الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/02/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية:

مقدار الفحص قبل العمل بالأصول:

الكلام كان في شرائط جريان الأصول، والشرط المهم طبعاً هو لزوم الفحص قبل جريان الأصول، يعني قبل أن أجري البراءة يجب الفحص عن الحكم الشرعي في الأدلة فإذا لم أجد الدليل بعد ذلك أجري البراءة، على حسب ما تقدم الكلام فيه والوجه في ذلك.

الآن الكلام في مقدار الفحص، هذه تنبيهات جُعلت لأصل الشرائط، أو نقاط وجهات مختلفة، فالكلام فعلاً في الجهة الأولى: وهي مقدار الفحص، متى ينتهي الفحص بحيث يمكن للمكلف أن يجري الأصل العملي.

طبعاً لتوضيح المراد وتحديد جهة البحث نقول: بأن المكلف بشكل عام يجب عليه الفحص عن الحكم الشرعي، بما أنه يؤمن بالشريعة المقدسة ويؤمن بوجود أحكام إلزامية في ضمن هذه الشريعة المقدسة يجب عليه أن يسعى نحو هذه الأحكام لمعرفتها ومن ثم تطبيق هذه الأحكام، والمكلف صنفان: مكلف مجتهد ومكلف مقلد، المقلد يجب عليه الفحص أيضاً ولكن وظيفة المجتهد تختلف عن وظيفة المقلد، المقلد يجب عليه أن يفحص عن الأعلم ويجب عليه أن يفحص عن رأي الأعلم، بعبارة أخرى: هو عندما خوطب بهذا الحكم الإلزامي وعلم بوجود حكم إلزامي فعليه -كما قلنا- أن يسعى لتحصيل هذا الحكم الشرعي وتنفيذه وتطبيقه، بالنسبة إليه معرفة هذا الحكم عن طريق المجتهد، فنقول: يجب عليك أن تفحص عن الأعلم لترجع إليه ثم تفحص عن رأيه، فإذاً عنده جهتان للفحص: جهة موضوعية، من هو الأعلم الذي يبرء ذمته، وجهة حكمية أخرى وهي ما هي فتوى ذلك الأعلم، فعلاً هذا الصنف من المكلفين خارج عن محل بحثنا.

الصنف الثاني: هو المجتهد وهو محل البحث الذي يفحص عن الأدلة لأجل جريان الأصل العملي وعدم جريانه، فإذاً فعلاً البحث في هذا الصنف، وبالنسبة إلى المجتهد أيضاً يوجد عندنا أمور ترتبط بأصول الدين، أو فقه الدين قسم منه أصول الدين وقسم منه فروع الدين، قسم أصول الدين هذا يحتاج إلى العلم ولا يكتفى فيه بالظن وهذا أيضاً فعلاً هو خارج عن محل بحثنا، ليس محل بحثنا البحث عن أصول الدين والفحص عنه.

القسم الثاني: في فروع الدين، وهي التي تقع تحت محل البحث، وفروع الدين أيضاً نلاحظ فيها جهتين بالنسبة إلى المجتهد:

جهة: أحكام غير واقعة تحت ابتلاء المجتهد، مثلاً: أحكام النساء بالنسبة إليه، هذه غير واقعة تحت ابتلاءه، فإذا يبحث فيها من حيث إعطاء الفتوى للغير، هذه النقطة تُبحث من ناحية أنه يجب كفايةً، يعني الاجتهاد يجب على نحو الكفاية، إذا تصدى له من يُكتفى به فيسقط عن الآخرين، وأما إذا لم يتصدى من يكتفى به فيلزم الجميع، يعني خطابه يكون موجه للجميع، فإذاً هذه النقطة أيضاً من هذه الجهة نستطيع الآن فعلاً أن نقول هي خارجة عن محل بحثنا ولكن من جهة أخرى، من حيث إعطاء الفتوى وأنه لا بد للمجتهد أيضاً من أن يبحث، يعني لو وجب عليه تعييناً مثلاً، ولم يقم به من يكتفى به فالمجتهد يجب عليه إعطاء الفتوى فهو يبحث عن الأدلة بمقدار، فمن جهة نلاحظ أنها خارجة عن محل بحثنا ومن جهة يمكن أن ندرجها في محل البحث.

