الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/03/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية:

ما أفاده المحقق العراقي (قده) في وجوب التعلم ومناقشته:

كان الكلام فيما أفاده المحقق العراقي (قده) حيث ذهب إلى أن الأمر بالتعلم المذكور في الروايات وفي الأدلة إنما هو أمر إرشادي بحكم العقل وليس أمراً مولوياً، ودليله على ذلك أن العقل يحكم بوجوب التعلم وبوجوب الفحص لأحد أمرين بغض النظر عن ورود هذا الدليل: إما لوجود العلم الإجمالي بالتكاليف والعلم الإجمالي بوجود الأحكام الإلزامية منجز فيقتضي أن يبحث المكلف عنه ولهذا الأمر بوجوب التعلم يكون إرشادياً، وإما أن يكون لوجود الاحتمال المنجز مع غض النظر عن العلم الإجمالي، فقبل البحث وقبل الفحص عندنا احتمال وجود تكاليف إلزامية في كل مورد من القضايا أو الموضوعات التي نحتمل أن يكون لها حكم شرعي، هنا يحتمل وجود الحكم الشرعي وهذا الاحتمال لا مؤمن له إلا بعد الفحص، أو بعبارة أخرى أن هذا الاحتمال يحتاج إلى مؤمن ولا يوجد مؤمن كالبراءة ولا يمكن جريانها لا العقلية ولا الشرعية قبل البحث فلهذا يجب الفحص والتعلم حتى فيما بعد يمكنه أن يجري البراءة، إذاً العقل يحكم بلزوم التعلم، فعليه: عندما ورد من الشارع الأمر بالتعلم يكون هذا الأمر إرشادياً وليس مولوياً.

إذاً يتلخص البحث إلى الآن: أن الأقوال على قولين أساسيين:

القول الأول: أن يكون الأمر الموجود بالتعلم هو أمر مولوي، وهذا الأمر المولوي اختلف فيه فبعضهم يرى بأنه أمر مولوي نفسي كما هو عليه المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك، وآخرون يرون أنه أمر مولوي طريقي لأن الأمر الطريقي لا يخرج عن كونه مولوياً، فأمر مولوي ولكنه طريقي.

القول الثاني: أن الأمر عقلي إرشادي وليس مولوياً، وهذا الذي ذهب إليه المحقق العراقي (قده).

والكلام مع المحقق العراقي بحيث نطرح كلام يفيد في المقام ويفيد في غير المقام، نطرح أمرين:

الأمر الأول: الأصل في الأوامر الصادرة من المولى أن تحمل على المولوية إلا أن يقوم دليل يدل على غير المولوية، وبعبارة أخرى: أن الأصل في أوامر المولى أن يصدر الأوامر بمقتضى مولويته، فإذا صدرت الأوامر بمقتضى مولويته فنحمل هذا الأمر على كونه مولوياً، إلا إذا قامت القرينة أو قام الدليل على عدم إرادة المولوية أو على أن هذا الأمر إرشادي فنحن والدليل، فأحياناً يكون إرشاداً إلى حكم العقل وأحياناً يكون إرشاداً إلى الجزئية مثلاً أو الشرطية مثلاً هذا يمكن أن ندرجه في المولوية ولكن أحياناً يكون إرشاداً للنجاسة مثلاً أو شيء من هذا القبيل، المهم لا يكون مولوياً بمعنى تكليف الوجوب أو الاستحباب أو ما شاكل، يعني مثلاً: عندما يرد لا تصلِّ في أبوال ما لا يؤكل لحمه، أو يسأل مثلاً أصاب ثوبي بول أو خمر فيقول اغسله، هذا الأمر صادر من المولى ولكن بحسب مقتضى القرينة أنه ليس المقصود بنحو الوجوب وإنما المقصود أن هذا نجس أن الثوب تنجس، يعني نفهم أن البول نجس وينجس فهنا إرشاد إلى النجاسة الموجودة.

طبعاً الإرشاد إلى النجاسة أو الجزئية أو الشرطية هذا ربما يندرج بنوع ما نحو المولوية، ولكن أحياناً يكون إرشاداً إلى حكم العقل وهذا يختلف ولا يكون مولوياً، المهم القاعدة التي نريد أن نقولها بنحو مطلق: إن الأصل في الأوامر الصادرة من المولى أن تحمل على المولوية، إلا أن يقوم دليل يدل على أن هذا الأمر ليس اراً مولوياً فيكون إرشادياً، هذا هو الأمر الأول الذي نريد أن نبينه قبل مناقشة المحقق العراقي.

