الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/02/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية

البراءة النقلية: إطلاق حديث الرفع أو عدمه:

كان الكلام بالنسبة إلى البراءة النقلية، ما هو الشرط فيها؟ وقبل البحث في أنه هل يشترط الفحص أو لا يشترط؟ قلنا بأنه هناك مبحث يكون سابقاً على هذا وهو: هل أن لحديث الرفع إطلاق بما قبل الفحص، أو لا يوجد فيه إطلاق؟ يعني إذا كان فيه إطلاق فالمقتضي للبراءة النقلية موجود وهو نفس حديث الرفع والبحث يكون في المانع، أما إذا قلنا بأنه لا إطلاق فيه من أساس فلا مقتضي لجريان البراءة النقلية قبل الفحص، أساساً لا يوجد المقتضي، ونقلنا سابقاً ما أفاده المحقق العراقي (قده) من أن حديث الرفع مطلق وبيّنا الوجه فيه والوجه في خدشته.

الكلام الآن في القول الثاني للذين قالوا بأن حديث الرفع لا إطلاق فيه لما قبل الفحص، فوجه كلامهم في ذلك هو أن الإطلاق كما هو معلوم يتمسك به في حال عدم وجود القرينة الحالية أو المقالية، يعني أن الإطلاق أساساً إنما يُعتمد عليه من باب مقدمات الحكمة، يعني إذا توفرت فيه مقدمات الحكمة نتسمك بالإطلاق، فإذاً الإطلاق يكون متوقفاً على عدم وجود قرينة حالية ولا مقالية، أما إذا وجدت فلا إطلاق، وما نحن فيه يعني حديث الرفع، توجد قرينة لبيّة تمنع من هذا الإطلاق وهذه القرينة اللبيّة هي حكم العقل بوجوب الفحص عن أحكام المولى، إذاً: هنا أُخذ في هذا الكلام حكم العقل بوجوب الفحص عن أحكام المولى، هذا الحكم العقلي يشكل قرينة مانعة من التمسك بالإطلاق.

وبيان ذلك بصورة أوضح: نقول بأن الأحكام العقلية على قسمين:

القسم الأول: أحكام نظرية.

القسم الثاني: أحكام عقلية ضرورية.

عندنا أحكام عقلية ولكن تحتاج إلى بحث وبذل وتفكير وما شاكل، وعندنا أحكام عقلية ضرورية لا تحتاج إلى مقدمات وبحث وجهد فكري.

بالنسبة إلى الاحكام النظرية للعقل نسبتها مع الدليل تكون كنسبة المخصص المنفصل للعام أو للمطلق بمعنى أن المخصص المنفصل لا يمنع العام من انعقاد الظهور في العموم، إذا قال المولى أكرم العلماء، هذا أمر ما لم يوجد مخصص متصل ينعقد ظهور هذا العام في العموم فنقول هو ظاهر في العموم، إذا وُجد دليل منفصل وقال: لا تكرم الفسّاق من العلماء، هذا الدليل لا يؤثر في ظهور العلماء، لا تقول: تبين لنا أن العلماء لم يكن ظاهراً في العموم، لا، فالظهور على ما هو عليه، انعقد الظهور في العموم لعدم وجود دليل متصل، ولكن هذا الدليل المنفصل المخصص المنفصل أثَّر في حجيته ولم يؤثّر في ظهوره، فنقول: العلماء ظاهر في العموم إلا أن هذا الظهور ليس بحجة لوجود الحجة الأخرى القائمة على التخصيص، هذه هي وظيفة المخصص المنفصل، لا يمنع من انعقاد الظهور وإنما يمنع من حجية الظهور.

الحكم العقلي النظري يكون بمثابة المخصص المنفصل فهو لا يمنع الكلام من الظهور ولا يمنع الإطلاق من ظهوره في الإطلاق وإنما يمنع من حجيته.

أما القسم الثاني: وهو الحكم العقلي الضروري فنسبته مع الدليل نسبة المخصص المتصل بالعام، الدليل المتصل يمنع العموم من انعقاده في الظهور، عندما يقول المتكلم: أكرم العلماء إلا الفسّاق، هنا أساساً لم ينعقد في العلماء ظهور في العموم، لا تقول إن العلماء هنا يفيد جميع العلماء بمقتضى الظهور، بل ما دام المخصص المتصل موجوداً فهو لم ينعقد في العموم، العلماء لم ينعقد في العموم، الحكم العقلي الضروري بمثابة المخصص المتّصل، فهو يمنع من انعقاد الظهور في العموم أو الإطلاق.

