الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/02/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية:

المانع الخامس:

من جملة الموانع التي ذُكرت للمنع عن إطلاق أدلة البراءة هو ما ذكره السيد الخوئي (قده) وهو الأخبار الدالة على وجوب التوقف وقد تقدم جملة منها في مبحث البراءة فهناك تعرض إلى باب الروايات من جملتها (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) وأيضاً الأمور الثلاثة (أمر بين رشده فاتبعه وأمر بين غيه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فرده إلى الله) هذه الروايات التي تذكر في بحث أدلة لزوم الاحتياط وتسمى بروايات التوقف.

الآن يريد السيد (قده) أن يستدل بها في المقام وأن يقول بأن النسبة بينها وبين أدلة البراءة هي نسبة التباين باعتبار أن روايات التوقف تقول: يجب التوقف قبل الفحص أو بعد الفحص، مادام لم تعلم بالحكم تتوقف عند الشبهة، وأدلة البراءة النقلية تقول بجريان البراءة قبل الفحص أو بعد الفحص حسب الدعوى أنها مطلقة فتكون قبل الفحص أو بعد الفحص، إذاً النسبة بينهما هي نسبة التباين، عادةً نسبة التباين إذا وُجدت بين الأدلة المتعارضة المتكافئة هي التعارض، يعني الحكم فيها هو التعارض القاعدة فيها هو التعارض.

ولكن هنا عندنا رواية واحدة في أدلة التوقف تقول: (فأرجئه حتى تلقى إمامك) هنا هذه الرواية يستفاد منها أنه يجب عليك التوقف إلى أن تلقى إمامك يعني تتفحص وتسأله، يعني أن المسألة ليست خاصةً بزمان الحضور حتى نقتصر على خصوص رؤية الإمام عليه السلام، وإنما أرجئه حتى تلقى إمامك معنى يستفاد منه حتى تفحص عن الدليل.

هذه الرواية من روايات التوقف نسبتها مع روايات النقلية نسبة العموم والخصوص المطلق، لأنه كما قلنا بأن روايات البراءة تقول: بجريان البراءة مطلقاً قبل الفحص وبعده، وهذه تأمر بالتوقف إذا أنت فحصت، معنى ذلك أنها أخص مطلقاً من أدلة البراءة، فعليه تخصصها.

فالنتيجة تكون أن أدلة البراءة مخصصة بما بعد الفحص ببركة هذه الرواية، والنسبة بين أدلة البراءة وبين بقية الروايات النسبة تنقلب من التباين إلى العموم والخصوص المطلق أيضاً؛ لأن أدلة التوقف مطلقة قبل الفحص أو بعده وأدلة البراءة صار محتواها بعد التخصيص هو البراءة بعد الفحص وهي أخص مطلقاً من التوقف مطلقاً قبل الفحص وبعده، فتُخصص أدلة التوقف بروايات البراءة بعد تخصيصها، والنتيجة: يجب التوقف قبل الفحص ويمكن جريان البراءة بعد الفحص، هذا حاصل كلامه.

طبعاً هذه الأدلة تكون من باب انقلاب النسبة، البحث المعروف عندهم في بحث التعارض، يُتعرض لبحث انقلاب النسبة، وانقلاب النسبة له عدة صور ولكن الصورة هنا في المقام هي هذه:

أولاً: يوجد عندنا دليلان عامان متعارضان بالتباين، الدليل الأول دليل التوقف يقول: قف عند الشبهة مطلقاً قبل الفحص وبعده، والدليل الثاني دليل البراءة يقول: يمكنك جريان البراءة الفحص وبعده، النسبة بين هذين الدليلين هي نسبة التباين، ثم يأتي دليل ثالث وهو ناظر إلى أحد العامين، الدليل الثالث في المقام هو (فأرجئه حت تلقى إمامك) هذا الدليل خاص، قال بالتوقف إلى رؤية الإمام فإذا عدينا الكلام إلى عصر الغيبة نقول بالتوقف إلى أن تفحص، فصار هذا الدليل الثالث أخص مطلقاً من الدليل الثاني، النسبة بينه وبين الدليل الأول وهو أدلة التوقف مثبتان لا تعارض بينهما، أدلة التوقف تقول توقف مطلقاً وهذه تقول توقف إلى أن تفحص وتلقى الإمام لا تعارض بينهما، التعارض بين دليل (أرجئه حتى تلقى إمامك) وبين أدلة البراءة والتعارض بالعموم والخصوص المطلق.

