الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/12/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ العلم الإجمالي في التدريجيات

تبين مما تقدم أنَّ ما استُدل به على عدم المنجزية غير تام، والظاهر من كلمات الأعلام هو الاتفاق على أنَّ العلم الإجمالي إذا تعلق بتكليف فعلي على تقدير وليس فعلياً على تقدير آخر فإنه لا يؤثر في منجزية التكليف، غاية الأمر إنهم يختلفون في توجيه ذلك، فالمحقق الخراساني قده علله بأنَّ العلم الإجمالي في هذا المقام ليس علماً بتكليف فعلي على كل تقدير، ويشترط في منجزية العلم الإجمالي أن يكون كذلك.

وعلله الشيخ الأنصاري قده بجريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض فلا يكون منجِّزاً، لأنَّ التنجيز من نتائج تعارض الأصول في الأطراف، فإذا جرى في أحدهما بلا معارض سقط العلم الإجمالي عن التنجيز، وأما وجه جريان الأصل في أحد الطرفين فلعدم التعارض بين الأصلين من جهة اختلاف الزمان كما تقدم.

وأما المحقق النائيني قده فقد وافق الشيخ الأنصاري في طرحه، وذكر بأنَّ ذلك هو مقتضى الصناعة العلمية، وأما المحقق العراقي قده فلا صراحة في كلامه، ولكن لا بد أن يُعلله بأنَّ العلم في المقام لا يكون منجِّزاً لمعلومه على كل تقدير.

ومقتضى عدم المنجزية هو جواز إجراء الأصل في الطرفين الحالي والاستقبالي، فيقال في مثال الحائض الناسية إنّ لها أن تدخل المسجد في الأيام الخمسة الأولى وذلك بإجراء الأصل للشك في التكليف، كما يمكنها ذلك في الأيام الخمسة الأخيرة لذات السبب، نعم بعد حصول الأمرين يحصل لها القطع بمخالفة الواقع إما في الواقعة الأولى وإما في الواقعة الثانية وهو غير ضائر لأنَّ العلم بالمخالفة في زمان سابق لا يمنع من جريان الأصل في ظرفه، إذ لا دليل على حرمة حصول العلم بمخالفة الواقع حتى يقال بوجوب الترك في أول الشهر وفي آخره مقدمة لعدم حصول العلم بالمخالفة فيما بعد.

لكن المحقق النائيني قده ذهب الى المنجزية بالرغم من اعترافه بأن مقتضى الصناعة عدمها، واستدل عليه باستقلال العقل بقبح الاقدام على ما يؤدي الى المخالفة وتفويت مراد المولى، لأنَّ المقام لا يقصُر عن المقدمات المفوتة التي يستقل العقل بلزوم حفظ القدرة فيها بالرغم من عدم تحقق الخطاب والملاك الآن، فيجب عقلاً حفظ الماء وعدم إراقته قبل الزوال بالرغم من عدم فعلية التكليف ولا الملاك ونحو ذلك من المقدمات المفوتة.

والظاهر من المحقق العراقي قده الرضا بهذا الدليل، وأنه تام لإثبات المنجزية، نعم اعترض على المحقق النائيني بأنه مع تسليم حكم العقل المذكور كيف يكون مقتضى الصناعة جريان الأصل في الطرفين؟!

وعلى كل حال يمكن توضيح هذا الدليل - بحسب ما يُفهم من كلمات المحقق العراقي - بدعوى أنَّ المنجِّز للطرفين ليس هو العلم الإجمالي بتكليف مردد بين أن يكون فعلياً وبين أن لا يكون كذلك، بل يمكن تصوير علم إجمالي آخر بتكليف فعلي على كل تقدير، وذلك لأنَّ العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب فوات مراد المولى، ويستقل بوجوب حفظ القدرة على أداء مطلوبه قبل مجيء ظرفه كما هو المفروض، ومن الواضح أنَّ وجوب حفظ القدرة بالنسبة الى التكليف الاستقبالي وجوب فعلي، وبذلك يحصل علم إجمالي بوجوب فعلي متعلق إما بالاجتناب عن دخول المساجد على تقدير الحيض فعلاً أو بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الاستقبالي على تقدير كونه في الزمان المتأخر، وهذا علم إجمالي بالجامع بين تكليفٍ فعلي في كل منهما، فيثبت التنجيز.

ويلاحظ عليه: بأنَّ العقل إنما يحكم بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف إذا كان التكليف منجَّزاً في مرتبة سابقة حتى يدرك قبح مخالفته واستحقاب العقاب عليها، وأما إذا فرضنا أنَّ ذلك التكليف لم يكن منجَّزاً على المكلف فلا يحكم العقل بوجوب حفظ القدرة من ناحيته، فلا بد من فرض وجود منجِّز للتكليف الاستقبالي حتى يحكم العقل الآن بوجوب حفظ القدرة على إمتثاله في ظرفه، ولا يوجد ما يكون منجِّزاً للتكليف الاستقبالي الآن إلا العلم الإجمالي المفروض في المقام، فإن كان منجِّزاً له فلا حاجة لإثبات المنجزية الى تصوير علم إجمالي آخر، وإن لم يكن منجِّزاً لم يحكم العقل بوجوب حفظ القدرة على إمتثاله.

هذا مضافاً الى أنَّ محل الكلام هو ما إذا كان الزمان المتأخر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً، فالملاك ليس فعلياً الآن، وفي مثله لا يحكم العقل بوجوب حفظ القدرة على الامتثال، نعم إذا كان الزمان دخيلاً في الخطاب فقط دون الملاك بحيث يكون الملاك فعلياً الآن حكم العقل بوجوب حفظ القدرة.

وعلى كل حال فالصحيح إنَّ العلم الإجمالي في المقام منجِّز للتكليف لأنه لا يُفرق في المنجزية التي يدركها العقل بين التكليف الفعلي وبين التكليف الاستقبالي.

ومنه يظهر الحال في النحو الثاني وهو ما إذا كان الزمان المتأخر قيداً في التكليف خطاباً لا ملاكاً، فيثبت فيه التنجيز بالأولوية لفعلية الملاك، نعم إذا لم نقل بالمنجزية في النحو الأول فينفتح البحث على المنجزية في النحو الثاني على أساس فعلية الملاك وتحققه، والمنسوب الى الشيخ الأنصاري قده القول بالمنجزية في هذا النحو، والصحيح هو المنجزية هنا أيضاً لأنَّ العقل يستقل بقبح الإقدام على ما يؤدي الى تفويت الملاك والغرض المُلزم على المولى، فيجب الاحتياط في الطرفين لتحصيله.

والحاصل أنَّ العلم بالملاك التام الفعلي كالعلم بالتكليف الفعلي، والترخيص في تفويت الملاك التام المُلزم كالترخيص في تفويت التكليف الفعلي، والمفروض أنَّ عدم التكليف ليس لعدم المقتضي بل من جهة المانع وهو استحالة الواجب المعلق، ومن الواضح أنَّ عدم التكليف الفعلي لمانع لا يرفع قبح الترخيص في تفويت الملاك المُلزم، ومنه يظهر أنه لا فرق بين النحو الأول والنحو الثاني في التنجيز.

نعم إثبات فعلية الملاك ووجوده أمر آخر، بل قد يكون متعذراً إذ لا طريق له إلا من خلال التكليف نفسه، وإنما الكلام هنا على فرض إحراز وجوده.

هذا تمام الكلام في العلم الإجمالي بالتدريجيات.

ثم يقع الكلام في بحث الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي.