45/12/02
الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ العلم الإجمالي في التدريجيات
كان الكلام في النحو الأول وهو ما إذا كان الزمان المتأخر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً، فالتكليف على أحد التقديرين ليس فعلياً لا خطاباً ولا ملاكاً، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنَّ التكليف فعلي على تقدير وليس فعلياً على تقدير آخر، واستُدل على عدم منجزية العلم الإجمالي فيه بوجوه:
الأول أنه يشترط في منجزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بتكليف فعلي على كل تقدير وهذا النحو ليس كذلك، فإذا لم يكن واجداً للشرط فلا يكون منجِّزاً.
وأجيب عنه بإنكار ذلك، وأنه يكفي في المنجزية أن يكون فعلياً على كل تقدير ولو في عمود الزمان بأن يكون التكليف على أحد التقديرين فعلي الآن، ويكون على التقدير الآخر فعلياً في الزمان المستقبل.
والوجه في ذلك هو أنَّ المنجزية حكم عقلي بلزوم الطاعة واستحقاق العقاب على المخالفة، وموضوعها التكليف ولا يعتبر فيه أن يكون ثابتاً وفعلياً الآن، بل يكفي فيه ثبوت التكليف ولو كان استقبالياً، فيدرك العقل قبح مخالفته ووجوب إطاعته، وعليه لا فرق في إدراك العقل قبح المخالفة ودخول التكليف في دائرة حق الطاعة بين تردد التكليف بين فردين طوليين وبين فردين عرضيين، وهذا معناه إنَّ حكم العقل بالقبح فعليٌ وإن كانت المخالفة القبيحة في المستقبل، ويثبت بذلك أنَّ الحكم الاستقبالي قابل لأن يحكم العقل بمنجزيته كما هو الحال في الحكم الفعلي، وعليه إن كان التكليف فعلياً الآن على أحد التقديرين وفعلياً غداً على التقدير الآخر تنجَّز بالعلم الإجمالي.
ونفس الكلام يقال في العلم التفصيلي بالتكليف فإذا علم المكلف تفصيلاً بثبوت تكليف في المستقبل فالعقل يدرك قبح مخالفته ودخوله في دائرة حق الطاعة، ولا نقصد بالمنجزية إلا ذلك.
والتعليق عليه - أي على أصل الوجه وعلى وجوابه -:
الظاهر أنَّ أصل الوجه يختلف عن الجواب فيما هو المعتبر في منجزية العلم الإجمالي، فكأن الوجه يرى أنَّ الحكم على أحد التقديرين لما لم يكن فعلياً فلا مجال لثبوت المنجزية له الآن، إذ لا معنى لأن يكون التكليف بوجوب الصوم في الشهر القادم منجَّزاً الآن، فإنَّ التنجيز كسائر الأحكام الأخرى لا تثبت قبل موضوعها، ولذا لا يكون التكليف غير الفعلي قابلاً للتنجيز، هذا بلحاظ أصل الوجه.
وأما الجواب فكأنه يرى أنَّ التنجيز العقلي ليس حكماً وإلزاماً شرعياً حتى يقال أنه لا يتقدم على موضوعه، وإنما هو عبارة عن إدراك العقل قبح المخالفة، ومن الواضح أنَّ القبح الذي يُدركه العقل ثابت من البداية حتى بالنسبة الى التكليف الاستقبالي فهو يقبل التنجيز الآن، أي أنَّ العقل يحكم بقبح مخالفته بالفعل وإن كان التكليف ومخالفته تقع متأخرة زماناً، وعليه فالعلم الإجمالي في المقام علم بتكليف فعلي قابل للتنجيز على كل تقدير.
الوجه الثاني ما نُسب الى الشيخ الأنصاري قده وحاصله:
إنَّ من شروط منجزية العلم الإجمالي أن يكون كل طرف من أطرافه مورداً لجريان الأصل المؤمِّن حتى يقع التعارض بينهما، لعدم إمكان جريانهما معاً لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية، وعدم إمكان جريانها في البعض دون البعض لأنه ترجيح بلا مرجح، فتتساقط الأصول في الأطراف وتبقى بلا مؤمِّن فتتنجز، وأما إذا كان بعض الأطراف ليس مورداً للأصل المؤمِّن فلا تعارض، لجريان الأصل في الأطراف الأخرى بلا معارض فلا منجزية حينئذٍ.
وهذا الشرط غير متحقق في محل الكلام لعدم تعارض الأصول في الطرفين لأنَّ ظرف جريان الأصل في أحدهما غير ظرف جريانه في الآخر فلا يتحد زمانهما حتى يتحقق التعارض، ففي مثال المرأة الحائض لا يجري الأصل النافي للتكليف الاستقبالي الآن لأنه إنما يجري عند مجيء ذلك الزمان، لأنَّ موضوعه الشك وليس متحققاً الآن بل فيما بعد، فيجري الأصل في أول الشهر بلا معارض.
أقول: إنَّ هذا الوجه بناءً على مسلك الاقتضاء - الذي يعني أنَّ المنجزية من آثار تعارض الأصول - يكون واضحاً، وأما على مسلك العلية فيمكن أن يقال بأنَّ شرط المنجزية هو أن يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز معلومه بالفعل على كل تقدير، وفي المقام التكليف المتأخر لا يصح أن يكون منجَّزاً الآن، لأنَّ تنجُّز كل تكليف فرع ثبوته وفعليته، والتكليف المتأخر ليس ثابتاً وفعلياً الآن، فلا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً.
والجواب عنه:
أما على مسلك العلية فلأنَّ العلم في المقام يصلح لتنجيز معلومه على كل تقدير لما تقدم من أنَّ العلم الإجمالي يصلح أن يُنجِّز التكليف ولو كان استقبالياً، ولا يتوقف تنجيزه له بنظر العقل على كونه فعلياً وثابتاً الآن، وعليه ينبغي أن يكون شرط المنجزية هو أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير ولو في عمود الزمان، وهذا متحقق في محل الكلام.
وأما على مسلك الاقتضاء فالصحيح هو أنَّ الأصل النافي للتكليف الفعلي معارض بالأصل النافي للتكليف الاستقبالي بلحاظ زمانه، إذ ليس التعارض بين الأصول من قبيل التضاد بين أمرين حتى يُشترط في حصوله وحدة الظرف والزمان، بل التعارض يرجع الى استحالة شمول دليل الأصل لكلا الطرفين لاستلزام ذلك الترخيص في المخالفة القطعية، أو استلزام شموله لأحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح، فيُبتلى دليل الأصل المؤمِّن بالتعارض الداخلي، وهذا يوجب الإجمال فلا يشمل شيئاً من الطرفين.
والنكتة في هذا الجواب هي قبح الترخيص في المخالفة القطعية، وعليه نقول:
إنه لا فرق في قبح هذه المخالفة بين أن تكون دفعية التحقق أو تكون تدريجية التحقق، وعليه يلزم من شمول دليل الأصل للطرفين في المقام الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فيقع التعارض بين شموله لهذا لطرف أو شموله لذاك الطرف، وهذا يوجب منجزية العلم الإجمالي.
والحاصل: إنَّ التعارض بين الأصلين يتحقق إذا استحال شمول دليل الأصل لكلا الطرفين، واستحالة الشمول إنما هي باعتبار أنه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، وهذا متحقق في التكليفين الطوليين كما هو متحقق في العرضيين، لأنَّ الترخيص في أحد الطرفين مع الترخيص في الآخر يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية حتى إذا كان الآخر ليس فعلياً الآن.