القاعدة أن نحمل العام على الخاص فنخصص الدليل العام وهو دليل البراءة أو الدليل المطلق نقيده بهذا الدليل، فبما أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق نخصصه فتكون النتيجة من التخصيص الأول هي: اجرِ البراءة بعد الفحص بعد أن تلقى إمامك.

الآن صار الدليل الثاني العام خاص بالنسبة إلى الدليل الأول؛ لأن مضمونه بعد التخصيص هو جريان البراءة بعد الفحص فقط، لما صار خاص الآن نلاحظ النسبة من جديد بينه وبين الدليل الأول وهو أدلة التوقف المطلقة وهي عامة تشمل ما قبل الفحص وبعد الفحص، نلاحظ الآن النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، بعد أن كانت نسبة التباين انقلبت النسبة إلى نسبة العموم والخصوص المطلق، فأدلة التوقف تقول: توقف قبل الفحص أو بعده، دليل البراءة يقول: يمكنك جريان البراءة بعد الفحص لا تتوقف بعد الفحص، نخصص الدليل الأول بهذا الدليل الثاني بعد أن كان خاصاً، فالنتيجة: يجب التوقف قبل الفحص ولا يجب التوقف بعد الفحص، فيتم المطلوب وهو لزوم الفحص عند جريان أدلة البراءة، يعني الإطلاق الموجود في دليل البراءة نتيجته أنه خاص بخصوص ما بعد الفحص لا قبل الفحص، هذا ما أفاده.

طبعاً هنا عدة إشكالات أوردت على السيد الخوئي (ره) من جملتها ما يرتبط بأصل المبنى مبنى انقلاب النسبة، لأن انقلاب النسبة من التباين إلى العموم والخصوص المطلق بعد تخصيص أحد الدليلين العامين، هذه مسألة محل بحث وخلاف ومن المسائل المهمة في بحث التعارض والعميقة، فالسيد الخوئي (ره) يرى انقلاب النسبة، قسم من الأصوليين لا يرون انقلاب النسبة فلهذا أورد عليه بهذا الإيراد المبنائي، أننا لا نرى انقلاب النسبة، فلا يتم كلامه من حيث المبنى.

لكن هنا يمكن أن توجد ملاحظة بأنه قد لا نحتاج إلى أصل مبحث انقلاب النسبة، يعني نكتفي بملاحظة هذا الدليل الخاص وهو (أرجئه حتى تلقى إمامك) مع أدلة البراءة، فنقول" هذا الدليل الخاص كافي في المقام، لكن هذا البحث ليس ضرورياً لكونه مبنائياً.

الإشكالات الأخرى:

الشيخ الوحيد (حفظه الله) أورد بعض الإشكالات:

من جملتها: يقول: بأنه لا تعارض أساساً بين روايات البراءة وروايات الوقوف عند الشبهة، أصلاً التعارض بينهما محال، ووجه الاستحالة: يقول: بأن النسبة بين روايات البراءة وروايات الوقوف عند الشبهة نسبة الحاكم والمحكوم ويستحيل التعارض بين الحاكم والمحكوم.

بيان الحكومة: أن موضوع روايات التوقف عند الشبهة، هو في فرض وجود الشبهة، لأن التعارض لا بد أن يُحتفظ فيه بالموضوع، فالروايات تقول: قف عند الشبهة، لا بد من حفظ الموضوع وهو الشبهة، إذا وجدت الشبهة نقول: يجب الوقف، إطلاق أدلة البراءة التي تقول على الفرض: بجريان البراءة قبل الفحص وبعده هذا الإطلاق ينفي الشبهة، يعني بعد ترخيص الشارع بجريان البراءة في المقام تنتفي الشبهة وإذا انتفت الشبهة ينتفي موضوع أدلة (قف عند الشبهة) فُيقدم عليه ويكون حاكماً عليه، يرفع موضوعه تعبداً، فإذا كان حاكماً عليه لا نتصور التعارض بينهما.