الأمر الثاني: وهو مهم، متى يُحمل الأمر على الإرشاد إلى حكم العقل؟ يعني هل كل ما أدركه العقل إذا ورد فيه أمر أو نهي يُحمل على الإرشاد أو لا؟ نقول: لا، وإن ربما موجود ومغروس في كثير من الأذهان على أنه الأمر بما أنه وارد في حكم العقل إذاً هذا الأر إرشادي، هذه الضابطة على نحو العموم غير تامة، مثلاً للتوضيح: العقل يدرك قبح الظلم لا إشكال في ذلك، وهذه من المسلمات بل النزاع بين الأشاعرة وبين الإمامية هو في هذا، في الحسن والقبح العقليين، هذا من مهمات المسائل المتنازع عليها، والحسن والقبح العقليان حصروهما في حسن العدل وقبح الظلم، فالعقل يدرك حسن العدل ويدرك قبح الظلم، فإذا ورد من الشارع (اعدلوا هو أقرب للتقوى) هل نحمل الأمر بالعدل في هذه الآية على الإرشاد، وإذا ورد النهي عن الظلم فهل نحمل هذا النهي على الإرشاد لأن العقل يدركه؟ نقول: لا قطعاً، بمعنى أنه العقل يدرك قبح الظلم ومع ذلك الشارع يحرم الظلم تحريماً مولوياً فينهى عنه نهياً مولوياً، والعقل يدرك حسن العدل والشارع أيضاً يقول يجب العدل ويأمر بالعدل أمراً مولوياً، إذاً هذه القاعدة التي هي مغروسة في كثير من الأذهان من أن الأمر المولوي أو النهي المولوي إذا ورد في مورد يحكم به العقل فهي أوامر إرشادية أو نواهي إرشادية، هذا ليس بصحيح على إطلاقه.

إذاً هناك قاعدة لا بد أن نمشي على طبقها، لنعرف أن هذا الأمر أمر إرشادي أو ليس إرشادياً، هذه القاعدة ربما نتصيدها من بعض كلمات الأصوليين، موجودة في بعض الكمات في الأثناء نلاحظها، وهي أن الأمر الصادر من المولى في مورد يحكم به العقل لو حملناه على المولوية يلزم منه الدور أو يلزم منه التسلسل أو يلزم منه اللغوية فهنا نحمله على الإرشاد، وأما إذا كان الأمر أو النهي الصادران من المولى لا يستلزمان عندما نحملهما على المولوية مخالفة حكم عقلي آخر يعني لا يستلزمان الدور ولا التسلسل ولا اللغوية، فهنا نحمله على المولوية طبقاً للقاعدة الأولى أسسناها في الأمر الأول بأن الأصل في الأوامر الصادرة من المولى أن تُحمل على المولوية ما لم يقم دليل على عدم ذلك، هنا عندما نقول: بأن هذا الأمر المولوي يستلزم منه الدور فهنا قام الدليل على عدم الحمل على المولوية فنحمله على الإرشادية.

إذاً كقاعدة نستطيع أن نقول هكذا: إن الأوامر الصادرة من المولى في موارد أحكام العقل إذا كان يستلزم منها مخالفة لحكم عقلي لاستلزامه الدور أو التسلسل أو اللغوية هنا لا بد أن تُحمل على المولوية، وأما الأوامر والنواهي الواردة في موارد الحكم العقلي إذا لم تستلزم ذلك ولم تستتبع ذلك فتُحمل على مقتضى أصلها الأولي وهو المولوية، هذه قاعدة عامة تفيدنا في المقام وتفيدنا في غير هذا المقام.

وتطبيق هذه القاعدة وتوضيحها: عندنا الأحكام العقلية كما ذكروها في موارد التجري أو في موارد أخرى، أن الأحكام العقلية تارة تقع في مرتبة سلسلة علل الأحكام وتارة تقع في مرتبة سلسلة معلولات الأحكام.