النوع الثاني من الأحكام: أحكام تخص المكلف المجتهد نفسه، مثل أحكام الطهارة وأحكام الصلاة والصوم والحج التي هي واقعة تحت محل ابتلاء المجتهد، هذا النوع فعلاً هو محل البحث، أو القدر المتيقن من محل البحث هو هذا النوع، الآن متى يستطيع المجتهد أن يجري البراءة الأصل العملي بالنسبة إلى الأحكام التي تخصه؟ نقول: يجب الفحص عن الأدلة، ما هو مقدار هذا الفحص؟ الكلام فعلاً هنا: ما هو مقدار هذا الفحص؟

توجد عندنا ثلاثة احتمالات لمقدار الفحص:

الاحتمال الأول: يفحص إلى أن يحصل العلم بعدم الدليل، يعني يفحص في الأدلة إلى أن يحصل عنده العلم القطعي بأنه لا يوجد دليل على هذا الحكم الشرعي، عندها ينتهي وجوب الفحص، فإذاً غاية الفحص هو العلم بعدم وجود الدليل.

الاحتمال الثاني: يجب الفحص إلى أن يحصل الاطمئنان بعدم الدليل لا العلم كالاحتمال السابق، والاطمئنان يعتبر متاخم للعلم وملحق به، ونستطيع أن نقول علم عقلائي، ولكن الفرق بينه وبين الأول: أن الأول المقصود منه اليقين، والاطمئنان درجة أقل من اليقين، فيجب الفحص على هذا الاحتمال إلى أن يحصل الاطمئنان بعدم وجود الدليل.

الاحتمال الثالث: يجب الفحص إلى أن يحصل الظن بعدم الدليل، لا أن يحصل العلم ولا الاطمئنان، وإنما هو درجة أقل من درجة العلم والاطمئنان، هذه احتمالات ثلاثة موجدة في المقام.

أما بالنسبة إلى الاحتمال الأخير: وهو إلى حصول الظن، فلا يوجد دليل عليه، ليس عندنا هناك دليل على اعتبار هذا الظن، طبعاً من الواضح وتقدم الكلام فيما سبق بأن الظن في الأصل ليس بحجة، (لا يغني من الحق شيئاً) عندنا ظنون اعتبرت معتبرة بأدلة خاصة ولهذا سموه الظن الخاص، أما الظن العام لا يوجد عندنا دليل، الظن الخاص الذي قام عليه دليل بخصوصه نقول: هذا الظن حجة ومعتبر، هنا في المقام نقول: عندما بحث المجتهد عن الحكم وحصل عنده ظن بعدم وجود الدليل، هذا الظن لا عبرة به ولا دليل عليه، فإذاً هذا الاحتمال ملغى في المقام، يعني لا نقول يجب على المجتهد الفحص إلى أن يحصل الظن بعدم الدليل، هذا الظن لا عبرة به وهو مرتفع. فإذاً يدور الأمر بين الاحتمال الأول والاحتمال الثاني.

بالنسبة إلى الاحتمال الأول: وهو حصول العلم، فهنا يواجه عدة إشكالات بحيث لا يمكن أن نقول به.

أولاً: نقول: بأنه يلزم من ذلك العسر والحرج، يعني نقول للمجتهد ابحث في الأدلة إلى أن يحصل عندك اليقين بعدم وجود الدليل، حصول اليقين يحتاج أن يبحث في جميع ما يحتمل وجود الدليل فيه، في كل مورد يحتمل وجود الدليل فيه يجب البحث عنه، هذا يحصل منه العسر والحرج فإذاً هو منفي، فنقول: بمقتضى قاعدة العسر والحرج يُنفى لزوم الفحص إلى أن يحصل اليقين العلم.