نكرر ذلك ونقول: إن التعارض بالتباين الذي أفاده وبتعبير آخر التعارض المستقر، هذا التعارض لا يكون إذا كان بين الدليل والآخر حاكم ومحكوم أو وارد ومورود أو خاص وعام أو مطلق ومقيد، فلا يوجد عندنا تعارض مستقر، إذا كان بين الدليلين حكومة أحدهما حاكم والآخر محكوم هنا لا يمكن أن نحقق التعارض بينهما، وفيما نحن فيه أُخذ في أدلة الوقوف عند الشبهة موضوع الشبهة، يعني إذا كانت هناك شبهة فقف، أدلة البراءة بما أنها مطلقة تقول: يمكن جريان البراءة قبل الفحص وبعده، ترفع الشبهة، يعني تقول بما أن هناك مرخصاً شرعياً إذاً لا شبهة في البين، الشبهة مع عدم وجود المرخص مع عدم وجود أي دليل، أما مع وجود المرخص لا تكون هناك شبهة، فأدلة البراءة ترفع موضوع أدلة الوقوف عند الشبهة، فإذا رفعت هذا الموضوع كانت حاكمة عليه، ومع وجودها تنتفي، فلا نتصور أساساً وجود شبهة.

فكلام السيد الخوئي (ره) ثبّت وجود الشبهة وثبّت التعارض ثم بالدليل الثالث خصص الدليل الثاني وهو أدلة البراءة ثم انقلبت نسبة الدليل الثاني مع نسبة الدليل الأول، يقول: هذا كله مبني على التعارض حتى لو قلنا الآن بانقلاب النسبة، هذا كله مبني على التعارض، أما إذا قلنا بعدم وجود التعارض وإنما هناك حكومة فينتفي هذا الكلام، هذا الإشكال الأول، وهو إشكال متين.

الإشكال الثاني: أخبار الوقوف عند الشبهة أخبار إرشادية وليست مولوية، والوجه في ذلك أن فيها تعليل يقول: (فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) هذا تعليل وهذه العلة ليست تعبدية بل هي عقلية، العلة عقلية، يعني قف عند الشبهة حتى لا تقتحم في الهلكة، فإذاً الحكم هنا هو إرشادي لا مولوي، وقانون التعارض هو أن يكون كلا الدليلين شرعيين، إذا كان الدليلان شرعيين يمكن تصور التعارض بينهما، أما إذا كان دليل إرشادي هنا لا نتصور التعارض بين الدليل الشرعي التعبدي والإرشادي، هناك إرشاد إذا كان هناك شبهة لا تقتحمها هنا يقول: يمكنك جريان البراءة مادام لا تعلم بالحكم الواقعي ففي مقام الحكم الظاهري يمكن جريان البراءة، فإذاً لا تعارض أيضاً بينهما ولكن من جهة أخرى، وهي أن أحد الدليلين إرشادي والآخر تعبدي ولا تعارض بينهما.

ثم أيضاً لو فرضنا أنه يوجد تعارض بين هذين الدليلين، السيد الخوئي (ره) قال: بأنه (أرجئه حتى تلقى إمامك) هذا مخصص لأدلة البراءة، بعد تعارض الدليلين الأولين جعل هذا الدليل الثالث مخصصاً لأدلة البراءة، هذا الدليل الثالث.

طبعاً هو وارد في مقبولة عمر بن حنظلة، هذه المقبولة على فرض قبولها، لأن السيد الخوئي (ره) لم يثبت عنده وثاقة ابن حنظلة، وعلى فرض قبولها بحيث يصح منه أن يستدل بها للتخصيص أو التقييد، ولكن الأمر فيها بالتوقف كان بعد كون الروايتين متعارضتين متكافئتين، يعني بعد انتفاء المرجحات الأخرى، موافقة الكتاب أو مخالفة العامة وغيره، في الأخير قال: إذاً أرجئه حتى تلقى إمامك، إذاً هذا الأمر بالتوقف حصل بعد الفحص يعمي بعد أن فحص وانتهى هنا أرجئه حتى تلقى إمامك، جميع المرجحات التي فرضها في السؤال انتهت بعد ذلك أرجئه حتى تلقى إمامك، إذاً هذه حصلت بعد الانتهاء من ذلك فكيف نقول: بأنه مخصصة لأدلة البراءة فتكون أدلة البراءة فيا بعد الفحص، هنا لا معنى له.

