأول مثلاً، في آخر الوقت علم أنه صلى بدون الرجوع إلى من يجب الرجوع إليه، أو المجتهد عمل بدون الفحص، ثم في آخر الوقت رأى بأن رأي المجتهد الأول هو بطلان الصلاة، إذا نفترض أنه الآن في آخر الوقت ارتفع العذر، فالمجتهد الأول يرى بطلان الصلاة مادام أنه يحتمل ارتفاع العذر فلا يجوز له البدار فينتظر حتى يرتفع العذر فيصلي، فمقتضى كلام المجتهد الأول أن صلاته باطلة، أما المجتهد الآخر الذي يجب الرجوع إليه فعلاً فيرى جواز البدار وصحة الصلاة، ويقول له: صلاتك صحيحة، الوقت لم يزل موجود، فهو يقول له لا تجب عليك الإعادة فضلاً عن القضاء، في مثل هذا الفرض لا نقول باستحقاقه للعقاب لو خالف الواقع، هنا نقول: لا يستحق العقوبة لأنه استند إلى المؤمن الشرعي، يقول له: لا يجب عليك الإعادة فضلاً عن القضاء، فبمثل هذا الفرض نحكم بصحة صلاته ونقول بعدم استحقاقه للعقاب لأنه خالف الواقع بتركه للتعلم الأول، هذا الفرض الأول.

أما على الصورة الثانية: أن نفترض بأن الوقت قد ذهب، هو صلى بنفس المثال قبل أسبوع مثلاً كان وضوؤه اضطرارياً فصلى في أول الوقت، وفي آخر الوقت ارتفع العذر، الآن التفت إلى نفسه فأراد أن يطبق عمله على رأي المجتهد فلاحظ أن رأي المجتهد حين العمل هو بطلان الصلاة فكان يجب عليه الإعادة، ورأي المجتهد الفعلي الآن يقول صلاتك صحيحة، في الواقع صلاته باطلة، الآن نقول له: لا يجب عليك القضاء على رأي المجتهد الفعلي، فالقضاء غير واجب عليه فلما خالف الواقع بالنسبة إلى وجوب القضاء نقول: لا يستحق العقوبة على مخالفة الواقع، أما بالنسبة إلى الأداء، فاته الأداء وخالف الواقع، لما فاته الأداء فاته بسبب عدم تعلمه للحكم، يعني قصَّر في ذلك فهو خالف الواقع بسبب تقصيره فستحق العقوبة على الأداء، لأنه كان يجب عليه أداء الصلاة تامة بدون هذا العمل الاضطراري وهو لم يأت بذلك لتقصيره في التعلم فهنا يستحق العقوبة، فإذاً استحقاق العقوبة لا يرتبط بالصحة وعدم الصحة، الآن فعلاً نحكم بصحة صلاته أو نحكم بعدم وجوب القضاء عليه فعلاً ولكن بالنسبة إلى استحقاق العقوبة لأنه خالف الواقع بلا مؤمنٍ بالنسبة للأداء، فيستحق العقاب على ذلك، بالنسبة إلى القضاء لا يستحق العقوبة على تركه القضاء لأنه كان عن مؤمّنٍ، هذا ما يرتبط بهذا الجانب.

من هذا الجانب بحث الأصوليون بحثاً آخراً يترتب على ذلك ويرتبط بالتعلم، عندنا موارد استثنى الأصوليون الصحة، يعني حكموا بالصحة، حتى مع ترك التعلم وحتى مع مخالفة الواقع، وذلك في موارد ثلاثة: الجهر في موضع الإخفات أو الإخفات في موضع الجهر جهلاً، لم يتعلم فلم يعلم بأن حكم صلاة المغرب هو الجهر ولم يتعلم أن حكم صلاة الظهر الإخفات فأخفت في موضع الجهر أو جهر في موضع الإخفات، ثم علم بعد ذلك في داخل الوقت فضلاً عن خارجه، الفقهاء قالوا بصحة صلاته ولا تجب عليه الإعادة فضلاً عن القضاء، والمورد الآخر صلاة التمام في موضع القصر، المسافر يجب عليه أن يصلي قصراً وهذا المكلف لم يتعلم الحكم وصلى تماماً وانكشف له بعد ذلك وفي داخل الوقت، نقول: إن صلاتك التمام تامة وصحيحة ولا يجب عليك الإعادة فضلاً عن القضاء، المورد الثالث: الصوم في السفر، لم يتعلم حكم الصوم في السفر وأنه لا يجوز له الصوم ولا يصح منه، فصام في السفر، نقول: هذا الصوم باعتبار الجهل بالحكم تامٌ.