القسم الأول: إذا وقعت في سلسلة علل الأحكام فمثلها مثل العدل والظلم، العقل بما هو عقل والعاقل بما هو عاقل يدرك حسن العدل وقبح الظلم، هنا لو فرضنا أن الشارع لم يقل: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) ولم يصدر منه نهي عن الظلم، هنا نقول: ما حكم به العقل يحكم به الشرع في مثل هذا المورد، إذا العقل أدرك حسن الشيء أو قبحه في حد نفسه بحيث يكون مثل العلة التامة للحكم فهنا يُدرك حسن العدل وبالمقتضى العقلي العملي ينبغي فعله، ويدرك قبح الظلم وبمقتضى الحكم العقلي العملي ينبغي تركه، هذا الإدراك العقلي وقع في سلسلة علل الحكم، في مثل هذا المورد تأتي قاعدة الملازمة كل ما حكم به العقل حكم به الشرع فنقول: الشرع يحكم بوجوب العدل ويحكم بحرمة الظلم، هذا مقتضى الحكم العقلي لو فرضنا لم يرد من الشارع، الآن لما ورد من قبل الشارع (اعدلوا هو أقرب للتقوى) هل هذا نعتبره أمراً إرشادياً لما حكم به العقل أو يمكن أن نقول أمراً مولوياً والعدل كما العقل يدرك حسنه الشرع أيضاً يوجبه والظلم كما أن العقل يدرك قبحه الشرع أيضاً يحرمه، نقول نعم، الشرع يحرم الظلم ويوجب العدل بحكم المولوية، لأن هنا لما يصدر أمر من قبل المولى بحكمه لا يلزم منه الدور أو التسلسل أو لغواً لأن الإنسان قد لا ينزجر عن حكم العقل إذا لم يوجد حكم الشرع؛ لأن حكم العقل في حد نفسه لا يستلزم عقوبة على مخالفته، العقل يقول هذا فعل حسن ينبغي فعله، أما أنه تعاقب على تركه أو لا؟ هذا ليس من شؤون العقل بل من شؤون المولى، فالإنسان قد يكون مريض السكر العقل يقول له لا تأكل السكر لأنه يوجب الضرر عليك لا ينبغي لك فعله أما أنه لو ترك سيعاقب أو لن يعاقب؟ هذا ليس من وظائف العقل، فعليه: العقل هنا يقول: العدل حسن ينبغي فعله والظلم قبيح ينبغي تركه، لو تركته هل يستلزم من ذلك عقوبة أو لا؟ العقل لا دور في ذلك ليست وظيفته أن يبين ذلك.

إذاً لما يأتي الشارع ويقول: العدل واجب والظلم حرام هنا يستلزم مخالفة الحكم للعقوبة الشرعية، عليه: صدور هذا النهي أو الأمر من قبل المولى لا يعد لغواً ولا يستلزم الدور ولا التسلسل، فعليه نقول: بأن الأمر الوارد في مورد العدل الذي هو مورد لحكم العقل ليس أمراً إرشادياً وإنما الوارد من قبل الشارع أمر مولوي.

القسم الثاني: الحكم العقلي الوارد في مرتبة سلسلة معلولات الأحكام، يعني يوجد الحكم الشرعي ثم يوجد الحكم العقلي، في مثل هذا المورد لو ورد أمر من قبل المولى في طول الحكم العقلي هنا نحمله على الإرشاد، مثال لتوضيح ذلك: الشارع يقول صلِّ، هذا حكم شرعي، العقل يقول أطع المولى، هذا حم عقلي، أطع المولى عندما قال لك صلِّ، هذا الحكم العقلي وهو لزوم طاعة المولى حكم عقلي جاء في سلسلة مرتبة معلولات الأحكام، يعني الحكم وجد ثم جاء يقول العقل أطع المولى، بعد وجود الحكم، ولهذا عبرنا عنه في سلسلة معلولات الأحكام، هنا لما قال المولى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) هنا أمر بالإطاعة ورد مترتباً ومتعقباً وبعد حكم العقل بلزوم الإطاعة، العقل يقول: أطع هنا أيضاً يقول أطع، هذا الأمر وهو (أطيعوا) هل هو إرشادي أو هو مولوي؟ نطبق القاعدة السابقة، لو حملنا الأمر في (أطيعوا الله) على المولوية بمقتضى الأصل الأولي في الأوامر الصادرة من المولى نلاحظ أنه يواجه إما تسلسل وإما دور وإما لغوية.