إذا اتضح هذ الفرق بين الأحكام العقلية والأحكام العقلية الضرورية، نطبق هذا الكلام على المقام عند هؤلاء اللذين قالوا بعدم وجود إطلاق في رفع ما لا يعلمون، قالوا بأن رفع ما لا يعلمون محتفٌ بحكم عقلي ضروري وبما أنه محتفٌ بهذا لم ينعقد ظهوره في الإطلاق بحيث يشمل ما قبل الفحص، بمعنى أنه عندنا حكم عقلي وهو وجوب الفحص عن أحكام المولى، العقل يقول بلزوم طاعة المولى ولزوم طاعة المولى تتوقف على الفحص عن أحكام المولى، يسعى العبد لتحصيلها، فالعقل يحكم بوجوب الفحص عن أحكام المولى، هذا الحكم العقلي محتفٌ بحديث الرفع، وبما أنه محتف به لم ينعقد إطلاق في حديث الرفع بحيث يشمل ما قبل الفحص، هذا توضيح ما أفيد في المنع من الإطلاق في حديث الرفع في مقابل ما أفاده المحقق العراقي (قده) من تحقق الإطلاق في حديث الرفع.

فالنتيجة إلى هنا: عند هؤلاء يقولون إن حديث الرفع أساساً لا إطلاق فيه يشمل ما قبل الفحص.

هنا للشيخ الوحيد (حفظه الله) وقفة مع هذا الدليل، وهذه الوقفة تتوقف على بيان نقطة مهمة في الأحكام العقلية، بما أن الدليل مترتب على الحكم العقلي فيقول: نحن عندنا وقفة في بيان الأحكام العقلية.

وبيان ما أفاده (حفظه الله) يقول: بأن الأحكام العقلية أيضاً على نوعين، كما أنه هناك نوعان نظري وضروري أيضاً عندنا نوعان في الأحكام العقلية وهذه مهمة وينبغي الالتفات إليها ويستفاد منها في موارد أخرى:

النوع الأول: هو أحكام عقلية تنجيزية.

النوع الثاني: أحكام عقلية تعليقية.

ولا بد من التفريق بينهما بدقّة حتى لا يقع الخلط بينهما.

الحكم العقلي التنجيزي: هو الذي يكون قرينة حافّةً بالكلام تمنع المطلق من انعقاده في الإطلاق.

أما الحكم العقلي التعليقي: فلا يمنع من التمسك بالإطلاق، بل دعوى منعه عن الإطلاق محال؛ للزومها المحذور العقلي كما سيتضح.

توضيح هذا الكلام: نقول: حكم العقل كما ذكرنا على نحوين حكم عقلي تنجيزي مثال ذلك: حكم العقل بوجوب طاعة المولى، العقل يقول: تجب طاعة المولى، هذا الحكم العقلي تنجيزي وليس معلقاً على شيء، لو عُلّق هذا الحكم على شيء لما صح أساساً، يعني العقل عندما قال: تجب طاعة المولى، لا يمكن أن نقول: إلا إذا رخّص المولى في ذلك، يعني لا نجعله معلق على هذا الأمر، لا نقول: العقل يحكم بوجوب طاعة المولى إلا إذا رخّص المولى، المولى لا يرخّص في طاعته، يعني تجب الطاعة إلا في هذا المورد لا تجب طاعة المولى، المولى لا يرخّص بذلك، إلا أن يرفع موضوع الطاعة، رفع موضوع الطاعة شيء التعليق أو التقييد أو التخصيص شيء آخر، عندما يقول العقل: تجب طاعة المولى، المولى لا يقول: إلا في الشيء الفلاني لا تطعني، ولكن لو رفع موضوع الطاعة يرتفع الحكم العقلي بارتفاعه، المهم مثل هذا حكم عقلي تنجيزي.

عندنا حكم عقلي تعليقي وليس تنجيزياً مثلما نحن فيه، العقل يحكم بوجوب الفحص عن أحكام المولى ولكن هنا يكون معلقاً، إلا إذا رخّص الشارع في ذلك، إذا رخّص الشارع في ذلك وقال: لا يجب عليك الفحص، هنا لا محذور فيه، يمكن أن يقول العقل يجب الفحص عن أحكام المولى، ولكن مع عدم ترخيص الشارع في ذلك، أما إذا رخّص الشارع في ذلك فلا يقول العقل: يلزم الفحص حتى بعد الترخيص.