الإيراد الثاني: يلزم منه أساساً سد باب الاستنباط، عندما نقول للمجتهد يجب عليك الفحص إلى أن يحصل عندك يقين بعدم وجود الدليل يلزم منه ألا يستنبط حكماً شرعياً؛ لأنه متى يحصل عنده اليقين بعدم الدليل؟ نفترض أنه تابع الوسائل كله أيضاً لازال لم يحصل عنده يقين ويحتمل وجود الدليل في مكان آخر من الكتب الأربعة وعندما يبحث في الكتب الأربعة كلها وانتهى ولم يجد دليل على هذا الحكم، يقول: يحتمل أن يوجد في الكتب الأخرى الموجودة، لو فرضنا أنه استطاع أن يبحث في كل الكتب الأخرى والروايات أيضاً يحتمل أنه يوجد الدليل ولكن لم يقع نظره عليه ولم يعثر على الدليل، وهكذا المهم أن الاحتمالات موجودة، فتعليق الفحص إلى أن يحصل العلم بعدم الدليل أشبه ما يكون من باب التعليق على المحال، فينسد باب الاستنباط على هذا، فلا يستطيع المجتهد أن يستنبط الحكم لأنه كلما بحث لا يحصل عنده اليقين بعدم الدليل لأنه يمكن أن يوجد في كتاب آخر لم يطلع عليه، وهكذا احتمالات متعددة، فإذاً لو عُلق الأمر على حصول العلم لانسد باب الاستنباط.

أيضاً، يمكن أن يقال، كإشكال ثالث: بأنه لا يوجد عندنا دليل على اعتبار العلم في لزوم الفحص، يعني لو بحثنا في الأدلة هل هناك دليل يقول: يجب عليك الفحص إلى ان يحصل العلم؟ لا يوجد عندنا هذا الدليل، هذه الدعوى يمكن أن تُدعى أيضاً، فنقول عدم الدليل على لزوم حصول العلم بعدم الدليل، هذا يمكن أن نضيفه فيكون عندنا إشكالات ثلاثة على ذلك، والمهم هو الأمران الأولان.