بيان ذلك: (أطيعوا) الثانية لوحدها لا تكفي تحتاج إلى أن يقول العقل بلزوم طاعة المولى، عندما قال المولى صلِّ جاء العقل وقال يلزم طاعة المولى، هنا أيضاً لما يقول (أطيعوا) هنا حكم مولوي يلزم أن يأتي العقل ويقول تلزم طاعة المولى حتى أندفع نحو الفعل، إذا قلت يلزم طاعة المولى إذاً هناك ورد حكم عقلي وهكذا إذا قلت بهذا النحو فيلزم تسلسل أو يلزم دور، إذا غضضنا النظر عن هذه الجهة نقول يلزم اللغوية، عندما حكم العقل بلزوم طاعة المولى، طاعة المولى في (صلِّ) أولاً ورد (صلِّ) فلما ورد الحكم الشرعي (صل) جاء الحكم العقلي وقال: أطع المولى في قوله (صل) الآن لما يرد (أطيعوا الله) أطيعوا الله في ماذا؟ في (صل) هذا الذي حكم به العقل أنه يلزم إطاعته من قبل، بما أن المورد واحد وليس مثل هناك، فهناك العقل يدرك حسن العدل والشارع يقول: واجب، حتى يترتب عليه أثر فترتفع اللغوية، هنا المورد واحد (صل) العقل قال: يلزم طاعة المولى في قوله (صل) الشارع قال: يجب طاعة المولى في قوله (صل) هذا لم يؤثر أثراً، إن كان المكلف يندفع وينبعث عن نفس الأمر الأولي فلا حاجة إلى الأمر الثاني، وإن كان لا ينبعث عن الأمر الأولي فلا ينبعث من الأمر الثاني، بمعنى أن الأمر الصادر من المولى بما هو مولى الغرض منه هو إيجاد الداعي في نفس المكلف نحو العمل، ف(صل) هذا أمر من قبل المولى والغرض منه هو إيجاد الداعي في نفس المكلف للانبعاث نحو العمل فيأتي العقل ويقول هذا صادر من المولى فيجب عليك أيها العبد أن تمتثل ويجب عليك الإطاعة، إذا جاء (أطيعوا) الأمر المولوي الآخر، الغرض ما هو؟ نفس الغرض الموجود من الأمر الأول وهو إيجاد الداعي في نفس المكلف للإتيان بالعمل، ليس هنا المراد أنه هل تترتب عليه عقوبة أو لا وهذا يختلف عن حكم العقل، بل المقصود منه هنا هو إيجاد الداعي في نفس المكلف نحو العمل، هذا الإيجاد يفترض أنه موجود من نفس الأمر الأولي، لأن الأمر الأولي أيضاً لإيجاد الداعي في نفس المكلف فإذا لم يوجد الداعي من الأمر الأول لا يوجد الداعي من الأمر الثاني، وإذا وجد الداعي من الأمر الأول لا حاجة إلى الأمر الثاني لإيجاد الداعي، تقول: تأكيد هذا شيء آخر وليس مولوياً، ولكن لأجل الإيجاد وإحداث الداعي هذا لا يتحقق.

إذاً الأمر الثاني (أطيعوا الله) لو أردنا أن نحمله على المولوية لزمت منه اللغوية، والشارع الحكيم لا يصدر منه اللغو بل يستحيل عليه اللغو لأنه قبيح ويستحيل عليه القبيح، فلهذا نقول: إن الأمر الثاني إرشادي، هذا بيان للضابطة متى نحمل الأوامر الصادرة من المولى على الإرشاد ومتى نحملها على المولوية.

إذا طبقنا هذا الكلام على ما نحن فيه، عندنا هنا الحكم العقلي بمقتضى العلم الإجمالي أو بمقتضى الاحتمال يقول: يلزم الفحص والتعلم، والشارع هنا قال: يلزم التعلم، الشارع قال: يلزم التعلم هنا ليس أمر الشارع بوجوب التعلم من قبيل (أطيعوا) لزوم الطاعة وإنما هو من قبيل لزوم الأول، الحكم العقلي بمقتضى العلم الإجمالي يجب التعلم والحكم الشرعي يقول: يجب عليك التعلم، بحيث لو لم تتعلم وصادف مخالفة الواقع تعاقب، فيترتب عليه أثر فإذا ترتب عليه أثر لا يعتبر لغواً، عندما يصدر أمر من قبل الشارع لا يعتبر لغواً، نعم لا نقول هو أمر نفسي لما ذكرنا سابقاً من أنه التعلم لأجل العمل فالعقوبة تستتبع مخالفة العمل لا تستتبع مخالفة التعلم، عليه: ما أفاده المحقق العراقي (قده) من أن الأمر الموجود في المقام أمر إرشادي لأن العقل يحكم به هذا الكلام غير تام. والحمد لله رب العالمين.