هذه المسائل الثلاث: حكم الفقهاء فيها بصحة العمل حتى لو علم أثناء الوقت فضلاً عن خارجه، الآن فعلاً نقول بالنسبة إلى الصوم إذا كان انتهى من الوقت، يعني انتهى من ذلك اليوم، من ناحية الفتوى قالوا بالصحة في هذه الموارد الثلاثة، والنصوص على ذلك، يعني استناداً إلى النصوص الكثيرة أفتى الفقهاء بذلك، في مثل هذه الموارد يأتي الإشكال، الإشكال ليس على أصل الفتوى قلنا لأن النصوص واضحة في المقام ودالة على المقام، وهنا هل يستحق العقوبة على تركه للواقع ومخالفته للواقع أو لا؟

قيل بالاستحقاق، يستحق العقوبة على ذلك لأنخ خالف الواقع، وظيفته أن يصلي جهراً وصلى إخفاتاً الشارع حكم بصحة صلاته ولكن هو خالف الواقع، ولما خالف الواقع لتقصيره فيستحق العقاب، فإذاً قالوا: نحن من جهة نحكم بصحة صلاته ومن جهة أخرى نقول باستحقاقه للعقاب فيأتي هنا الإشكال، كيف نجمع بين ذلك؟ كيف نجمع بين استحقاق العقاب وبين صحة العمل؟ يفترض إذا كان العمل صحيحاً أن لا يستحق عليه العقوبة، أما لو قلنا بأن العمل غير صحيح، نعم استحقاق العقوبة واضح لتقصيره طبعاً، فهنا وقع الأصوليون في بحث كيف نجمع بين استحقاق العقاب وبين صحة العمل، فذُكرت أوجه لرفع هذا الإشكال:

الوجه الأول: ما أفاده صاحب الكفاية (قده) وحاصله: أن هناك مصلحتين، مصلحة موجودة في العمل المطلوب الواقعي ولنفترض الآن الجهر في صلاة المغرب وهناك مصلحة في العمل الذي أتى به مخالفاً للواقع وهو صلاة المغرب إخفاتية، في كلتيهما توجد مصلحة ولكن المصلحة الموجودة في صلاة المغرب جهراً أكثر وفيها زيادة عن المصلحة الموجودة في صلاة المغرب إخفاتاً، ومع ذلك لما أتى بما فيها المصلحة الأدنى انتهى وانتفت إمكانية الإتيان بما فيها المصلحة العليا، فعلى هذا من جهة تحقيقه للمصلحة وإن لم تكن التامة، نقول: العمل صحيح لأنه حقق المصلحة ولم يمكن الآن استدراك المصلحة الأخرى فنحكم بصحة العمل، ومن جهة أنه فوت المصلحة العليا، الزيادة في المصلحة عن تقصير فيستحق العقوبة على ذلك، هذا كلام المحقق صاحب الكفاية (قده).

ببيان آخر: نقول: عندنا مصلحة موجودة في الجامع ومصلحة موجودة في الجهرية، المصلحة الموجودة في جامع الصلاة في أصل الصلاة سواء كانت عن إخفات أو كانت عن جهر توجد مصلحة في هذا الجامع، وتوجد مصلحة خاصة في خصوص الفرد وهو صلاة المغرب جهراً، فإذا حقق المصلحة في الجامع لم يمكن تحقيق المصلحة الموجودة في خصوص الفرد الجهري، فمن جهة نقول هو حقق المصلحة في الجامع فنحكم بصحة الصلاة، ومن جهة نقول فوَّت المصلحة الموجودة في الفرد ولا يمكنه تداركها فعلاً فيستحق العقوبة على ذلك.

أورد صاحب الكفاية على نفسه: إذا كان كما تقول فهذا المعنى يأتي حتى في حالة العمد والعلم وليس في حالة الجهل فقط، بمعنى إذا علمتُ أنا الآن بأن صلاة المغرب جهرية ومع ذلك صليتها إخفاتاً فهنا حقق المصلحة الموجودة في الجامع التي تستدعي صحة الصلاة، ويستحق العقوبة على تفويته المصلحة الخاصة، نفس الكلام، بينما لا قائل بذلك ولا يمكن الالتزام به، يعني لا يمكن أن يلتزم الفقيه بأن من صلى صلاة المغرب إخفاتاً عن علم وعمد تكون صلاته صحيحة، لا يُلتزم بذلك، بينما على هذا الجواب المفروض أن نحكم بصحته.

قال في الجواب الذي أورده على نفسه: بأن الصلاة نحكم بصحتها بقيد، يعني نقول إذا أتى بصلاة المغرب جهراً عن جهل ففيها مصلحة، فالمصلحة ليست موجودة في الجامع مطلقاً وإنما الجامع بين الصلاة الجهرية وبين الصلاة الإخفاتية عن جهل وليست مطلقاً، فعليه: لا يرد الإشكال، المصلحة موجودة في الجامع لكن الجامع بين الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية عن جهل لا مطلقاً، فعليه: يندفع هذا الإشكال عن صاحب الكفاية.