إذاً الآن المقصود من الإشكال الثالث هو أن السيد الخوئي (ره) بعد تمامية التعارض بين الدليل الأول والدليل الثاني بالتباين خصص الدليل الثاني بدليل ثالث وهو (أرجئه حتى تلقى إمامك) وكانت النتيجة بين الدليل الثاني والثالث أن تُجرى البراءة بعد الفحص ولا تُجرى قبل الفحص، هذه الرواية (أرجئه حتى تلقى إمامك) بعد جميع هذه المرجحات انتفت يقول: (أرجئه حتى تلقى إمامك)، فهي بعيدة عن البحث ولا ربط لها بالبحث، بل أنه بعد الفحص لم يكن هناك نتيجة، يعني بعبارة أخرى نقول: عندنا دليلان متعارضان وبعد البحث والفحص لم نجد علاجاً لهما من جميع الجهات، يقول: (أرجئه حتى تلقى إمامك).

بينما ما نحن فيه في البراءة شبهة حكمية لا ندري يوجد فيها دليل أو لا يوجد فيها دليل، نريد أن نجري البراءة إذا سلمنا بأدلة التوقف نتوقف وأدلة البراءة تقول: اجرِ البراءة، فيكون هناك تعارض، إذاً هذا الدليل الثالث، نقول: أولاً هو أساساً بعد الفحص، ثانياً هو لا يتلائم مع المقام لأنه الدليلان وُجدا وهما متعارضان ومتكافئان ولا علاج لنا، في مثل المضمون إما أن نعتبره بعد الفحص أو نعتبره أجنبي عن المقام، فعليه: لا يجري حكم التعارض بين الخاص والعام بين (أرجئه حتى تلقى إمامك) وبين أدلة التوقف.

هذه الإشكالات التي يمكن أن ترد على السيد الخوئي (ره)

والنتيجة إلى هنا: بأن الموانع التي ذُكرت للمنع عن الإطلاق إطلاق أدلة البراءة متعددة، منها الإجماع ومنها الدليل العقلي ومنها العلم الإجمالي ومنها هذه روايات التوقف هذه كلها مخدوشة، تبقى عندنا الروايات التي تفيد في الحث على طلب العلم وخصوصاً الرواية التي رويناها ونقلناها عن البحار وأن العبد يُحتج عليه يوم القيامة فإذا قال: ما علمت، يقال له: أفلا تعلمت، مع الإضافة التي أضفناها فيها، يعني لا نقتصر على خصوص نفس الرواية وهي موثقة، ولكن هي مع الإضافة يتم بذلك الكلام ويمكن أن نرفع اليد عن الإطلاق على فرض ثبوته بمثل هذه الروايات روايات التعلم.

عندنا أيضاً رواية أخرى، وهي تُذكر في بحث الاحتياط هناك، رواية عبد الرحمن ابن أبي الحجاج، مضمونا، أن محرمان أصابا صيداً فهل الجزاء عليهما أو على كل واحد منهما؟ وعبد الرحمن يقول أنا سئلت ولا أعرف المسألة، الإمام يقول: إذا ابتليت بهذا فاحتط حتى تسأل.

هذه أيضاً بما أنه يسأل عن مسألة لم يعرف حكمها الإمام عليه السلام يقول: احتط حتى تسأل، إذاً لا بد من التوقف والفحص قبل السؤال، هذه ين=مكن أن تضاف إلى تلك الروايات، وإن كانت هي مستقلة، ولكن الغرض أنه بمقتضى الروايات نرفع اليد عن إطلاق أدلة البراءة على فرض تحقق الإطلاق، فالنتيجة إذاً هي لزوم الفحص. والحمد لله رب العالمين.