إذاً إذا انتفى الظن وانتفى حصول العلم يتعين الثالث، نقول: يجب عليه الفحص إلى أن يحصل عنده اطمئنان بعدم الدليل وربما يعبر عن ذلك باليأس عن الظفر بالدليل، عندما يبحث في الموارد المعتبرة والمحددة لا يجد، يعني يحصل عنده اطمئنان بعدم وجود الدليل، الاطمئنان حجة عقلائية، يعني تباني العقلاء وسيرة العقلاء على العمل على طبقه ولم يردع عنه الشارع، لم يوجد عندنا رادع من قِبل الشارع بأنه لا تعمل بالاطمئنان، فإذا الاطمئنان من جهة هو حجة عقلائية وتبانى عليه العقلاء وجرت سيرة العقلاء عليه ومن جهة أخرى لم يردع عنه الشارع، فإذاً هذا الاطمئنان حجة، فإذا بحث المجتهد وحصل عنده اطمئنان بعدم الدليل ويأس عن الظفر بالدليل هناك يستطيع أن يجري الأصل العملي، هذا من حيث الكبرى، هل هذه الكبرى يمكن تطبيقها على المصاديق، أو لا يمكن؟ نقول: نعم يمكن تطبيقها على المصاديق، بمعنى أنه هل يمكن أن يحصل اطمئنان بعدم الدليل عند البحث أو لا؟ نقول نعم؛ وذلك لأن العلماء والفقهاء المتقدمين (رحمهم الله جميعاً) بذلوا جهداً كبيراً في حفظ تراث أهل البيت (عليهم السلام) وفي حفظ رواياتهم، فحفظوها، بالنسبة إلى الرواة حفظوا هذا التراث في أصولهم وكتبهم، الأصول الأربعمائة وغيرها، الرواة عندما سألوا الأئمة (عليهم السلام) دونوا هذه الأحاديث، ثم جاء من بعد ذلك دور المصنفين مثل الشيخ الكليني (ره) صاحب الكافي، والشيخ الصدوق (ره) في الفقيه والشيخ الطوسي (ره) في التهذيب والاستبصار، هؤلاء صنفوا الروايات، يعني صاحب الأصل هو ربما يذهب إلى الإمام عليه السلام وعنده مجموعة من الأسئلة بعضها ربما يرتبط بالطهارة وبعضها بالصلاة وبعضها بالحج وبعضها بالزكاة وهكذا، ويدون ما عنده، طبعاً بعض الرواة أيضاً هم صنفوا كتبهم، يعني له كتاب في الصلاة وله كتاب في الصوم وله كتاب في الحج وفي النكاح وكذا، هذا الأمر فيه أسهل على أصحاب الكتب الأربعة، وقسم ربما يكون كتاب جامع يعني فيه روايات هذا الرجل مع اختلافها، فدور أصحاب الكتب الأربعة أنهم صنفوا الروايات، فكتب لنا الكافي عندنا باب الطهارة وعندنا باب الصلاة والزكاة والصوم وهكذا على سائر الأبواب، أيضاً لما جاء الشيخ الصدوق (ره) أو الشيخ الطوسي (ره) أيضاً صنفوا ذلك، أيضاً جاء بعد ذلك دور مثل صاحب الوسائل (ره) او صاحب الوافي (ره) أو صاحب البحار (ره) فصاحب الوسائل جمع ما في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب وصنفها، يعني باب الطهارة ربما تجد رواية من الكافي ورواية من التهذيب ورواية من الفقيه وربما تجد من كتاب آخر غير الكتب الأربعة، فصنفها على كتب أو على أبواب ثم هذا الكتاب أيضاً صُنف على أبواب يعني كتاب الصلاة عندنا أبواب الركوع وعندنا أبواب السجود وأبواب القراءة وهكذا، فإذاً عندنا تصنيف إلى أصل كتاب الصلاة ثم تصنيف إلى الأبواب المختلفة بحسب الأجزاء والأركان، من هذه الجهة الفقهاء المتقدمون والمحدثون المتقدمون (ره) مع هذا الجهد الكبير الذي بذلوه سهّلوا الأمر على المتأخرين، فصار المجتهد المتأخر عندما يريد أن يبحث عن مسألة في الطهارة يذهب إلى باب الطهارة وأيضاً هذه المسألة ترتبط بالباب الفلاني من الطهارة نفترض طهارة من الحدث يذهب إلى أبواب الحدث، وأبواب الحدث أيضاً مختلفة يذهب إلى باب الحدث الأصغر، والحدث الأصغر أيضاً يرتبط بقسم باعتبار أنه متعدد فيذهب إلى الروايات المختصة به، فبإمكان الفقيه أن يذهب إلى الباب المختص والأبواب التي تكون متقاربة له ومشابهة له فتكون يحتمل أن يوجد فيها ما يدل على الحكم فيمكن مثلاً هذا الباب ذُكرت الراوية بنحو الإطلاق يمكن في الأبواب الخاصة أو المرتبطة يوجد ما يقيد هذه الرواية ليس في نفس الباب ولكن في باب آخر مقارب، فبإمكان الفقيه إذاً أن يبحث في الأبواب المختصة وما يقاربها، وعندما يذهب إلى ذلك ويبحث ولا يجد دليل يحصل عنده اطمئنان بعدم الدليل، يعني إذا كانت الرواية في باب الطهارة والبحث يرتبط مثلاً بالحدث الأصغر وبحث في أبوابها ولم يجد الدليل على الحكم يحتمل مثلاً وجوده في مقدمات الصلاة مثلاً وبحث أيضاً في تلك المقدمات ولم يجد هنا يحصل عنده اطمئنان بعدم وجود الدليل، يعني لا يحتمل أن يوجد هذا الحكم في باب الزكاة أو في باب الحج مثلاً أو في باب الديات مثلاً، فهو يبحث في هذا الباب المرتبط به، وبما أنه يبحث بما يرتبط به وما يرتبط به من الأبواب، إذاً صغروياً يمكن أن يحصل عندنا اليأس عن الظفر بالدليل، أو يحصل عندنا اطمئنان بعدم وجود الدليل.

إذاً الآن اتضح إلى هنا أنه يجب الفحص على المكلف المجتهد إلى أن يحصل الاطمئنان بعدم الدليل، هذا من حيث الكبرى، ومن حيث الصغرى نقول: البحث في الأبواب المختصة وما يرتبط بها يحصل هذا الاطمئنان، يعني لا يقال إنه لا يحصل عندنا اطمئنان مثلما يقال في العلم، فالعلم يختلف، اليقين نقول إنه يحتمل أن توجد قرينة في باب آخر، أما الاطمئنان يحصل، فإذاً صغروياً وكبروياً نقول: الاطمئنان يمكن حصوله، هذه هي الجهة الأولى في هذا البحث.