كلام صاحب الكفاية وقع موقع الإشكال أيضاً من قبل الأعلام، فالسيد الخوئي (ره) مثلاً قال: بأن التضاد بين المصالح والمفاسد بين الملاكات مع عدم التضاد بين الفعلين هذا فرد أشبه ما يكون بأنياب الأغوال بتعبيره هناك، يقول: (أن التضاد إنما هو بين الأفعال وأما التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال فهو أمر موهوم يكاد يُلحق بأنياب الأغوال) فصاحب الكفاية فرض أن هناك تضاد بين المصالح بين الملاكات فإذا أتى بالملاك الأدنى لا يمكن من تحقق الملاك الأعلى لوجود التضاد بينهما، فكلامه يقول السيد الخوئي: التضاد بين الأفعال نعم أما التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال فهذا أمر موهوم كما يكاد يلحق بأنياب الأغوال.

السيد الصدر (ره) أجاب عن هذا الإشكال: بأن التضاد بين الملاكات ليس أمراً عزيزاً بل هو أمر كثير، يوجد عندنا تضاد بين الملاكات، ويمثّل لذلك ببعض الأمثلة: مثلاً: الآن إذا فرضنا شخصاً جائعاً أو عطشاناً وجيء له بطعام غير لذيذ وأكل منه، الآن لا يمكنه أن يحقق مصلحة الطعام الذي لو جيء له بالطعام اللذيذ لا يمكن تحقيق مصلحته، في الطعام الأول توجد مصلحة وفي الطعام الثاني أو الصحي توجد فيه مصلحة أعلى ولكن لما حقق المصلحة الأدنى بفعله وبأكله للطعام غير الصحي الآن لا يمكنه تحصيل المصلحة العليا، فعلاً لا يمكنه، فالتضاد صار بين المصالح ليس فقط بين الأفعال، بين الملاكات، ملاك الطعام غير الصحي الذي لا يضر هذا الملاك منع من تحقيق ملاك الطعام الصحي، فإذاً يمكن أن نتصور التضاد بين الملاكات.

أيضاً مثال آخر: لو سُقي الزرع بماء نفترض أنه ليس بعذب وفيه ملاك ويوجد ملاك في سقيه بالماء العذب، الآن لما سُقي بالماء غير العذب تحقق هذا الملاك ملاك السقي ولا يمكن تحقيق ملاك السقي بالماء العذب فإذاً حاصل الكلام نتصور أنه لا مانع من تصور التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال، هذا حاصل ما أفاده السيد الصدر (ره).

ونقول: بأن الشيخ الوحيد (حفظه الله) لما تعرض للإشكال على صاحب الكفاية (قده) هو جاء بإشكال السيد الخوئي (ره) ولكن توجد فيه إضافة بحيث هذه الإضافة تمنع من ورود الإشكال من طرف السيد الصدر، هو لم يتعرض لإشكال السيد الصدر، ولكن أقول: إن الإضافة التي أتى بها الشيخ الوحيد (حفظه الله) في تقريبه للإشكال على الآخوند هو بنفسه يدفع الإشكال الذي أورده السيد الصدر على السيد الخوئي.

وذلك: يقول ما حاصله: إن تصور التضاد في الملاكات ممكن، يعني بعبارة أخرى: أن التضاد بين الملاكات أمر ممكن ليس بمستحيل، ولكنه في الملاكات العبادية المرتبطة بالمولى سبحانه وتعالى التي هي ملاك القرب المعنوي من الله سبحانه وتعالى هنا لا نتصور التضاد بين الملاكات، يعني الصلاة معراج المؤمن ملاكها القرب والصوم ملاكه القرب، الصوم في حالة الحضر له ملاك يقرب العبد من المولى، الصوم في حالة السفر إذا كان عن جهل أيضاً له ملاك يقرب من المولى، هذه الملاكات التي ترتبط بالمولى والقرب منه لا تضاد فيها، يقول بهذا النحو: (وأما في الملاكات التضاد في المصالح الواقعية وإن كان يمكن ثبوتاً لكنه لم يقع، فإن المرتبة من القرب ضد المرتبة الأخرى من القرب فالنهي عن الفحشاء المرتبة على صلاة الظهر الإخفاتية يضاد النهي عن الفحشاء المرتب على صلاة الظهر الجهرية، يعني من حيث الإمكان ممكن عقلاً لكنه باطل لعدم التزاحم بين مراتب القرب)

وعليه: إذا حققنا هذه الجهة أنه لا تزاحم بين مراتب القرب لا يرد الإشكال من طرف السيد الصدر على السيد الخوئي، السيد الخوئي يقول: إن التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال أمر موهوم يكاد أن يلحق بأنياب الأغوال، السيد الصدر يقول: هو أمر موجود وليس موهوماً، وأتى بالأمثلة التي ذكرناها.

والشيخ الوحيد يقول: الملاكات في هذه الموارد ليس مطلقاً من ناحية القرب التضاد بينها وإن كان ممكناً ولكنه باطل، لا يوجد عندنا تزاحم بين مراتب القرب فلا نتصور التضاد، فإذاً تصوير المحقق صاحب الكفاية التضاد بين الملاكات فإذا أتى بالملاك الأدنى لا يمكنه استيفاء الملاك الأعلى، هذا غير تام. والحمد لله رب العالمين.