وبعبارة أخرى: أن هذا الحكم العقلي -وهو وجوب الفحص عن أحكام المولى- إنما هو كان بلحاظ حفظ أغراض المولى؛ لأن العقل يحكم بطاعة المولى فإذا أنا لا أدري هل المولى عنده حكم هنا بالإلزام أو ليس له حكم بالإلزام؟ هل عنده غرض هنا أو ليس عنده غرض؟ من باب حفظ أغراض المولى نقول: يجب الفحص.

إذاً: لو المولى نفسه رخّص، قال: لا يجب الفحص في هذا المقام، هنا نقول: العقل لا يحكم بوجوب الفحص.

إذاً: هذا الحكم من النوع الثاني وهو حكم عقلي تعليقي، حكم لأجل وجوب حفظ أغراض المولى معلق على عدم ترخيص المولى، إذا كان معلقاً على عدم تلاخيص المولى هنا لا نقول: احتفَّ بحديث الرفع فمنع عن الإطلاق، وإنما نقول: إطلاق حديث الرفع تام وهو يكون مرخّصاً، فإذا الحكم العقلي من طرف العقل معلق على عدم ترخيص المولى (رفع ما لا يعلمون) مرخّصٌ، فإذا كان مرخّصاً لا يمكن أن يكون الحكم العقلي مانعاً منه، بل يلزم من ذلك الدور، يعني لو قلنا: بأن الحكم العقلي بوجوب الفحص عن أحكام المولى مانع من انعقاد الإطلاق في حديث الرفع -يعني مانع عن الترخيص- يلزم منه الدور.

بيان جهة الدور: أساساً حديث الرفع (رفع ما لا يعلمون) في حد نفسه من حيث اللفظ مطلق وإطلاقه تام، والكلام الآن، تقول: بأنه هل أن حديث الرفع يشمل بإطلاقه الشبهة الحكمية قبل الفحص أو لا؟ هذا الإطلاق عند القائل بعدم انعقاد الإطلاق يكون الإطلاق متوقف على عدم مانعية حكم العقل، إذا منع حكم العقل عن الإطلاق يمتنع الإطلاق، فإذاً الإطلاق يتوقف على عدم مانعية حكم العقل، وحكم العقل بما أنه حكم تعليقي وليس حكماً تنجيزياً فهو يتوقف على عدم الإطلاق، إذا وُجد الإطلاق انتفى حكم العقل؛ لأن حكم العقل معلق على عدم الترخيص والترخيص مأخوذ من الإطلاق في حديث الرفع، فإذا تم الإطلاق في حديث الرفع هنا يرتفع حكم العقل بوجوب الفحص، يعني ترتفع مانعيته، إذاً: لما نريد أن نمنع من الإطلاق من أجل وجود الدليل العقلي سنقول: بأن الإطلاق ممتع لوجود المانع وهو الحكم العقلي بلزوم الترخيص، ومانعية الحكم العقلي بلزوم الترخيص عن انعقاد الإطلاق متوقفة على عدم الترخيص المستفاد من الإطلاق، إذاً: الإطلاق يتوقف على عدم وجود الدليل العقلي والدليل العقلي يتوقف على عدم وجود الإطلاق، فيلزم منه الدور.

فالنتيجة إذاً: حاصل إشكال الشيخ الوحيد (حفظه الله) على هذا الوجه: يقول: بأن الحكم العقلي الذي يمنع من التمسك بالإطلاق هو الحكم العقلي التنجيزي، هذا الذي يكون بمثابة المخصص المتصل، يمنع من انعقاد الكلام في الإطلاق أو في العموم، وأما الحكم العقلي التعليقي فهو لا يحتف بالكلام بحيث يمنع من إطلاقه، بل يلزم من ذلك الدور، وما نحن فيه حكم عقلي تعليقي وليس تنجيزياً، العقل يحكم بوجوب الفحص عن أحكام المولى إذا لم يوجد المرخّص، إن لم يكن هناك مرخّص، أما مع وجود الترخيص فلا يحكم العقل بلزوم الفحص، والمرخص موجود وهو الإطلاق فلا يصلح أن يكون مانعاً من هذا الإطلاق، هذا حاصل إشكال الشيخ الوحيد (حفظه الله) على القول.

ثم أفاد بياناً آخراً لأجل عدم انعقاد الإطلاق غير هذا البيان وهذا إن شاء الله يأتي توضيحه فيما بعد.